السودان .. الإقامة والمال مقابل الحوار
بقلم: طارق الشيخ
خبر مقتضب جرى تداوله، أخيراً، في الصحف والمواقع الإلكترونية السودانية، وموجزه أن حركة العدل والمساواة (في دارفور)، جناح منصور أرباب، علقت مشاركتها في أعمال الحوار الوطني، وأنها، وهي حركة لا ثقل لها، وسلخت عن حركة العدل والمساوة المعارضة لحكومة الخرطوم في إقليم دارفور، أعلنت غضبتها من الحكومة والحوار الوطني الذي أكمل عامه الثاني، وحمّلتها “مسؤولية سلامة أعضاء وفدها”. وحسب مصادر الخبر، فإن قرار الحركة هذا يعود “إلى قرار الأمانة العامة للحوار الوطني الذي أنهى إقامتها في فندق البصائر، بعدما بعثت إلى إدارة الفندق خطاباً يطلب إنهاء إقامة الوفد؟. وأصدر رئيس الحركة، الفريق أول مهندس منصور أرباب يونس، بياناً، أوضح أن تعليق الحركة مشاركتها في الحوار الوطني ارتبط “بإنهاء الإقامة في المكان المخصص للوفد”، وأعلن التزام الحركة بمبدأ الحوار، وحرصها على المشاركة فيه، متى ما توفرت الإرادة السياسية والبيئة المناسبة لإجراء حوار شفاف، يعالج جذور المشكل السوداني”.
وليست هذه الخطوة التي يمكن إدراجها في باب طرائف الحوار الوطني السوداني الذي أعلن عنه في الخرطوم قبل عامين لم تكن الوحيدة، ولن تكون الأخيرة. إذ هدد أعضاء فيه، في وقت سابق، بوقف مشاركتهم، ما لم تصرف لهم حوافزهم المالية، بل باتت مسألة هذه الحوافز قضية يتداولها المتحاورون، وتنقل تفاصيلها الصحف ضمن ما تنقله من أخبار الحوار. والثابت أن حشد الوفود من الداخل ومن الشتات السوداني، لتضخيم حجم المشاركة في الحوار الوطني حمّل الدولة فاتورة تزيد كل يوم. ويبدو أن من خطط للحوار الوطني، واستضاف جماعات الشتات، فات عليه أن الفاتورة تتضخم بمرور الوقت، مع إطالة أمد الحوار المفتوح. والواضح أن الزيادة الكبيرة في هذه الفاتورة، مع العجز المخيف في موازنة الدولة، باتت أمراً يزعج وزارة المالية والحكومة في الخرطوم.
وكانت محادثات السلام في دارفور، ومنذ حلقتها الأولى في أبوجا في نيجيريا وصولاً إلى الدوحة، قد تم فيها ضخ مال كثير لاستمالة حركات التمرد الثلاث وقتها. ولكن، ما حدث أن المال الكثير الذي سال لاستمالة بعض الأطراف حرّك مطامع مجموعات انتهازية، سرعان ما تكاثرت وتحزبت وتقسمت بين المنافي والدول، وأصبحت المحادثات واستمرارها بالنسبة لها فناً لاستدرار المال. ويقول المثل إن المال السائب يعلم السرقة. وعليه، أصبحت قضية دارفور وحركاتها المتكاثرة مثار تندر السودانيين وسخريتهم، إلى درجة أن التقاء مطامع ثلة من الأصدقاء، وإعلانهم عن تشكيل مجموعة منشقة عن هذا الفصيل أو ذاك، يكفيان لإسالة لعاب الحكومة لتقديم المال، أملا في تفتيت حركات دارفور. وقد استمعت إلى حكايا كثيرة من مشاركين سابقين في محادثات دارفور، وعادوا إلى الخرطوم منشقين عن حركاتهم، وأصبحوا مسؤولين كبارا ووزراء في الحكومات الإقليمية في دارفور، أو جزءاً من منظومة رجال الأعمال الجدد، الظاهرة المزدهرة في السودان، أو أن طموحات بعضهم لا تتعدّى أكثر من بناء مسكن الأحلام وسط الخرطوم. والثابت أن عشرات ممن استدرجتهم الحكومة من الشتات والمنافي، بوصفهم خبراء في شؤون دارفور، كافأتهم بالمال، في مقابل قدرتهم على استمالة قياديين وأعضاء في حركات دارفور لتفتيتها. ولك أن تتخيل أن كل مفاوض من طرف الحكومة، وهذا مما عايشته في مفاوضات الدوحة، يتلقى يومياً ما لايقل عن 300 يورو كل صباح. وتذهب هذه الوجوه ليأتي غيرها من الخرطوم فيما يشبه تبادل المنافع، ومع تمدّد المفاوضات تتحوّل هذه النثريات إلى ثروة. واستمعت إلى إفادات أصدقاء من دارفور أنهم حققوا أحلام عمرهم من محادثات أبوجا، مما كانوا يتلقونه، باعتبارهم أعضاء في الوفد الحكومي. عندما تسمع ذلك كله وغيره، تدرك معنى تشظي الوفود الدارفورية المفاوضة والحركات التي
يبدو أن أغلبها، وخصوصاً الشظايا التي ولدتها الحكومة، أوجدتها المغريات المادية. وقد وجه صحافيون الاتهام مغلفاً بهيئة سؤال إلى وزير خارجية بوركينا فاسو الممثل الأممي في مفاوضات دارفور في الدوحة، جبريل باسولي، قبل سنوات، إن أطرافاً دولية من قوات أو مفاوضين لا يبذلون الجهد الكافي لحلحلة قضية دارفور، ربما للاحتفاظ بالمكاسب المالية التي تعود عليهم من استمرار انشغالهم فيها. وجاء رده هادئاً، بطبعه الهادئ ينفي التهمة عن الأمميين جميعا. ولكن، لا يخلو بعض ما تقدمه الحكومة السودانية من مبرّرات بشأن رفضها قبول دخول المساعدات أن جزءاً من المال المقدم يذهب مكافآت مالية للأمميين. وهذه ملاحظة تواجه مهام الأمم المتحدة في بقاع كثيرة، ويشمل ذلك أيضا ما تقدمه الجهات المانحة.
وبالعودة إلى غضبة المال التي أصابت المحاورين الدافوريين، أزعم أن المال وتقديمه لتفتيت الحركات الدارفورية ولّد جماعات هلامية تكاثرت كالفطر، وباتت هي نفسها أحد أكبر معوقات حل القضية الدارفورية. بل أغرى هذا الوضع المنفلت أطرافاً خارجية، أصبحت تمسك بيدها أوراقا دارفورية مهمة، بسبب إغراء المال. ويلاحظ، هنا، أن الرئيس التشادي، إدريس دبي، كان قد اصطحب معه، لدى حضوره افتتاح الحوار الوطني، بعضا من هذا الطيف الدارفوري، ودفع به للمشاركة في الحوار الوطني السوداني، عربون صداقة لحكومة الخرطوم. ولا يخفى أيضا أن مجموعة من أبناء دارفور قدمت إلى الدوحة لمحادثات السلام، وحملت معها تسمية لافتة “مجموعة سرت” (الليبية).
إغداق المال ظاهرة أدخلتها حكومة الخرطوم إلى الحياة السياسية من الباب الواسع، وهي وسيلة تمت تجربتها من قبل، وفي عصور مختلفة من الحكومات المتعاقبة على كثيرين من ساسة جنوب السودان، بغرض استمالتهم إلى جانبها، لكن براعة حكومة الإنقاذ مشهود لها في هذا الجانب، فاستمالة الخارجين عن الأحزاب الكبرى بالمال باتت سياسة ثابتة. فتكاثرت الأحزاب السياسية، والشخصيات المنفلتة من الأحزاب الكبرى، لتصبح ظاهرة وسط الطيف السياسي في السودان، أطلق عليهم الشارع السوداني، سخرية، أحزاب الفكة. وقد أعملت الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم سيف المال لشراء شخصيات الفكّة، وتفتيت الأحزاب المعارضة، بالمال. ثم أصبح هذا التكاثر الأميبي للأحزاب والأفراد الذين جذبهم المال، فيما بعد، جزءاً من الإشكالية السياسية المعقدة التي تواجه حلحلة الأزمة السياسية التي يغوص فيها السودان بكامله.
المفارقة أن التقارير الدولية التي صنفت السودان، ودولاً غيره، تحتل قمة تصنيف الفساد، ربطت، وبشكل وثيق، ظاهرة الفساد بالفقر والحاجة للمال. وفي الحالة السودانية، لا يحتاج الأمر إلى تعليق.
المصدر: العربي الجديد 26/2/2016