إعلام المعارضة .. بديل أم رديف
بقلم: رامي نصر الله
الإعلام، أو تقديم الأخبار والمعلومات الدَّقيقة الصَّادقة للناس، والحقائق التي تساعدهم على إدراك ما يجري حولهم وتكوين آراء صائبة في كل ما يهمهم من أمور، أو بمعنى آخر الوقوف على الحدث أو وعي وجوده من جوانبه كافة، ليغدو تجلياً للحدث أو إعادة خلقه ورسمه. من هنا يستمد الإعلام أهميَّته بمقدار أهميَّة الحدث المنقول عبره (أو ينوب عنه)، وعليه بات من أولى اهتمامات العصر، كما ارتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسات الدّول وخططها، فغدت السَّيطرة على الإعلام كالسَّيطرة على الحدث، وصناعته في عصر الصُّورة صناعةٌ للحدث. وأصبح المصدر الرَّئيسي للغالبية في تشكيل الثَّقافة وتكوين الرأي، وربطته الشَّركات الاحتكارية العالمية بها في محاولةٍ منها لإعادة صياغة الوعي السياسي للفرد بما يتناسب مع مساراتها الاستراتيجيَّة، حتَّى غدا الإعلام فيضاناً للسلع ومنبراً للتشجيع على الاستهلاك، متوجِّهاً للعاطفة لا العقل، بغاية توجيه الغرائز والمشاعر بعد تغييب الحس النَّقدي عن المشهد. وبات أداةً لخدمتها، فمارس (مردوخ) مثلاً بمصالحه الإعلامية تأثيراً سياسيَّاً عبر (247) رئيس تحرير لتأييد الغزو الأميركي للعراق. وغدت المشكلات السياسيَّة متنكرةً بزيِّ مشكلاتٍ ثقافيَّةٍ، وبذلك تصبح غير قابلة للحل حسب تعبير غرامشي.
وبدوره لم يخرج إعلام النِّظام السُّوري عن السِّياسة الإعلاميَّة العالميَّة، حيث كان خطابه إبَّان الحرب الباردة خطاباً إعلاميَّاً إيديولوجيَّاً حزبيَّاً تعبويَّاً ذا لونٍ واحد أُسوةً بسيطرة الحزب الواحد، حاصراً الأخبار والمعلومات عبر وكالة أنبائه الرَّسمية (سانا)، جامعاً صحفييه في اتحادٍ لا يدخله إلا أعضاء حزبه، فنفى بذلك أي دورٍ للصِّحافة والإعلام خارج ترديد صدى خطابه العقائدي، وأوكَلَ رئاسة اتحاد الصَّحفيين لمذيع بيان انقلابه صابر فلحوط لمدة خمسةٍ وثلاثين عاماً، فبات إعلامه بمثابة امتدادٍ لتلاوة ذلك البيان.
ومع تبنيه خيار تحرير الاقتصاد دون تحرير الإعلام، بات المنبر نفسه يعمل على إقناعنا بصواب ذلك الخيار. كيف لا وهو المعتمد على التَّوجيه والتَّلقين دون ترك مساحةٍ للتَّفكير والتَّحليل وقراءة المتناقضات؟! وتابع كرديف لسياساته في حفظ التَّوازن الجَّديد للعلاقات محاكياً الإعلام العالمي وظاهراً بمظهر العلماني المنفتح والملتصق بشعبه، والمتفهم لاحتياجاته وتطلعاته في الحداثة، والمحارب للإرهاب والتَّطرف، تلك اللغة الرَّائجة في الغرب.
واستمرَّ في ذلك الخطاب إلى ما بعد اندلاع الثَّورة دون أي تغيير حقيقي، ناكراً ما يحصل من احتجاجاتٍ ضمن نهج سياسته في التَّعتيم، مظهراً تلك الاحتجاجات على أنها مجرد فبركات هنا وهناك تتنكَّر بالمطالب، وروَّجها على أنَّها تغطيةً للتطرف والسَّلفية والعمل الخارجي الموجَّه لخلخلة تماسك وصمود الشَّعب حول قيادته، ورغبته في التَّطوير والتَّحديث. رامياً إيَّاها بالفتنة والإرهاب التي اعتاد أن يقدِّم نفسه محارباً لهما حسب تفهمه لسياسات العالم وإعلامه، وبذلك استمرَّ إعلامه في السَّيطرة على خيوط اللعبة. ورغم تعرضه لهزَّاتٍ قويَّةٍ حول مصداقيته، فقد شكَّل مرجعاً لمتبني خطابه في صياغته للقصص وإنكاره لجرائم النِّظام وتبريره سياساته المتَّبعة وحديثه البعيد عن الواقع، مما أتاح لهم أرضيَّة مريحة ومُرضِية أمام أي تساؤل قد يطرحه العقل، وهو الَّذي امتهن تغييب العقل باستهزائه بأبسط مسلمات المنطق، ونشره لقصص تدعو للضَّحك أكثر منها للمحاكمة العقلية، كحبوب الهلوسة التي تؤدِّي بالأشخاص إلى قول حريَّة، و(سندويش) المخدِّرات التي تجمَّع وتظاهر لأجلها مئات الآلاف من أهل حماه.
ليتوضَّح أنَّ المطلوب هو ترويج السُّخرية والسَّطحيَّة، وتقبُّل اللَّامنطق والإقصاء ونشر العبثيَّة الفكريَّة وفوضى الصُّورة والخبر. وهكذا يغرق الجمهور في بحر الأخبار وتناقضاتها. الأمر الذي يجعل العقل ينغلق حينها عن التَّفكير بحجة تعقيد وتشابك الأمور فوق طاقة استيعابه. كما واصل تركيزه على قصص تقطيع الجُّثث والتَّمثيل بها وتصوير الدماء والأشلاء، دون أي رادع أخلاقي، وبطريقةٍ تتعارض مع المهنية الصِّحفية. فتحوَّلت شاشات إعلامه إلى شاشات حمراء، مروِّجةً للعنف والفوضى، فالتصقت تلك الصُّورة بذهن الغالبية بالتَّغيير الآتي والطارئ على البلاد الآمنة، مشوِّهاً بذلك أيَّة صورة حسنة للتغيير. الأمر الذي دفع الكثيرون إلى النّفور منه خوفاً وارتباكاً. وبذلك تجاوز النِّظام مطب الخطاب الإعلامي، ودفع بحمَلَة التَّغيير أنفسهم إلى التَّموضع في الصُّورة التي رسمها عنهم في الإعلام بالتَّرافق مع العنف الممارس ضدَّهم على الأرض.
بالمقابل برز إعلام المعارضة كبديل عن إعلام النِّظام واغترابه عن التَّغيير. فهل نجح في نقل التَّغيير ورسالته؟
توزَّع خطاب المعارضة على الوسائل الإعلاميَّة العربيَّة والعالميَّة وصفحات الإنترنت. فبدا واضحاً تأثر مروره عبر تلك الوسائل حسب مرجعيَّاتها ونهجها وتقنيتها.
وبذلك كان الخطاب الإعلامي التلفزيوني متأثراً بتوجُّه كل محطة وبقربها من إحدى التَّيارات المعارضة. فأخذت بعضها نهجاً مدنيَّاً وحواريَّاً أكثر من أخريات اتخذن من صراع الدِّيكة والمهاترة عنواناً للغتهم الحواريَّة، ومن ثمَّ بدأت تنحو باتجاه التَّطييف والدَّعوة للتَّسلح، مترافقةً مع التَّركيز على أخبار الانشقاق والفيديوهات المسربة الاستفزازية، وتعظيم العمل العسكري، والاقتصار على استضافة شخصياتٍ ذات توجُّه وانتماء سياسي مرادف لهذا النَّهج، محاولةً تلقين الشَّعب دروساً في الثَّورة والعمل السِّياسي واحتياجاته، مقابل التَّعتيم على النَّهج المدني والسِّلمي، والَّذي استمرَّ فترةً زمنيَّة أطول مما أظهر الإعلام. فبات عمل تلك القنوات أشبه بإشارات المرور التي تقود حشود الجَّماهير حيث تريد، الأمر الذي دفع بتياراتٍ سياسيةٍ أخرى للبحث عن وسائل بديلة لتقديم خطابها.
اعتمدت تلك المحطَّات في مصادرها وبسبب منع دخولها البلاد من قبل النِّظام، على التَّواصل مع شخصيات المعارضة والشَّباب المنخرط في الثَّورة بوسائلهم البدائيَّة في التَّصوير والتَّوثيق وخبرتهم المهنيَّة المتواضعة غير المتخصِّصة وضعف وسائل الاتصال، في ظل قطع النِّظام للاتصالات والإنترنت عن المناطق الثَّائرة. ممَّا أضاف ثغراتٍ عدة في موضوعيَّة المعلومة وتأثُّرها بأهواء وانفعال ناقل الخبر، الأمر الذي سهَّل للنِّظام دحضها مرَّاتٍ كثيرةٍ في حين شكَّلت ضرباتٍ موجعةٍ لمصداقيَّته في أحيان أخرى رغم تواضع تقنيتها. كما أسَّس الاعتماد على وسائل اتصال غير تقليديَّة لِلعب التَّمويل دوراً هاماً في التَّحكم بالخبر.
كذلك ظهرت قنوات تلفزيونيَّة مؤسَّسة من قبل المعارضة نفسها في عدَّة دول اعتمدت ذات الوسائل، كان من الواضح أنَّ توجُّهها مرتبط بالجِّهة المموِّلة والمديرة لها، وخطابها الأقرب للتطرُّف والعسكرة (ولو بعد فترة من عمر الثورة) والأبعد عن النَّهج الثَّوري المدني والفكري. والَّذي أظهر صوراً للمعارضة لم تنجح في إقناع أحد بالانجذاب لها، بل نفَّرت شرائح كبيرة من مؤيِّديها.
كما اعتمد إعلام المعارضة في تقديم نفسه على شبكة الإنترنت ومواقعها مباشرةً. كان من أبرزها في البداية صفحة “الثَّورة السُّورية ضد بشار الأسد” والَّتي شكَّل عنوانها الفج قطعاً مع أي عملٍ سياسيٍّ حواريٍّ، ومع شريحةٍ كبيرةٍ من الحالمين بالتَّغيير الآمن، ناهيك عن احتكارها لخطاب خاص عكسته عن الثَّورة، وكذلك احتكارها لتسميات أيام الجمعة.
انتشرت بعدها صفحات عديدة على الشَّبكة تحاول إيصال صوت الثَّورة عن مناطق وحركات سياسيَّة ومدنيَّة محدَّدة، وأخرى تحمل اهتماماً وتوجُّهاً فكريَّاً يعكس فكر الثَّورة، وقد نجحت تلك الصَّفحات والمواقع في نقل الأخبار والآراء والأفكار دون المرور عبر مزاجيَّات ومرجعيَّات المحطَّات التِّلفزيونيَّة العربيَّة والعالميَّة، وإيصال صوت الشَّارع لمن يتابعها ونقل آرائه وشعاراته. لكن كمية انتشار الأخبار فيما بعد طغت على النَّوعية، والأهم من ذلك تبعيَّة تلك الصَّفحات لاحقاً لجهاتٍ عدة، خاصة بعد تبدُّل معظم مؤسِّسيها من حَمَلَة الفكر المدني، ممَّن استهدفهم النِّظام في الأشهر الأولى للثَّورة، وبذلك بات معظمها منبراً لذات الجِّهات المموِّلة والنَّافذة من المعارضة، لتبقى قلَّةً قليلةً منها ذات صوت حرٍّ ومستقل. لكن انتشار الإنترنت محدود أصلاً في البلاد بسبب ضعف الشَّبكة، وانقطاعها عن مناطق واسعة، وانحصارها بذوي القدرة على دفع تكاليف الوصول إليها، الأمر الَّذي دفع ببعض الحركات السِّياسيَّة والمدنيَّة إلى طبع منشوراتٍ ورقيةٍ تنقل عبرها خطابها، اتسمت بعدم انتظام مواعيد إصدارها، ومحدوديَّة انتشارها، لصعوبة توزيعها بسبب الوضع الأمني. ومالبث معظمها أن توقَّف بسبب نقص الكادر، أو تدنِّي القدرة على تغطية التَّكاليف. وبالتَّالي غلب على السَّاحة الإعلامية خطاب المعارضة الرَّسمية، ومايتبع لها، مقابل ضعف صوت أصحاب العمل على الأرض وغياب منابر إعلاميَّة تعبِّر عنهم إلا في صفحاتهم الشَّخصية على الإنترنت والقليل من الصَّفحات المقرَّبة منهم.
ظهر فيما بعد العديد من الجَّرائد والمجلات الإلكترونيَّة والإذاعات المنتظمة أكثر، والَّتي سعت لتكوين منابر إعلاميَّة جديدة وبديلة عن منابر النِّظام، تميَّزت أغلبها بكوادر متدرِّبة في دوراتٍ أقامتها منظَّمات دوليَّة مختلفة ذات تمويلٍ عالٍ من عدة دول لشابَّات وشبَّان جلّهم من المنخرطين في الثَّورة، جذبتهم المنظَّمات والوسائل الإعلاميَّة بأسلوبها الحديث وآمالها الواعدة بنمطٍ عصريٍّ للإعلام، ليتبيَّن لاحقاً أن الشَّكل الجَّديد يحمل ذات الجَّوهر المكرَّر لنقل الأخبار والبعيد عن التَّحليل بأغلبيَّته، عماده السَّبق الصُّحفي وإن كان متسرِّعاً وبعيداً عن الموضوعيَّة، والذي ربطَ جمهوره بضيق أفق الحدث ومدى إثارته. فلم تضفْ على الحالة الإعلاميَّة إلا كمَّاً جديداً من الصُّور والأخبار المكرَّرة والمجموعة على عجل، ولم تخدم الخطاب الإعلامي المطلوب بقدر ما خدمت أصحابها وموَّلت مشاريعهم، أو أمَّنت عملاً لمن يسمون (نشطاء إعلاميِّين) هم غالباً من الدَّائرة المقرَّبة من المؤسِّسين. وقد حوَّلت الكثير من شبَّان الحراك سابقاً إلى نجوم إعلاميِّين اختصَّت في تضخيمهم إفادةً واستفادة كمادة إعلاميَّة دسمة (لا تنقض الاستثناءات القليلة القاعدة الغالبة)، بالإضافة للنقل الخاطئ أو المهوَّل للأحداث أحيانا بل والأخطاء الإملائيَّة العديدة. ناهيك عن ادِّعاء بعضها تمثيل محافظاتٍ بعينها لم تكن تُقرأ فيها أصلاً، ويستغل مَن وراءَها ذلك التمثيل المزعوم لغاياتٍ سياسيَّةٍ وصوليَّة، أو إصدار مجلة تدَّعي تمثيل النِّساء كثرت أخطاؤها في نون النسوة بالذات. كما غلبت عليها نقل أخبار ندوات وجلسات المعارضة المقرَّبة منها، فباتت تدور في حلقة منفصلة عن واقع الحدث السُّوري، وأصبحت في أسلوب نقلها لأخبار نشاطات المعارضة ومحاضراتهم وندواتهم كنقل إعلام النِّظام لنشاطات مسؤوليه ومحاضراتهم وزياراتهم التَّفقديَّة الاستعراضيَّة، بل شابهته في إلهائه وإشغاله الجُّمهور واغترابه عن الواقع أيضاً، فهل غاية النَّاس صفحة للأبراج والحظ في الإعلام البديل؟ أو هل ينتظر أهالي الرَّقة من إحدى محطات الرَّاديو أن تخبرهم مذيعة النَّشرة الجَّوية فيه: “أهلنا في الرَّقة؛ الجو اليوم معتدل ولطيف!”
إذ ذاك التقى الخطابان في المصب نفسه وكأنَّهما اتفقا على تشكيل وعي زائف ومضلل، تطهيريٍّ وكسول يدور حول ذاته، وعلى إعادة بناء الجَّوانب النَّفسية للجمهور حسب آليات الضَّبط الطَّائفي في أحيان كثيرة، فلا اختلاف في الخبر سوى بتوجيه الاتِّهام والاتفاق على كل ما عدا ذلك من تجييش للغضب الشَّعبي وتغذيته والتَّبسيط والتَّعميم وتغييب صوت العقل والمنطق وإهانة المعلومة في المحاكمة، واللَّحاق بالأهواء وإرضاء الجُّمهور وعواطفه وحصره ضمن تصورات هذا الإعلام وتوجُّهاته. مقصياً الآخر ومكرِّراً أداءه في ذات الوقت، ومحوِّلاً إيَّاه لدريئة يلقي عليها كل فشل وسلبيَّة، محتكراً لنفسه ماتبقَّى من الصِّفات الإيجابيَّة ليصبح صراع الإعلام سباقاً على من يطلق النَّار أولاً حاظياً بآذان الجُّمهور لا بعقولهم.
إذاً، تنصَّل النِّظام من نقد الفشل بفشل النَّقد، فتعمَّم الفشل، وانحصر النَّقد. وهكذا غدت الفوضى والعدميَّة هما السَّواد الأعظم الذي يبتلع كل شيء، حتَّى من لم يصبه ذلك الهوس.
وفشلت المعارضة في بناء مؤسَّسة تنفذ بخطابها إلى الغرب وتوصل صوت الشَّارع السُّوري إليه. لا بل فشلت في إيصال خطابها إلى الشَّعب السُّوري ذاته، بشكل يدحض خطاب النِّظام ويعرِّيه رغم وجود طاقات مبدعة واعدة. ولكن بالرُّغم من كل ذلك ستبقى تجربتها في تاريخ الإعلام السُّوري حالة يُبنى على الاستفادة من سلبيَّاتها وإيجابيَّاتها لاحقاً.
ختاماً، لا ثورة دون نقد، بل إنَّ النَّقد هو جوهر الثَّورة، والتي تنطلق من وعي المتناقضات وتعمِّم هذا الوعي، وتعمِّم كذلك مفهومها الجَّديد للحياة والجَّمال والصِّدق وقيمة الإنسان والإبداع في مواجهة الموت والكذب والخمول والابتذال، أو باختصار المعنى بوجه اللامعنى. ولا مناص للتَّغيير من امتلاك خطاب التَّغيير وإنْ جاء متأخِّراً يتلمَّس طريقه.