الرواية ليست إنجيل الثورة في سوريا
واحدة من أكثر روايات أدب السجون العربية شهرة. ترجمت حتى الآن إلى عشر لغات، آخرها الألمانية. إنها “القوقعة – يوميات متلصص” للكاتب السوري مصطفى خليفة. الصحافي خالد سلامة حاور الكاتب حول عوالم الرواية وشخصه ووطنه ومنفاه.
بطل الرواية وراويها يسترق النظر من خلال ثقب زنزانته إلى باحة سجن تَدمُر، القابع كوحش وسط البادية السورية. تقدم عيناه صورة سينمائية غاية في الإبداع والكمال لما يدور في المعتقل الذي تحدث الكثير من نزلائه عن أهوال وعذابات عانوها خلال اعتقالهم فيه.
بعد صدورها في عدة لغات وصلت إلى عشر، رأت الرواية النور باللغة الألمانية قبل أسابيع. الصحافي خالد سلامة حفل توقيع الترجمة الألمانية للرواية في مدينة كولونيا وعلى هامش الحفل حاور مبدعها مصطفى خليفة:
وصف بعض الشباب الرواية بأنها “أنجيل الثورة السورية، إلى أيحد تعتقد أنها كرواية مهدت الطريق لكسر “القوقعة” والانعتاق منها؟
مصطفى خليفة: لست ميالاً كثيراً لمثل هكذا توصيفات ولا أوافق على فكرة أنها “أنجيل” الثورة السورية. أرى أن الثورة السورية أكبر من ألف كتاب وألف رواية. للثورة السورية أسبابها العميقة الناتجة عن تراكم القهر والاستبداد والفساد على مدار عشرات السنوات. ولكن الرواية قد تكون قد ساهمت في تفتح وعي بعض الشباب.
لماذا حرمت بطل الرواية،وهو الراوي أيضاً، حتّى من أن يكون له اسماً؟
مصطفى خليفة: للرواية عدة مستويات، أهمها المحلي-السوري والإنساني. ومن هنا جاء إغفال ذكر أسماء الأشخاص والأماكن، إلا عند الضرورة الإجبارية. والهدف هو إعطاء الرواية أبعادا زمانية ومكانية لامتناهية.
أليس ذلك لأهداف تتعلق بالانتشار والرواج؟
مصطفى خليفة: لم يخطر على بالي ذلك بالمطلق.
يخلط كثيرون بينك وبين البطل. كم منك كمصطفى خليفة في بطل الراوية؟
مصطفى خليفة: هناك جزء كبير مني في البطل والجزء الآخر هو لصديق لي يحمل مواصفات بطل الرواية: مخرج سينمائي مسيحي اعتقل بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين. شخصية البطل هي توليفة من تجربتي الشخصية وتجربة ذلك الصديق.
تكلمت في حفل التوقيع عن “راهنية” الرواية. هل هذا عنصر إضافي يدفع الشباب للإقبال عليها؟
أنا شخصياً والكثيرين غيري أكملوا الرواية في قراءة واحدة ولم يستطيعوا وضعها جانباً ومتابعة قرأتها في يوم آخر. ما السر وراء ذلك؟
مصطفى خليفة: قد يعود للأسلوب وطريقة العرض والقدرة على التشويق، وقد يعود أيضاً لغرابة الموضوع وربما أيضاً لعنصري الصدمة والاكتشاف، بمعنى تعرّف القراء على حقيقة أن السجون موجودة بينهم، وربما على بعد أمتار، وهم يعيشون حياتهم بشكل اعتيادي ولا يلقون بالاً لها.
ظهرت “القوقعة” باللغات الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية والنرويجية والتركية والألبانية والمجرية، والآن باللغة الألمانية. هل تتوقع لروايتك، التي تتضمن وصفاً تفصيلياً للعنف ببشاعته، أن يتفاعل معها القارئ الألماني الذي يميل أو اعتاد على أعمال أدبية تعرض مثل هذه المواضيع برمزية غير مباشرة؟
مصطفى خليفة: في كل مجتمع توجد شريحة تشدها وتستهويها مثل تلك المواضيع. وحتى بين القراء العرب لم يستطع البعض إكمال قراءة الرواية. من خلال حفل التوقيع أستطيع القول إن الإقبال كان مقبولاً إلى حد ما وكان النقاش شيقاً. كما تفاجأت بالحضور البارز للسوريين وخاصة الشباب منهم.
مصطفى خليفة كاتب رواية القوقعة والسجين السياسي لمدة 12 سنة في سوريا بتهمة الإنتماء للإخوان المسلمين مع أنه مسيحي: “لن يأتي حاكم أسوأ من حافظ الأسد، فخلال 30 سنة ووفق التقارير قتل بين 100 ألف و150 ألف، سواء عبر المجازر أو في السجون، ولو اعتبرنا أنه قتل 100 ألف فقط فهذا معناه أنه كان هناك يومياً على مائدة إفطار حافظ الأسد جماجم 10 شباب سوريين.”
بدأت في رحلتك مع المنفى الاختياري بداية في الإمارات عام 2006، وبعدها بسنتين رأت “القوقعة” النور. هل كان هناك من أثر ما للمهجر على الرواية؟
مصطفى خليفة: الرواية كانت جاهزة للنشر قبل خروجي من سوريا.
بشكل عام، ألا يضفي المهجر أبعاداً جديدة على أدب السجون؟
مصطفى خليفة: عندما يكون المرء داخل التجربة يجد صعوبة في سردها ولا تكون النظرة شمولية. بهذا المعنى، المنفى ابتعاد يُنضِج ويعمّق التجربة. كما أن المنفى يحدث في النفس مقارنات لاإرادية بين الوطن والمنفى.
بعد حوالي 13 عاماً خارج سوريا، ما شعورك تجاه المعتقل الذي ترك في روحك جراحا وندبات عميقة؟
مصطفى خليفة: في بعض اللحظات أحن إلى بعض الحالات الاجتماعية والإنسانية داخل السجن. أقولها بصراحة: من أفضل الناس الذين عاشرتهم في حياتي كانوا في السجن.
ألا يمكن أن يجعل كلامك البعض يقول إن حالتك قد تتطور لتصل إلى “متلازمة ستوكهولم” (عقدة الأسر: تعاطف شخص ما مع من تسبب بألم وعذاب له، وربما تصل الحالة إلى تكوين مشاعر إيجابية عنه والانسجام والتعاون معه)؟
مصطفى خليفة: )يضحك) لم أصل لمثل هذه الحالة المرضية، لكن تبقى سوريا وطني ولي فيها ذكريات بحلوها ومرها.
هل سيبقى مصطفى خليفة سجين أدب السجون أم سيخرج إلى أشكال أخرى من الأدب؟
مصطفى خليفة: التعبير غير دقيق. علي واجب توثيق التجربة التي عشتها روائياً. وصدرت لي قبل سنتين رواية “رقصة القبور” ولا تحوي إلا القليل من أدب السجون. عند تناول المجتمع السوري أدبياً لا يستطيع الكاتب إلا طرق الموضوع، بدرجة ما تزيد أو تنقص، لأن السجن جزء من حياة السوريين.
بطلالرواية كان بشكل ما رهين المحبسين؛ إذ أنه كان في المعتقل وبنفس الوقت كان معزولاً لأنه كان موضع شك وريبة من المعتقلين الإسلاميين بأنه عين السلطة عليهم (مُخبر). لماذا وضعته في ذلك الموضع؟
مصطفى خليفة: الأمر ليس نادر الحدوث في المعتقلات السورية. مجرد الاشتباه بأن علاقة ما تربط سجينا بإدارة السجن قد يقود إلى عزله. والسجانون يسعون لزرع الشك والريبة بين السجناء.
في “القوقعة – يوميات متلصص” الصدام رأسي: بين السجانين والسجناء. ولكن في السجن هناك صراع آخر: بين السجناء أنفسهم. وذلك قد يعود لاختلافات ايدلوجية ودينية وحزبية ومناطقية وحتى شخصية. ولديّ مشروع مستقبلي لإلقاء الضوء على هذه النقطة من خلال عمل روائي آخر.
جروح رعب لا تندمل على أجساد ناجين من الحرب السورية
منذ ربيع عام 2014 وإلى بداية عام 2015، سافر المصور الألماني كاي فيدنهوفر عبر المدن والقرى ومخيمات اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان لتصوير بعض جرحى حرب سوريا وللكشف عن بعض الآثار الحقيقية لهذا الصراع الدموي. موقع قنطرة يعرض هنا بعض هذه الصور.
أنت اليساري صوّرت في الرواية التعذيب الرهيب الذي تعرض له الإخوان المسلمين، ما قاد البعض للقول إن معتقلي اليسار كانوا “مدللين” مقارنة بالإسلاميين. كيف تعلق على ذلك؟
مصطفى خليفة: كلمة “مدللين” ظالمة وجائرة إلى حد ما. بيد أنه يمكن القول إنه الفرق بين السيء والأكثر سوءاً. بعد انفجار الصراع المسلح بين الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين والنظام، اختلفت درجة التعذيب والعنف الممارس بحق الإسلاميين عن باقي المعتقلين. بشكل عام كانت معاملة المعارض المسلح أقسى من غيرها، بغض النظر عن انتمائه الأيدلوجي. في السجون السورية لا سجين مدلل.
ما السبب الذي تعتقد أنه دفع تنظيم “الدولة الإسلامية” لنسف مكان أحداث الرواية، والذي أجده بطلاً آخر للرواية، سجن تدمر؟
بالمناسبة لم أتأكد بعد فيما إذا كانت الصورة التي بثها تنظيم “داعش” هي للسجن السياسي، حيث جرت أحداث الرواية. أعتقد أنها للسجن العسكري الخاص بالمتطوعين والمجندين في الجيش السوري. قيل الكثير عن تواطئ النظام مع “داعش” وعن إيعازه لذراعه في التنظيم بتفجير السجن لإخفاء جرائمه. ولكني شخصياً لا أستطيع الجزم ولا أملك ما أقوله هنا.
هل يعتقد مصطفى خليفة -وأنا هنا اسأل السياسي فيك لا الروائي- أنه بالإمكان تحقيق مصالحة في سوريا الآن وطي صفحة الحرب وإعطاء فرصة لالتئام الجراح؟
نتيجة معرفتي ببنية النظام وجوهره أستبعد حدوث مصالحة بين المجتمع والسلطة. النظام لا يقبل بالحلول الوسط ولا بالمساومات مع الشعب، ولكن مع الخارج يمكن أن يصل به الحد إلى الانبطاح الكامل.
أجرى الحوار: خالد سلامة
المصدر: دويتشه فيله 2019
ولد الكاتب الروائي مصطفى خليفة عام 1948 في مدينة جرابلس في أقصى الشمال السوري. نشط سياسياً في شبابه في “حزب العمل الشيوعي” السري، الأمر الذي دفع ثمنه سنوات من التخفي واعتقال لمرتين بلغ مجموع سنواتهما 15 عاماً. بعد خروجه من المعتقل منع من مغادرة سوريا حتى عام 2006 عندما استقر في الإمارات. ومنذ سنوات انتقل للعيش في العاصمة الفرنسية باريس.
صدرت روايته “القوقعة – يوميات متلصص” عام 2008 عن دار الآداب في بيروت. واكتسبت زخماً كبيراً بعد اندلاع “ثورات الربيع العربي”. صدرت الترجمة الألمانية للرواية عن دار فايدله Weidle Verlagبإمضاء المترجمة الألمانية البارزة لاريسا بندر.