الحرية للمثقفين من سابق سجنهم
بقلم: رامي نصر الله
بعض غايات الاعتقال هي إخراج الفرد من زمنه ومن التأثير في محيطه. وقد اعتاد النظام السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي اعتقال المثقفين تحديداً لتجميد نشاطهم، وإخراجهم من الدور الذي بدأوا فيه.
وعليه كان لاعتقال المثقفين والمفكرين في سوريا الأثر الأكبر في حالة التصحر السياسي التي وصلت إليه في عهد البعث. وبذلك نجح النظام في تحقيق هدفه في إفراغ الشارع من مثقفيه ومفكريه الذين أمضوا سنوات طوال من عمرهم في المعتقل، ترافقت مع أبشع أساليب التعذيب البربرية، أودت بحياة العديد منهم داخل السجن أو أخرجتهم على حافة الموت. في حين نجح قلّة منهم في الخروج ببعضٍ من التوازن الفكري رغم مرور كل تلك السنين عليهم في أقبية السجون.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل استطاع أولئك الذين نجوا من السجن إكمال مسيرتهم الفكرية التي سُجنوا لأجلها؟ حيث عاد بعضهم إلى نشاطهم السياسي السابق دون تغيير يذكر، في حين التفت آخرون إلى كتابة وسرد تفاصيل سجنهم والخروج بنتاجٍ أدبيٍّ ضمن ما يسمى أدب السجون، أو بكتاباتٍ متفرقة أخرجت تلك السجون من عتمتها إلى العلن مضيئةً إياها أمام الرأي العام، ومشيرةً إليها كأحد أساليب القمع التي اتبعها النظام للنيل من خصومه من السياسيين والمفكرين لبسط سيطرته على الساحة السياسية والثقافية.
لكن بعض المثقفين ممن التفتوا إلى كتابة وتدوين يوميات سجنهم يقفون وعلى ما يبدو عند مرحلة تدوين تلك اليوميات، أو أمست عقبةً واضحة في أعمالهم لاحقاً، من دون تقديم أي جديد. وبرغم الأهمية الكبيرة لأدب السجون والكتابات الكاشفة ليوميات السجن، ليس في سوريا فقط وإنما في دول المنطقة، حيث ساهمت العديد من الشهادات والكتابات حول السجون في إيصال حقيقتها إلى منظمات المجتمع الدولي، ودعم تقاريرها عن التجاوزات التي تحصل داخلها. إلا أنه من المبالغ فيه أن تتكاثف جهود بعض المفكرين ممن يعملون في الشأن السياسي لتكرار تلك الكتابة ووصف زنازينهم حتى بعد أن ثار الناس في وجه النظام، وكأن الناس ما زالوا ينتظرون مبرراً للثورة. وهم الذين قاموا بها منذ سنواتٍ ست، وباتوا يبحثون الآن عن مخارج وحلول لأزمتهم مع النظام، فالتفتوا للمثقفين ليروا أنهم ما زالوا يدورون في فلك السجن وزنازينه، عاجزين عن الخروج منها وتجاوزها. ولا أقصد هنا الكتب التي لم تستطع الخروج للعلن قبل الثورة، بل أقصد تكرار هذه الكتابات من قبل المهتمين بالشأن السياسي أكثر من أي موضوعٍ آخر ينتظره الشارع منهم.
ففي الوقت الذي نحن بحاجة فيه إلى فكر يقدم لنا رؤى نبني بها ونرتكز عليها لتحقيق ما خرج الشعب لأجله، ولبناء الجمهورية المنتظرة، يعيد مثقفينا علينا قصص التعذيب التي لها أن ترهب كل من تخوّل له نفسه بالحلم. وهي الاستراتيجية التي اعتمدها النظام منذ بداية الثورة، إذ كان للفيديوهات المسرَّبة عن الأساليب الوحشية المتَّبعة داخل أقبية التعذيب وعن نتائج الوقوع في أيدي قوات الأمن، أثر سلبي على الحراك وعلى تفشي ثقافة الخوف وتركيزها كصفة تحكم المجتمع.
لا خلاف في أن المطالبة المستمرة بالمعتقلين والتذكير بهم وبمعاناتهم واجبٌ وضرورة في سياق المطالبة بحريتهم والإفراج عنهم وإنهاء فعل الاعتقال، مثلما التذكير بالشهيد بهدف التذكير بقضيته، حيث يصبح رمزاً ليس في فعل اعتقاله واستشهاده بالتحديد، وإنما فيما اعتُقل واستشهد لأجله، كما تحول الشهيد غياث مطر إلى رمزٍ السلمية والثورة الطامحة لحياةٍ كريمة للجميع.
التوقف عند المعتقل ومظلوميته هو توقف عند قضبان السجن، واعتقالٌ معنوي لمن هو خارج تلك القضبان. إذ يعيش بعض المعتقلين السابقين من المثقفين دور المعتقل المار في تجربة مأساوية تغلب على دوره الحقيقي كمثقف عليه دور في نصرة قضيته، خاصةً في أزمتها، وتقديم تحليله للواقع واستشفاف الحلول له. فللمثقف دور أكبر من الحديث عن السجَّان الذي يصغر أمام هول الحديث عنه كل حديث، إذ يصبح وكأنه طقس تفريغ نفسي جماعي عليك أن تصمت في حضرته.
وقد تكون مطالبة المثقف بدور أكبر فيه شيء من تحميله أكثر من طاقته، خاصةً مع غياب دورنا كأفراد في مدهم بدعمٍ حقيقي يخرجهم من حصار السجن ويكسر عزلتهم. إلا أن وجود أمثلة عن مثقفين استطاعوا تجاوز قضبان السجن المعنوية سورياً وعالمياً تفتح باب التمني.
أنطونيو غرامشي A.Gramsci مثلاً ومن خلال «دفاتر السجن» و«المجتمع المدني» استطاع تجاوز قضبان سجنه إلى زمننا هذا لا زمنه فقط، ونظَّر من خلالها لتعريف المثقف ودوره في رفد طبقته السياسية، ودوره كذلك في التأثير في الثقافة البورجوازية وسبل كسر هيمنتها، تلك الأفكار التي أثَّرت في صلب الثقافة الأوروبية المعاصرة لاحقاً.
غرامشي أحد الأمثلة على قدرة المثقف على تجاوز سجنه وقيده وهو بداخله حتى. أما أن يبقى المثقف داخله وقد غادره منذ سنوات يعني أن النظام الذي اعتقله قد حقق غايته في اعتقاله الأبدي، وإيقاف دوره عند شتم السجان ونظامه بعيداً عن التفاعل مع مجتمعه وقضيته، وتقديم الحلول العقلانية إليها كما هو مطلوبٌ منه كمثقف في جعل كتاباته نافذةً على فكره لا زنزانته.
المصدر: موقع النبض، 9/10/2017