الإلحاد في التاريخ و دكتاتوريات القرن العشرين
الإلحاد في التاريخ و ليس تأريخ الإلحاد، موضوع تاريخية الإلحاد يطول و كاتب هذه الأسطر ليس بمؤرخ و الغاية هنا العرض البانورامي للإلحاد في التاريخ بهدف المحاججة في سبيل الإلحاد و توضيح مغالطة الاعتقاد الذي يربط الإلحاد كسبب لفظائع الأنظمة التوتاليتارية في القرن العشرين تحديداً. و ذلك بالإجابة على سؤالين أثنين: كيف ظهرت الأفكار الإلحادية في الحضارة الأوروبية ؟ و السؤال الثاني ما مدى ارتباط الإلحاد بفظائع الأنظمة الشمولية؟
1- بدايات ظهور الإلحاد
متى ظهر الإلحاد؟ الإجابة على هذا السؤال باختصار ستكون متضادة بين أثنين من الآراء أولاها يعود بالإلحاد إلى فجر الحضارة الغربية نفسها، إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث يربط جيمس ثروير James Thrower في كتابه الإلحاد الغربي Western Atheism بين الإلحاد و الطبيعانية Naturalism فالإلحاد كرفض للطروحات الميتافيزيقية مقابل التفسيرات العلمية المادية بدأ فعلا من قبل فلاسفة عصر ما قبل سقراط أمثال أناكسيمينس Anaximenes و ثاليس Thales و أناكسيماندر Anaximander (جميعهم من الأيونيين) الذين طرحوا بأن الطبيعة يمكن أن تدرك بما هي عليه بناءا على الفهم الإنساني لها و لا داع لإسقاط تصورات من خارج الطبيعة أو فوقها لاستيعاب كيف تعمل هذه الطريقة حولنا، هذه الفكرة المبسطة يمكن اعتبارها من مقدمات بدء استخدام المنهج العلمي لتحليل و تفسير الظواهر.
من جهة أخرى إذا تم ربط الإلحاد بالعقلانية Rationalism فسيعود ظهور الإلحاد إلى فترة مشابهة حيث تم نقد و دحض الخرافات الميتافيزيقية و تفضيل ما هو ” أكثر عقلانية” من تفسيرات، و العقلانية كما طرحت من الفيلسوف ثيسيسيديان Thycycidian هي: “ما يبنى على الأسباب و الأدلة” و الحجج التي تقبل التقييم لغرض الرفض أو القبول و ذلك كله لما هو متوفر من حقائق.
- الإلحاد العلني “الجهوري” Avowed Atheism
الإجابة الثانية لمتى ظهر الإلحاد تعارض الأولى و تعتمد على أن الإلحاد كفكرة متكاملة المعالم لم يتم طرحها على الملأ إلا في القرن الثامن عشر ما سماه دافيد بيرمان David Berman الإلحاد الجهوري Avowed Atheism، و أن أول إلحاد مثل ذلك ظهر في كتاب “نظام الطبيعة” The System of Nature لكاتبه بارون دي هولباخ Baron D’Holbach و المنشور عام 1770 حيث بالرغم من اقتناع هولباخ نفسه بأن هنالك إلحاد في عصر الفلاسفة الإغريق القدماء إلا أن ثروير في كتاب الإلحاد الغربي المذكور أعلاه يرى أن هولباخ كان هو أول من طرح الإلحاد علناً جهاراً و كمصطلح له تعريف واضح و ذلك في التراث الغربي بما يتسق مع طرح بيرمان بأن قبل القرن الثامن عشر كانت هنالك أعمال و أفكار توصف بأنها إلحادية أو ملحدة.
- نقد الدين: صعود نقد المسيحية في أوروبا
الأدلة المتوفرة على بدايات نقد الدين بشكل مباشر و علني تشير إلى أنها بدأت في نقد المسيحية (الكتاب المقدس تحديداً) حيث بدأت تظهر في الدراسات الثيولوجية الغربية لعل الفيلسوف ثوماس هوبز Thomas Hobbes من أول من شكك في مصداقية النص المقدس حين كتب في عام 1651 انه لا يمكن ان يتم نسب العهد القديم لموسى تاريخياً، نقد أكثر شراسة ظهر من إيكهورن Eichorn الذي وصف قصص الإنجيل بأنها خرافات و من غير المقبول قراءتها حرفياً كنصوص إلهية و كان ذلك في 1779.
” الإله صناعة بشرية ” أول من نسبت إليه هذه الجملة هو فيورباخ Feuerbach عام 1841 الذي يرى الإله كأداة روحية تستخدم لمعالجة مخاوف البشر و تطلعاتهم حيث يمثل الإله كل القيم الإيجابية المطلقة من قبل البشر الذين ينظرون لأنفسهم بدونية نسبةً إلى الإله المطلق.
” الإله مــات ” … … فردريك نيتشه Fredrick Nietzsche كان صاحب هذا الإعلان و ذكر بأن الإنسانية قتلت فكرة الإله و انتهت فكرة الإله (المطروح من المسيحية)، نيتشه كان ناقداً لاذعاً للمسيحية و لم يصفها بالخاطئة فقط بل نعتها بالفساد و بمناقضتها للحياة و بأن أخلاقياتها أخلاقيات الضعفاء أما اليهودية فيراها في بعض كتاباته على أنها عبودية تستند على الحسد! رغم نقد نيتشه اللاذع للدين فإن أهمية أعمال نيتشة تكمن في التداعيات الأخلاقية التي نشأت بسبب هذه الكتابات في المجتمع الغربي أواخر القرن التاسع عشر. نيتشة مثله مثل ماركس تنبأ بزوال الدين مستقبلاً (و بحتمية مشروطة) بنفس الفترة ظهر نقد لاذع للمسيحية من مجموعة مفكرين أبرزهم جورج إليوت George Eliot و جيمس فرود James Froude و تبعهم الشهير جون ستوارت مل John Stuart Mill .
في البلاد العربية تحت الحكم الإسلامي بداية الكتابات النقدية للمحرمات الدينية الإسلامية و أوائل كتابات و ترجمات الفلسفة بدأت (في حدود العلم) في عهد الخليفة المأمون الذي تدخل في اختلافات علماء الفقه و هو من شجع ترجمة العلوم و الفلسفة الإغريقية و كافأ من ترجمها بسخاء ، نفس الفترة كانت بداية القراءات المغايرة للنظرة الدينية و إن كانت بالمقارنة النسبية مع نقد المسيحية و اليهودية في أوروبا أقل خطورة بكثير و غير مباشرة و أكثر مهادنةً للفكر الديني. غالبا ما ينتقد الخليفة المأمون على ذلك من الاتجاهات الدينية الإسلامية لأنه كان سبب إدخال ” الشبهات” الفلسفية في العقيدة. بعد ذلك في الأندلس انتعشت الكتابات الفلسفية و ظهرت تصورات خارج الموروث الديني التقليدي (أبن رشد مثلاً).
هنالك بعض الآراء التي تفيد بوجود أفكار توصف بالإلحادية حتى قبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية.
- العلمانية البريطانية British Secularism
مصطلح العلمانية Secularism طرحه لأول مرة البريطاني جورج هولي أوك George Holyoake في كتابه مبادئ العلمانية Principles of Secularism المنشور في عام 1870 و الكلمة مشتقة من Secularis اللاتينية التي تعني الارتباط بالعالم الحقيقي الذي نختبره بحواسنا و ما نشتق منه قدرتنا على التفسير،
نقتبس تعريف مختصر طرحه هولي أوك: “شكل من الرأي يربط نفسه بالأسئلة و القضايا التي يمكن اختبارها من خلال تجربة هذه الحياة”.
منذ وقت ليس بالقصير و المصطلح يتم إساءة فهمه خصوصا في العالم العربي حيث يتم اختزاله بأن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة و عدم تدخل الدين في إدارة الشؤون العامة و ينتهي الاقتباس هناك و هذا الاختصار المجحف لمفهوم العلمانية هو ما يعرف فعلياً بالعلمنة Secularisation .
برزت الحركة العلمانية في بريطانيا الفيكتورية و انتقدت الكنيسة الإنجليزية Church of England
و امتيازاتها الكبيرة في ذلك الوقت، هولي أوك كان أول من يتم سجنه جراء إلحاده و كان ذلك في عام 1842 و لمدة ستة أشهر بسبب خطاب ألقاه أنتقد فيه الإنجيل و وصفه بالوحشية. أما تشارلز برادلاف Charles Bradlaugh فقد كان من ألمع رموز الإلحاد في العصر الفيكتوري حيث انتخب للبرلمان البريطاني لكن تم حرمانه من مقعده لرفضه أداء اليمين القانوني، أعيد انتخابه مراراً إلى أن تمكن من إنشاء الجمعية العلمانية الوطنيةNational Secular Society و تمكن من دخول البرلمان كأول ملحد علني في البرلمان البريطاني و كان ذلك في عام 1886
2- الإلحاد في القرن العشرين
غالباً ما يتم معارضة الإلحاد في اتهامه بأنه كان مستخدماً من الإتحاد السوفييتي الذي أنهار و من هتلر بجرائمه و الذي هزم هو أيضا و يتم الربط الخاطئ و المجحف بين الإلحاد و الأنظمة الشمولية الغربية في إيطاليا الفاشية و إسبانيا في عهد فرانكو و الأنظمة العربية الدكتاتورية و كل ذلك كحجة ضد الإلحاد بأن الإلحاد مسؤول عن جرائم و فظائع هذه الأنظمة لكونها ارتكبت ما ارتكبته فقط بسبب لادينيتها و ابتعادها عن الدين و الإله. هنا سيتم الخوض في حقائق تاريخية عامة لا جدل كبير يدور حولها و لا تضارب و تعارض بالقصص فيها و دون المبالغة في الخوض بحيثيات جزئية و ذلك بهدف نقد الاتهام الموجه إلى الإلحاد في تحميله للمسؤولية في كل ذلك بدءا من الفاشية الإيطالية إنتهاءا بالإتحاد السوفييتي.
- إيطاليا الفاشية
اعترفت الفاتيكان بالحكم الفاشي لإيطاليا عام 1929 و تم توقيع اتفاقية الاعتراف المتبادل من قبل بونيتو موسوليني من جانب الحكومة و من جانب الفاتيكان البابا بيوس الحادي عشر Pius XI . و موسوليني فيما بعد جعل الرومانية الكاثوليكية الدين الرسمي لإيطاليا و من معارضي موسوليني و حكمه الفاشي لم يظهر أثر لمعارضة الكنيسة له لا بل انتقدت جريدة The Church Times معارضة الصحافة البريطانية لاستبداد موسوليني حيث وصفت صحافة الكنيسة الإيطالية هذه المعارضة بأنها مبالغ فيها لأن موسوليني لم يقتل رجال الدين من رهبان و أساقفة – على الأقل- كما فعلت السلطات في روسيا ! و السخرية هنا أن الانتقاد الديني لمعارضي موسوليني يرى فرقا كبيرا بين قتل عامة الناس ممن انتقدوا الدكتاتورية (المتواطئة مع الكنيسة) و بين قتل رجال الدين كذنب لا يغتفر أي أن بعض القتل أهون من غيره. و في ذلك الأمر منطق ديني تصنيفي معتاد.
- إسبانيا خلال الحرب الأهلية و عهد الجنرال فرانكو
بالرغم من النظر إلى استبدال الملك ألفونسو بالجمهورية كان أمراً نُظر إليه بإيجابية و تفاؤل من العلمانيين، و الجمهورية فيما بعد رغبت في علمنة التعليم لكن أسقفية توليدو Archbishop of Toledo حذرت من عدم استلامها لأي من “حقوقها” و اعتبرت أن أي تعليم يخالف تعاليمها لا يعتبر تعليماً على الإطلاق و نجحت في جذب التأييد من إيطاليا و صدر بيان من الكاثوليكية الرومانية في روما يطالب بإعادة امتيازات الأسقفية التي كانت تحظى بها في عهد الملك ألفونسو (1931)، مع تطور مجريات الحرب الأهلية دأبت الكنيسة الكاثوليكية من خلال ارتباطاتها مع الصحافة على جعل الحرب الأهلية الإسبانية حربا صليبية جديدة. فاشية الجنرال فرانكو كانت أقل وطأة من الفاشية الإيطالية لكن أيضا وقفت الكنيسة الكاثوليكية هذه المرة إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية مع وصف أعضاء الكنيسة الحرب بالصليبية ضد ” الجمهوريون الملحدون” فإن المشاهدات في قمع سكان إقليم الباسك مثلا و قصف فرانكو للمدنيين كانت فاشية كاثوليكية أكثر منها إلحادية.
لو كان النظام السياسي في إسبانيا علمانياً لما تم إعدام أحد رواد علمنة التعليم فرانسيسكو فيرير Francisco Ferrer و ذلك لاتهامه في لعب دور في أحد الثورات لكن جل الغضب على فيرير كان بسبب إنفاقه لثروته في إنشاء مدارس عقلانية rational schools و التي نجحت بأن تحظى بشعبية آنذاك. بعد عام من السجن حوكم عسكرياً و وُجد مذنباً (تبين بعد ذلك ضعف الأدلة) و أعدم رميا بالرصاص و طلب منه الاستماع للراهب و تقبيل الصليب قبل تنفيذ الإعدام (لم يقبل بالقيام بذلك مطلقا * .
- ألمانيا النازية
ألمانيا تحت قيادة هتلر تماما كما في الفاشية الإيطالية تم توقيع اتفاقية اعتراف متبادل بين الحكومة النازية و الكنيسة الكاثوليكية عام 1933 و كذلك التواطؤ مع الكنيسة البروتستانتية كان أقوى و ذلك دعمه الاتجاه اللاسامي التقليدي في ألمانيا آنذاك و إن كانت المسيحية تتفاخر بمحاربة الكنيسة الاعترافية Confessional Church للنازية من خلال كل من مارتن نيمولتر Martin Nie Molter و ديتريك بونهوفر Dietrich Bonhoeffer لكن ما لا يتم ذكره هو ان كل منهما أضطر للاستقالة من المؤسسة الكنسية لمتابعة نشاطهم في مقاومة النازية مما يترك للمسيحية القليل من “الاحتفال” في ذلك الأمر، إذا كانت الكنيسة دعمت الحرب ضد النازية في دول الحلفاء فنفس الكنيسة دعمت أو تواطئت مع هتلر في ألمانيا إذا كان الهدف لدى هتلر هو المصلحة الآنية فكيف يتم تفسير موقف الكنيسة التي تعتمد على مبادئ و ثوابت أساسية مبدئية لا رجعة فيها و لا مصلحة دنيوية فوقها.
حول الرؤى النازية نفسها و علاقتها بالإلحاد من ناحية نظرية النازية جاءت معارضة للعديد من الأفكار العقلانية حيث أخذ هتلر بمفهوم ألماني تقليدي كموروث متخلف بحق المرأة في اقتصار دورها في الحياة كربة منزل في المقولة الألمانية الشهيرة Kirche, Küche, Kinder
و التي اشتهرت بالــ KKK و ترجمتها: الكنيسة و المطبخ و الأطفال! إضافة إلى العنصرية التامة في تقسيم البشر إلى درجات.
صعود النازية تم النظر إليه على أنه نتاج لأسباب تاريخية بحتة و له بشكل موازٍ ارتباط مع الدين حيث أن معاهدة فرساي التعسفية ضد الشعب الألماني بعد الحرب العالمية الأولى أدت إلى احتقان الشعب الألماني و ذلك ما استغلته النازية في انتشارها و نجاحها السريع (تذكير بأن هتلر وصل الحكم بالانتخاب) و شعور الانتقام هذا عند الألمان ألهب المشاعر القومية و ألغى بقية الاعتبارات الأخرى لديهم و الدولة الهتلرية سيطرت على الشعب الألماني ” المختار ” من:
“الإله و الطبيعة و هتلر”. و ذلك من أجل حكم العالم!!
(يبدو ليس فقط اليهود هم الشعب المختار!) النازية رفعت من قيم العرق (أو الدم) الأرض و “الأمة” إلى درجة لا تختلف عن أي من المفاهيم الدوغمائية الأخرى، و لا يبدو في كل ما سبق أين الإلحاد كقاعدة فكرية نظرية لكل ذلك.
* Jim Herrick (1982) “Vision and Realism: a hundred years of the Freethinker”, G.W. Foote and Co.
- الإتحاد السوفـييتي
دون شك الإتحاد السوفييتي كان دولة لادينية و معظم ساستها من الملحدين علناً لكن السؤال المهم هو هل الإلحاد هو سبب فظائع السوفييت في جنوب الإتحاد السوفييتي ضد السكان من مسلمين
و مسيحيين و غيرهم؟ لكي يتم إثبات ذلك يجب أن نجد دليل على أن أفعال الإتحاد السوفييتي ناشئة منطقيا من الإلحاد و تعتمد عليها كفكرة بالضرورة.
الجذور الفكرية للشيوعية السوفييتية هي من الفلسفة الشيوعية لكارل ماركس المعروف بمقولات تعارض الدين أشهرها و أكثرها اقتباساً:
” الدين أفيون الشعوب” The Opium of the people و كذلك:
” أولى شروط سعادة البشرية هي إلغاء الدين ”
“The first requisite for the happiness of the people is the abolition of religion.”
لكن من الخطأ فهم ماركس بأنه دعا إلى إلغاء و مسح الدين -و من يعتنقه من بشر- من الوجود بالعنف و بأسرع ما يمكن! ماركس طرح فكرة حتمية اختفاء الدين تاريخيا و الطريقة هي عند تكوين المجتمع الشيوعي الذي تصل فيه المجتمعات إلى مرحلة لا يحتاج الناس فيها إلى الدين بأشكاله و أنواعه، لن يكون هنالك ضرورة لمنع الدين في الدولة الشيوعية لأنه ببساطة لن يكون ضرورياً و سيختفي من الوجود حتمياً، في هذا السياق نظر ماركس إلى الدين كظاهرة اجتماعية وفقا للفهم المادي للتاريخ. حتى على المستوى النظري الفكري ماركس لم يقم بإقصاء المتدينين فجوهر نقده للدين ليس مبنياً على أن الناس تتبع و تمارس الدين بسبب نقص المعرفة و العلوم بل بسبب انعدام “الوعي الاجتماعي” لمشاكل مجتمعهم و ذلك يدفع بهم إلى الارتداد الأعمى إلى الذات هروبا من ألمهم و لذلك وصف الدين بأنه يوفر نوع من الراحة في عالم قاس لا يرحم و هذا سبب الوصف ” أفيون الشعوب” لكن ماركس في نفس الوقت شدد على ضرورة نقد الدين كأمر أساسي لتوفير فهم نظري للمجتمع كضرورة لتطويره. صحة أو خطأ هذه الرؤيا الماركسية ليست القضية هنا بل ما يهمنا هو عدم وجود دعوة إقصائية أو عدائية تحديدا تجاه من يتبع الدين من بشر بالرغم من نقد الدين و دحضه.
هنا نجد أن الشيوعية السوفييتية ابتعدت عن الإلحاد كمنطق يبرر أفعالها في نقطتين الأولى أن الفكر الشيوعي فكر إلحادي لكن ليس كل إلحاد هو شيوعية، و تعميم تجربة محدودة على الجميع مغالطة كبيرة فيها إجحاف لمن هو ملحد لكن ليس شيوعياً، النقطة الثانية والأهم تكمن في أن الشيوعية السوفييتية و فظائعها في قمع الأقليات الدينية و غير الدينية هي انحراف عن أصول الفكر الشيوعي الماركسي من الأساس، حتى الفلسفة الشيوعية الماركسية لا يمكن إثبات مسؤوليتها عن فظائع السوفييت و يجب إثبات ذلك قبل إثبات مسؤولية الإلحاد عن ممارسات سلطة سياسية حاولت تطبيق فكر معين بتطرف و إجبار. و مشكلة السوفييت كانت في تطرفهم و استخدام العنف في تطبيق أفكارهم و ذلك أمر سلبي بغض النظر عن طبيعة هذه الأفكار و لأي جهة يتم نسبها، سبب الفظائع هو التطرف والتعصب الذي لم يختلف كثيرا عن تطرف الأديان. حتى لو كان من هو وراء تلك الفظائع ملحداً فليس في الإلحاد من “مبادئ” أو “نصوص” تؤيد نظريته أو تشجع ما قام به من أفعال كتطبيق لهذه النظرية و هناك من الملحدين من سيعارض تلك النظرية و طريقة تطبيقها بشكل تام، كذلك من المفيد تأكيد أن الإلحاد لا يدعي أن الملحد شخص جيد بالضرورة و أفضل من غيره، محاولة ربط الإلحاد بمفاهيم سياسية أو فكرية فلسفية معينة و استخدام مشاهدات تاريخية لتعميم ذلك ما هو إلا محاولة للتعامل مع الإلحاد كما لو كان ديناً أو طائفة ما تحمل أفكار شمولية و تسعى لتطبيقها، و الأمر ليس كذلك.
من جهة أخرى عند الحديث عن معاداة الإتحاد السوفييتي للدين ليس من الدقة التعميم في ذلك الأمر أيضاً فقد سمح جوزيف ستالين Josef Stalin بما يعرف بــ ” بطريركية موسكو ” Moscow Patriarchate كمجمع مركزي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية و التي تم توظيفها في تأييد الإتحاد السوفييتي في قمع الانتفاضة الهنغارية 1956 و في نصب جدار برلين 1961 و كذلك في غزو تشيكوسلوفاكيا عام 1968 و أخيراً أفغانستان 1979 * و هنا مرة أخرى إدعاءات الكنيسة في محاربة الشيوعية تتعارض مع مثل هذه الوقائع.
* مايكل بوردو ، موسوعة السياسة و الدين ص 657 Michael Bordeaux, Encyclopaedia of politics and religion, edited by R.Wuthnow Routledge
- الأنظمة العربية
تظهر في الطروحات الخطابية العربية الدينية و السياسية بأن فشل الأنظمة العربية و سبب جرائمها بحق شعوبها هو ترك أصحاب السلطة للدين و بسبب ” إلحاد ” رأس الدولة من شيخ، ملك أو رئيس، قد يكون هذا الخطاب من الماضي في نقد الحكومات الاشتراكية العربية لكن أحيانا يستخدم في نقد الإلحاد و اللادينية العربية. مثل هذا الخطاب يقع في مطب افتراض شيء يحتاج نفسه إلى إثبات فكما هو الحال في الستالينية و هتلر المطلوب إثبات أن أفعال الدكتاتور العربي كانت نابعة منطقيا بسبب إلحاده و هذا ما تعارضه جملة من المشاهدات و الحقائق فالمبرر الديني دائم الاستخدام و بعض أنظمة الحكم تستمد شرعيتها من الدين بشكل أساسي، و الدكتاتور العربي يطل علينا من أجهزة البروباغاندا الإعلامية كشخص حكيم و قوي و “متدين باعتدال” و استخدام الدين لا بل “الطائفية الدينية” -مراعاة للدقة- لا تنفك الأنظمة السياسية العربية من استخدامها و تحالف الدكتاتورية و الأنظمة الوراثية مع التيارات الأصولية في أوقات سابقة لم يعد خافياً على أحد، معظم وقائع قمع الحريات و استخدام القوة الطبيعانية (العنف و التعذيب) معظمها كانت تحمل دوافع سياسية مرتبطة بالنزاعات الطائفية الدينية أو بالقبلية الجغرافية و غير ذلك من عوامل مؤثرة (الفوارق الاقتصادية و الاجتماعية) لكن من الأسباب الرئيسية لانعكاس ذلك في سلوك الحكومات هو الدوغما السياسية سواء كانت دينية إسلامية أو اشتراكية أو غيرها فالأحزاب السياسية العربية قدمت طروحاتها بشكل لا يقبل الدحض و لا يحتمل الخطأ. الهدف هنا ليس التفسير الكامل لسبب هذه الظواهر (هذا موضوع مستقل) بل لتبيان أن “إلحاد” رأس الدولة كأمر مزعوم و لا إثبات عليه أصلا ليس مسؤولا عن جرائم الأنظمة العربية بغض النظر عن الجدل القائم حول ما هو “جرم” و ما هو “عنف مشروع”، المراوغة المتوقعة في أن الحاكم العربي فقط يدعي التدين لمنافعه السياسية كنوع من الميكافيلية السياسية، حتى إذا كان ذلك صحيحا فليس الإلحاد أو اللادينية السبب لأفعاله بل يعود ذلك إلى البراجماتية و الديماغوجية لديه قبل أي شيء آخر و تلك أمور قد يقوم بها أي شخص بغض النظر عن نوع معتقداته.
خلاصة:
العرض البانورامي للإلحاد في التاريخ يبين أن ظهور الإلحاد أساسا كان لنشوء للعقلانية كبديل للخرافات الميتافيزيقية و لاحقا الحركات العلمانية دعت إلى التعامل على أساس المواطنة دون تصنيفات للناس حسب معتقداتهم الشخصية أو أصولهم العرقية و غير ذلك من اختلافات و من المستبعد ربط أهوال القرن المنصرم بالإلحاد على المستوى النظري، الحقائق التاريخية السالف ذكرها توضح عدم مسؤولية الإلحاد كفكرة عن أهوال الأنظمة الشمولية المختلفة.
لكن من التجربة السوفييتية تحديدا هنالك عـبـر من المفيد أخذها بعين الاعتبار، أولها عدم إعطاء فكر معين صورة تفاؤلية مبالغ فيها بحيث أن هذا الفكر سيحل جميع مشاكل المجتمع و يوصلنا إلى تصورات مثالية، ثانياً و الأهم هو عدم معاداة قمع الآخر بشكل متزمت فوجود نوع من” الأصولية ” في أي فكر خطر كبير بغض النظر عن مضمون هذا الفكر و محتوياته سواء كان دينياً أو لادينياً و بزوغ نوع من “التطرف الإلحادي” يهدف إلى مسح الدين من الوجود و لو بالقوة هو أمر مرفوض تماما (و مستبعد جدا طبعا) و هو خطر مثله مثل أي تطرف أو أصولية دينية أو سياسية.
ختاماً نرى في مقولة الإنجليزي (المتألم) ريتشارد ليديرير خاتمة معبرة لهذا الموضوع:
“There once was a time when all people believed in god and the church ruled. This time was called the dark ages.” – Richard Lederer (Anguished English)
” كان هناك زمن حين آمن الجميع بالإله و حكمت فيه الكنيسة، يسمى ذلك الزمان عصور الظلام ! “
مصادر و قراءات إضافية
(بالإنجليزية)
Baggini, Julain (2003) “Atheism: A Very Short Introduction”, Oxford University Press
D’Holbach, Baron (1770) “The System of Nature”.
Harrick, Jim (1984) “Vision and Realism: A Hundred Years of The Freethinker”, G.W. Foote and Co.
Thrower, James (2000) “Western Atheism: A Short History”, Prometheus Books, NewYork.
Ridling, Zaine (2001) “Philosophy, then and now: a look back at 26 centuries of thought”, Access Foundation.
Robert Wuthnow, (Ed) (1998), “Encyclopaedia of politics and religion”, Routledge, London.
* شكر للزميل العزيز Hades على الاستشارة في الترجمة من الألمانية إلى العربية
(المصدر: شبكة اللادينيين العرب)