أسامة منزلجي: دائماً هناك… في وحدته بلد مزدحم
بقلم: زياد عبد الله
صغيراً، كان يقلّب كتب أشقائه فتأسره الأحرف الإنكليزيّة. الطفل المنطوي الذي كان يخاف الآخرين، هو اليوم من أبرز ناقلي الأدب العالمي إلى الضاد. هذا المترجم السوري صار الكتاب وطنه، ورفاقه كثيرون من نيكوس كازانتزاكيس إلى جان جينيه.
زياد عبدالله
ينحدر من طبقة اجتماعية يسمّيها «البورجوازية الرقيقة»، تتألّف من أب وأم أمّيّين تقريباً «لأنَّ الأب يُحسن القراءة والكتابة»، ومجتمع أساسه الالتزام الديني «إنّه الخوف من كل شيء تقريباً، وتجنُّب أي نوع من أنواع المغامرة أو المبادرة أو المحاولة». لكن نبش حياة المترجم السوري أسامة منزلجي، لن يفضي بك إلى امرأة أو قصص غرامية، بل سيحيلك على شيء من الرهبنة، فهو لم يتزوج، ولم يواجه العالم إلا بحساسيّة مفرطة، وإنصات كامل لكل ما يصرخ به.
ستة إخوة، وميتات مبكرة خطفت منه أخاً وأختين كان يقلِّب كتبهم المدرسية الإنكليزيّة فتأسره أحرفها «كان يدهشني حرف M وأجده يشبه القنطرة، بينما F له شكل وردة. كان فضولي يقتلني لفك رموز هذه الأحرف التي كانت تبدو كألغاز». ومع دراسته الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق ـــــ رغم معارضة أهله رغبةً منهم بأن يدرس في اللاذقية أي شيء لا يكلّفهم عناء مصروف الدراسة خارجها ـــــ وجد أسامة في الترجمة مجاله الحيوي، مساحة تنفّسه وحياته ورهانه. وأمام ما كان يقرأه من روايات وأعمال، اقتنع تماماً بأنّه لن يؤلف حرفاً ما دام هناك كتّاب على هذا القدر من الجنون والإبداع، «يقولون ما أريد قوله أفضل مما سأفعل».
الإرهاب كان أساس التعامل مع أسامة الطفل «أذكر أنّني كنتُ في صِغري منطوياً انطواءً أرى الآن بوضوح أنّه كان مَرَضياً، أساسه الخوف من الآخرين، لأنَّ الشرّ موجود «هناك». وكانت مجرد فكرة الخروج من المنزل ترعبني، وكان كابوساً حقيقياً صنعه أبواي».
زيارة أسامة ستضعك في قلب مدينة اللاذقية مباشرة، في حي «الصليبة» قرب «المحكمة القديمة» المكان المتعارف عليه بهذا الاسم على رغم انتقالها منذ أكثر من عشرين سنة. ستمر على صالون «بله» لحلاقة المثقفين ـــــ رؤوس مثقفين كثيرين مرّت من هنا ـــــ ويقول لك أحمد بله «شو طالع لعند الاستاذ؟». ستصعد بضع درجات، تقرع الجرس لتنير الأضواء بدل ذلك، فمفتاح الضوء قرب مفتاح الجرس، و«لن تستطيع الادعاء/ أنك ناديته من الشارع/ أو اتصلت به هاتفياً ولم يجب أحد/ لأنه دائماً هناك/ يفعل ما يفعله كل يوم وهو ينتظر» كما كتب عنه الشاعر منذر مصري في قصيدة «هو من يقرع جرسه».
مترجم «ربيع أسود» لهنري ميلر بيته حديقةٌ كتب يانعة. إصدارات بالإنكليزية تنتظر أن تصير بالعربية، وأطياف تحوم في غرفته التي قد يمضي فيها أشهراً لا يغادرها، لا بل إنه قد يضيع إن فعل وقد غافلته اللاذقية وتوسّعت وهو غارق في كتبه. هنري ميلر لا يفارقه وقد نقله كاملاً إلى العربية. ميلر «الثرثار» كما يصفه جان جينيه، الذي ترجم له أسامة «شعائر الجنازة» فوضعنا مباشرة أمام ذاك الذي يأكل قطة فتنبح عليه كل الكلاب.
أسامة منزلجي يعيدك إلى تينسي وليامز وهو لا يجد إلا شخصيّاته ليحادثها في نهاية مذكّراته التي ترجمهاً. وإن كنتَ من المهووسين بالأدب، فإنك ستسمع المسيح على صليبه يصرخ: «أنا لم أخن» كما فعل في كتاب «الإغواء الأخير للمسيح» لنيكوس كازنتزاكيس، وقد جعله أسامة ينطق ذلك بالعربيّة.
سيستقبلك بقامته الممشوقة، فهو مواظب على رياضته الصباحية في غرفته، سيحضر الشاي بالعطرة، ويسألني بسعادة أن أدخّن (هو لا يدخن)، فأفعل وأجهز على العلبة في غمار حديث عن الأدب لا ينتهي إلا لتحضر الموسيقى والسينما. هو متذوق موسيقي من الطراز الرفيع… هكذا يستعيد خلال الجلسة كل ألبومات الـ«توب تن» في إذاعة «بي بي سي وورلد» من عام 1969 حتى 2003 : «بعد ذلك توقّفت عن متابعته». لكنّه ما زال على رأيه في أنّ «لد زبلن» أعظم فرقة روك على الإطلاق، مع حبّه الكبير لـ«فليتوود ماك» لكن حين كان بيتر غرين في الفرقة، كذلك الأمر مع «بينك فلويد» وروجر ووترز.
حال ألفريد هيتشكوك في السينما كحال «ليد زبلن» في الموسيقى بالنسبة إليه، لكنّه يحب أيضاً أفلام برغمان وأنطونيوني. «السينما مليئة الآن بالدم والعنف» يضيف، ويعيدنا إلى الموسيقى مجدداً ليقول: «أحب الكلاسيك كثيراً، أحب موسيقى الباروك… باخ وهاندل».
يقول أسامة إنّه نشأ على الإدانة الدائمة لحساسيته وعقلانيّته، مع عبارة متكرّرة «لماذا لا تكون مثل فلان»، «ولو لم أكنْ عنيداً ذا روح مُنتقِمة بهدوء لما حقّقت أي شيء ـــــ هذا إنْ كنتُ قد حقّقت شيئاً فعلاً».
الكتب لم تكن حاضرة أبداً في عائلته، وكان الموقف من الثقافة لا يتجاوز تلقّي التعليم في المدارس. وما عدا ذلك فهو مضيعة للوقت ومجرّد كسل. وكان يمكن تقبُّل الثقافة إذا كانت تجلب المال وتجعله «مثل فلان»، «عرفت منذ صِغري أنَّ الكتاب هو ملاذي، وهكذا جعلته رغم أنفهم جميعاً».
«ما من كتاب لا يترجم» هذا هو إيمان أسامة الراسخ، ولعلّ ما ترجمه ولم يلق ناشراً، يضاهي ما نشره «بطلوع الروح»، وقد صدر له ثلاثون كتاباً كانت إلى حد بعيد مصدر دخله الوحيد. أما معاناته لنشر هذه الأعمال، فكانت ثمناً دفعه على اختياراته التي سيكون أقل توصيف لها هو: الإشكالية.
لدى أسامة منزلجي مخطوطات تنتظر ناشراً: أنجز ترجمة مذكرات تيري ايغلتون «حارس البوابة»، و«كوزموبوليس» دون دليلو، و«العبقرية والشبق» لنورمان ميلر، وكتاب هنري ميلر عن دي اتش لورنس وثلاث روايات لبول أوستر وغيرها الكثير.
بعض تلك الكتب ما زال في الدفاتر المدرسية التي كان يترجم عليها بقلم رصاص، وأخرى نقلها إلى الكومبيوتر الذي ما إن بدأ باستخدامه منذ عشر سنوات حتى غابت أقلام ماركة «النسر»، وظلّ يبحر في الإنترنت حتى خرجت عليه فاتورة لم تشهد سوريا مثلها (10 آلاف ليرة في شهر واحد عام 2003). ومع تلك التحديثات على غرفته، استقرّت كتبه في رفوف مكتبة، بعدما كان يضعها مكدسةً فوق بعضها بعضاً بطريقة عجيبة على طاولة مترامية الأطراف. أكداس من الكتب تكاد تلامس السقف، وحالما تسأله عن أحدها يخرجه بما يشبه السحر ويعيدها كما كانت. سيصرخ بك ما كتبه رفائيل ألبرتي عن بيكاسو «أنت في وحدتك بلد مزدحم»، حين تضبطه متلبّساً يتابع كل ما يعصف بالعالم… ولا يفوّت النشرة الجوية التي تجعله يطمئن إلى أصدقاء سافروا إلى بلدان بعيدة. سيطمئن إلى درجة الحرارة بوصفها ذكريات، ويتأكد من أنّ بعضاً من مطر اللاذقية الغزير قد يصلهم.
المصدر: جريدة الاخبار