الماسونية الدمشقية… القطبة المخفية في تاريخ سوريا الحديث
بقلم: طارق علي “المصدر موقع رصيف ٢٢”
لا تنكر الدول العربية عامةً الحقبة الماسونية القديمة في تاريخها، ولكنها لا تؤكدها، ولا تأتي على ذكرها في مناهج التاريخ التي تدرّسها، بل تتعامل معها بتجاهل تام.
وفي سوريا خصوصاً، تكاد تغيب المراجع والأبحاث المهتمة بالفترة التي سبقت عام 1965 والتي امتدت زهاء قرن شهد ازدهار الماسونية السياسية التي كانت فاعلة في كل تفاصيل الشأن السوري.
الحديث عن الماسونية ليس مفخرة لدى شعوب المشرق عامة، فالتسمية شابها الكثير من اللغط واللغو والغلو أحياناً. ونجد أن السوريين تحاشوا الخوض في الملف ما استطاعوا بوصفه شبهة يربطها البعض بالصهيونية العالمية.
العقل العربي عادةً مسكون بهاجس المؤامرة، وقد يكون العرب وجدوا ضالتهم في الماسونية، فقد ضجّت عشرات الأعوام الماضية بصدور كتب ومؤلفات عن الحركة، حتى أنها نافست كتب الطبخ والأبراج في الرواج. وفي سوريا، قيل إن ما من حجر تحرك من مكانه قبل منتصف القرن الماضي إلا وكان بإشراف محافل الماسونية الشرقية.
شرق الجامع الأموي
في كتابه البحثي “شرق الجامع الأموي: الماسونية الدمشقية 1868-1965″، الصادر عن دار رياض الريس في بيروت، وضع المؤرخ سامي مروان مبيض أمام المهتمين بتلك الحقبة الخفية من تاريخ الزعامات الشامية، 270 صفحة من المعلومات المبنية على مستندات ووثائق.
يبدأ مبيض حديثه بصيغة المشكك بما سمعه من روايات متناقلة على ألسنة الدمشقيين، وخاصة تلك التي سمعها إبان فترة الثمانينات من القرن الماضي والتي كانت تلصق بالماسونيين تهمة الوقوف خلف كل مؤامرة حُكي عنها في المنطقة، ويعمل على تبيان الروايات الحقيقية فعلاً مستنداً إلى اثنين من عائلته، ينتميان إلى “العشيرة السرية”، وهما جده القاضي أحمد عزت الأستاذ، وعم جدته عبد الرحمن باشا اليوسف، والذي كان يشغل منصب أمير الحج الدمشقي، ورئيس مجلس الشورى، وهما منصبان اعتباريان في سوريا، وقتذاك.
ترقّى جده القاضي في الماسونية حتى حصل على رتبة “أستاذ” محفل أمية الكبير، وهو أكبر محافل البلاد حينذاك، أما اليوسف فقد كان عضواً في الماسونية العثمانية. ويعتبر مبيض، بناءً على معرفته بسيرتيهما الوطنية، على حد وصفه، أنه من غير المنطقي شيطنة المنظومة بالطريقة المتداولة في المؤلفات العربية، خاصةً في ما يتعلق بالحديث عن السعي إلى اختراق الإسلام وتدميره.
وبرأيه، لم تكن الماسونية منظومة مؤامراتية، بقدر ما كانت حالةً اجتماعية-سياسية وطنية.
يطرح مبيض في مقدمة كتابه جملة من الأسئلة، لعل أبرزها سؤاله “هل كانت الماسونية موضة في تلك المرحلة؟”، ويضيف آخراً، أكثر تعقيداً: هل كان جداه خائنان أم وطنيان، علماً أنه أجاب مسبقاً عن سؤاله هذا بصيغة المتأكد من وطنيتهما التامة.
وراح الكاتب يبحث عمَّن بقي حياً من الرعيل الأول للماسونية الدمشقية، حتى تمكن من الوصول إلى الدكتور جورج لاذقاني، من “محفل سوريا ولبنان”، في أواسط التسعينيات، وكان لاذقاني وقتها قد تجاوز من العمر المئة عام. ورغم أن مبيض وضع كتابه بعد أكثر من 20 عاماً على هذا اللقاء، إلا أن حديث اللاذقاني أضاف الكثير من معلومات والخفايا التي تتعلق بمحفلهم القديم.
ولعلّ أهم ما خرج به من ذاك اللقاء اليتيم أمران: الأول، تأكيد لاذقاني أن رفاقه الماسونيين الدمشقيين هم مَن أعلن استقلال سوريا مرتين، الأولى عن العثمانيين، والثانية عن الفرنسيين؛ والثاني، إجابته لمبيض عن الاتهامات الموجهة للماسونية بقوله ضاحكاً: “عليك أن تقرأ أكثر يا بني لكي تعرف الحقيقة”.
يقول مبيض عن ذاك اللقاء: “بعد اثنين وعشرين عاماً من ذلك اللقاء، أحاول الإجابة عن بعض تلك الأسئلة في هذا الكتاب، المزود بالكثير من الوثائق والمستندات التي قمت بجمعها خلال السنوات الطويلة الماضية، بعضها مأخوذ من أرشيف المحافل العالمية نفسها، دون الدخول بأي استنتاجات، لا دفاعاً عن الماسون ولا تحقيراً لهم، لأننا في الحقيقة ما زلنا حتى اليوم لا نملك إلا نصف الحقيقة في هذا الموضوع، والنصف الآخر هو عبارة عن مجرد تكهنات”.
مَن هم “ماسون دمشق”؟
يعرّف مبيض ماسون دمشق بقوله: “إنصافاً للتاريخ، لا ينبغي أن نحمّل الماسونية الدمشقية المحلية أكثر مما تتحمل دون معرفة الشرط التاريخي والظروف المحيطة بأعضائها، علماً أنها هي مَن خلعت السلطان العثماني عبد الحميد الثاني عام 1909″، دون أن يفرد معلومات أكثر عن هذا الحدث التاريخي.
يذكر في كتابه أن “الماسونية العالمية وصلت إلى دمشق في نيسان 1868، عبر ماسوني أمريكي يدعى، روبرت موريس”.
بالبحث خارج المؤلف عن روب موريس، نجد أنه عُرف كشاعر كبير وماسوني متمسك بأفكاره، واختصر اسمه من روبرت إلى روب لتمييزه عن شاعر أمريكي آخر، وينسب إله الفضل في ابتكار “وسام نجمة الشرق”، وهو مجموعة تعليمات وشروط اعتمدتها بعض الهيئات التابعة للمحافل الماسونية.
وعن موريس يقول مبيض: “جاء إلى دمشق حاملاً تحية أخوة من نصف مليون ماسوني أمريكي، ومعه ألف دولار أمريكي لتأسيس أول محفل فيها، ولتعريب الماسونية عبر أبنائها”.
ولاختيار دمشق عند موريس دوافع كانت واضحة بالنسبة للمؤلف، يذكر منها اعتباره أن جميع أسرار وقيم العالم القديم موجودة في دمشق، بحسب ما ذكره موريس نفسه في كتاباته، والتي قال فيها إن “دورها وقصورها هي غبار ألف جيل من البشرية”.
يخبرنا مبيض أن “موريس استُقبل بحفاوة بالغة في دمشق”، وكان من بين المحتفين به محمد رشيد باشا، والي العثمانيين على دمشق، والذي “كان ماسونياً بدوره”، ما يقودنا إلى استنتاج أن دمشق كان فيها ماسونيون قبل مجيء موريس.
ويؤكد مبيض أنه “في ذلك الوقت لم يكن هناك أي محفل محلي في دمشق، وكان كل ماسون دمشق منتسبين لمحافل خارجية”، و”دعاهم موريس للاجتماع السري الأول من نوعه في تاريخ المدينة… ليصنعوا في ذلك اليوم تاريخ الماسونية، في دمشق: 7 نيسان 1868”.
مَن دخل إلى المحافل الماسونية من أبناء دمشق دخلها لأنه من النخبة وليس العكس. 11 من رؤساء الوزارات السورية في عهد الانتداب والاستقلال كانوا من الماسونيين ومعهم ثلاثة وزراء خارجية، ورئيسا دولة على الأقل
لاحقاً، وقّع الماسونيون كتاباً موجهاً للمحفل الأعظم الإنكليزي، طلبوا فيه صك براءة لتشغيل محفلهم الأول، بحسب ما يذكر الكاتب، وكان من بين الموقعين عليه نائب القنصل الأمريكي في دمشق ناصيف مشاقة، ومحمد علي محاسن، أحد أعيان المسلمين العاملين في المحكمة العثمانية العليا، والأميران محمد ومحيي الدين الجزائري، ابنا الثائر الجزائري الأمير عبد القادر.
ويعلّق مبيض “رغم أنه من المستحيل وجود أي دليل فعلي على انتساب الأمير الأول للماسونية، ولكن من المؤكد أن ابنيه وحفيده الأمير سعيد الذي صار حاكماً لدمشق عام 1918، كانوا ماسونيين”.
هكذا، فتح الدمشقيون ذراعيهم للماسونية آخذين بالانتساب إليها بكثرة معجبين بقدومها من الغرب المتطور علمياً وصناعياً واقتصادياً. ورغم ذلك، يشير الكاتب إلى تعاملهم الحذر معها، خشية من أي مطامع غربية ببلادهم.
الانتداب الفرنسي و”سورنة” المحافل
بات النشيد الوطني “حماة الديار” هو النشيد الرسمي لكل المحافل الدمشقية، يخبرنا مبيض، حتى باتت تلاوته قبل أي اجتماع ماسوني فرضاً في المحافل، وهو نشيد أقرّه البرلمان السوري، بطلب من رئيسه فارس الخوري، في عهد الرئيس هاشم الأتاسي، في سياق التماس الدولة السورية الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.
يصف الكتاب الخوري بـ”الماسوني العتيق” الذي طوع الماسونية الرسمية بكل ما استطاع لمحاربة الانتداب الفرنسي، ليس ابتداءً باعتماد العَلم الرسمي السوري للمحافل، ومنع دخولها من قبل الأجانب، وابتعادها عن اللباس الأزرق الغربي، وعقد كل اجتماعاتها باللغة العربية،فوفي عام 1935 عقدت كل محافل دمشق اجتماعاً سرياً مغلقاً خرج بنتائج واضحة ومقررات تنص على إنهاء الانتداب دون شروط، تأسيس جيش وطني مستقل، والانضمام إلى عصبة الأمم المتحدة.
أعضاء في محفل قاسيون الماسوني في دمشق، في عشرينيات القرن الماضي | التاريخ السوري
ما ورد في الكتاب في هذا الإطار، ولا سيما التفاصيل المتعلقة باجتماع كل المحافل وإجماعها على طرد الفرنسيين، يشكّل دليلاً على الحالة الوطنية الجامعة لشخوص وقيادات وزعامات دمشق الماسونيين، وقد يكون في سياق الصراع الإنكليزي الفرنسي في ذلك الوقت.
ولا يغفل الكاتب إخبارنا عن مقالة وجيه بيضون، صاحب مطبعة ابن زيدون، عام 1937، والتي حملت اعترافاً بالفساد الماسوني، لأن “عدداً كبيراً من محافلها يعمل بنحو غير قانوني، والكثير من مدّعي الماسونية هم مرتزقة ونصابون، ولتستمر الماسونية عليها أن تتخلص منهم”.
هذا الرأي يوافق عليه الماسوني السوري علي نصر الدين، فقد كتب مقالاً قال فيه “إن بعض إخوته في العشيرة يأتمرون بمحافل أجنبية في نيويورك ولندن”، واصفاً إياهم بالعبيد للغرب. وتبعهما في الرأي الصحافي عبد القادر جمالي الذي قال إن “الماسونية تعاني من تفشي نفوذ المال السياسي، والاحتلال الفرنسي”.
ويروي مبيض: “حين دخول غورو إلى دمشق وقيام بعض الدمشقيين بحمل عربته، لم يعترض وجهاء دمشق من الماسون، معتبرين أن هذا التصرف هو عين الحكمة والصواب”، ويذكر باقتضاب مرافقة حاكم دمشق الماسوني حقي العظم عام 1921 لغورو في زيارة إلى القنيطرة، ثم يذكر اندلاع “الثورة السورية الكبرى”، بعد أربعة أعوام من ذلك، مشيراً إلى وطنية وعظمة الدور الذي لعبه بقية الماسونيين، أمثال عبد الرحمن الشهبندر وجميل مردم بك، في مواجهة الفرنسيين.
يذكر الكاتب أن محافل دمشق لم تكن مرتبطة بشكل عضوي حقيقي بـ”الحكومة العالمية في الظل”، بدليل أن ماسون دمشق مرّوا بنكسات كبرى، ويستدل على ذلك بعدم قدرة رئيس الحكومة السوري جميل مردم بك، الماسوني، “في الحفاظ على لواء إسكندرون وعدم سلخه ليُضمّ إلى تركيا عام 1939، وإخفاقه مرة أخرى في الدفاع عن فلسطين في زمن حكومته الخامسة”.
وبرأيه، “الأمر ذاته ينسحب على عبد الرحمن الشهبندر، وزير الخارجية السوري الماسوني وعرّاب الثورة السورية الكبرى، الذي قضى اغتيالاً، وكذلك خسارة الماسوني حقي العظم رئيس الحكومة، لانتخابات الرئاسة مرتين متتاليتين”.
نشطت الماسونية في دمشق قرناً كاملاً واحتوت كل رجل مهم في الدولة تقريباً، حتى صدر مرسوم موقّع من قبل رئيس الجمهورية أمين الحافظ، عام 1965، قضى بإغلاق جميع المحافل الماسونية وحظر نشاط الجماعة حظراً تاماً وكاملاً
يروي مبيض أنه في دمشق “لا تقل قائمة الماسونيين وقتذاك إبهاراً عن نظيرتها في لندن وواشنطن وباريس، فقبل مئة عام كانت الماسونية ذات شعبية كبيرة في سوريا، وضمت في صفوفها معظم الآباء المؤسسين للدولة السورية”.
ويروي أن مَن دخل المحافل من الدمشقيين دخلها لأنه من النخبة وليس العكس، فـ11 من رؤساء الوزارات السورية في عهد الانتداب والاستقلال كانوا من الماسون ومعهم ثلاثة وزراء خارجية، ورئيسا دولة على الأقل، وأبرزهم السياسيين منهم: جميل مردم بيك، فارس الخوري، عبد الرحمن الشهبندر، حقي العظم، فوزي سلو، أديب الشيشكلي، جميل الألشي، عطا الأيوبي، حسن الحكيم، سعيد الغزي، صبحي بركات، أحمد نامي، لطفي الحفار، بهيج الخطيب.
ومن الأسماء البارزة التي لم تتولَّ مناصب سياسية رسمية: القاضي حنا مالك، رئيس غرفة تجارة دمشق بدر الدين الشلاح، داوود مارديني، مصطفى القباني، مصطفى شوقي، عثمان سلطان، توفيق البيضون، رفيق الجلاد، وكثيرون غيرهم من علية القوم والتجار.
نشطت الماسونية في دمشق قرناً كاملاً واحتوت كل رجل مهم في الدولة تقريباً، حتى صدر مرسوم موقّع من قبل رئيس الجمهورية أمين الحافظ، عام 1965، قضى بإغلاق ومنع جميع المحافل الماسونية وحظر نشاط الجماعة حظراً تاماً وكاملاً.
تحت سقف القانون وفي العلن
يخبرنا الكاتب أن محافل سوريا كانت علنية، ومرخصة ومسجلة في الدولة، وتدفع الضرائب مثل أي شركة أو حزب، وتقدّم ميزانياتها السنوية للحصول على موافقات من وزارة المالية السورية.
ومن شروط الدخول إلى العشيرة كان حصول طالب الانتساب على ورقة “لا حكم عليه”، وكان “الماسون السوري لا يجرؤ أحد على التشكيك بوطنيته، وبعضهم ينتمي لأسر دينية محافظة، حتى أن بعضهم معمم، وحتى يومنا هذا، لا يوجد أي قائمة موثقة تظهر توجهاً دينياً خاصاً للماسون السوري”.
ويضيف مبيض: “كان الماسون الدمشقيون يعلقون شهاداتهم الماسونية الرسمية بخطها الكوفي في مكاتبهم ومنازلهم دون أي خجل أو تحفظ”.
بدأت الأمور تتغيّر في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. بعد أسابيع قليلة من قيام جمهورية الوحدة بين سوريا ومصر في شباط/ فبراير 1958، أتلفت معظم محافل ماسون دمشق أوراقها، يروي مبيض، لأن الماسونيين كانوا يخافون جمال عبد الناصر كثيراً، وهو الذي كان يتهمهم بصلاتهم الخارجية.
رغم ذلك، لم يغلق عبد الناصر شخصياً أي محفل في دمشق خلال توليه رئاسة الجمهورية المتحدة، إنما المشكلة الحقيقية كانت مع عبد الحميد السراج، مدير المكتب الأمني الثاني، ووزير الداخلية، وكذلك رئيس المجلس النيابي أكرم الحوراني، الذي صار لاحقاً نائباً للرئيس، والمعروف بتطرفه للفكر الاشتراكي، والذي حارب الماسونيين محملاً إياهم مسؤولية فقر السوريين وهزيمة الجيش في حرب فلسطين.
ويقول مبيض إن الحوراني كان عراب كل الانقلابات السورية دون استثناء بين عامي 1949 وحتى 1961، دون أن يوضح كيف للحوراني المعادي للماسونية أن يكون مشرفاً على انقلابات جاءت بمجملها بماسونيين للحكم؟
اختصر الماسونيون الطريق على أنفسهم، بعد أن أيقنوا استحالة وجودهم دون التعرض لضغوطات جمة، فأغلقوا محافلهم طوعاً، وأتلفوا مستنداتهم خشية أي فعل من دولة الوحدة ضدهم، وهذا ما يفسر غياب الأوراق والثبوتيات التي كانت ستجعل البحث في الملف أكثر وضوحاً واتزاناً.
نكران الانتساب
يذكّر مبيض مقابلة مسجّلة أجراها رئيس الوزراء السوري حسني البرازي لكلية التاريخ في الجامعة الأمريكية ومدتها 11 ساعة، ولم يأتِ فيها ولو لمرة واحدة على ذكر أنه كان ماسونياً.
الأمر ذاته ينسحب على الرئيس فارس الخوري الذي جمعت حفيدته الأديبة كوليت خوري ذكرياته في كتابين دون أي إشارة أو ذكر لا من قريب أو بعيد إلى كونه من الماسونيين الأوائل، حاله حال رؤساء حكومات آخرين كجميل مردم بك ولطفي الحفار وسعيد الغزي ولطفي الأيوبي.
ويستغرب مبيض على جميع أفراد “العشيرة الحرة” إنكارهم لذاك الانتساب وخجلهم منهم لاحقاً، ويتساءل: “أترى هو خجل أم خوف أم حفاظ على سرية العشيرة أم التزام منهم بقَسم السرية؟”، معلّقاً بأن الجواب حقاً لا يزال غير معروف حتى يومنا هذا.
محافل الشام
في عرضه لأحوال المحافل الدمشقية، يذكر مبيض أنها كان يجب أن تكون واقعة إلى شرق المدينة بحسب تعليمات البنائين الأحرار، “لأن الشمس تشرق من الشرق لتضيء النهار، ورئيس المحفل يجب أن يجلس في الشرق، لتشغيل المحفل وإدارة رعيته، ففي هذه المحافل تجري عمليات التنصيب والترفيع ومعرفة الأسرار والشعارات”.
رجال دولة سوريون في المحفل الماسوني في دمشق، في منتصف الثلاثينيات
ومن المحافل السورية المعروفة: محفل نور دمشق الذي تأسس عام 1898 وأبرز مؤسسيه الخوري وجميل مردم بك، وأغلق أبوابه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ولم يعد افتتاحه لاحقاً؛ محفل قاسيون الكبير الذي تأسس بين عامي 1922 و1924، وكان تابعاً للمحفل الفرنسي الأكبر، ومن أبرز أعضائه رئيس الوزراء السابقون جميل الألشي، ورضا مردم بيك، والتاجر زكي سكر، وأقفل عام 1965؛ محفل سورية الذي تأسس عام 1879، ويتبع للمحفل الإيطالي الأكبر، وأغلق عام 1890؛ محفل سورية الثاني الذي تأسس عام 1924 ويتبع لمحفل لشرق الأعظم الفرنسي، ومن أبرز أعضائه رئيس الحكومة سعيد الغزي، وأقفل عام 1965؛ والمحفل السوري الأكبر الذي تأسس عام 1939، على يد عطا الأيوبي، وكان يتبع للمحفل الإسكتلندي الأكبر، وأغلقه المندوب السامي الفرنسي عام 1940.
الحظر النهائي
“قرار حظر الماسونية جاء نتيجة اكتشاف السلطات السورية أمر الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي عاش وعمل في سوريا لأربع سنوات، وكانت داره محجاً لرجال السياسة والمال والجيش”، يروي مبيض.
ويضيف أن “أمين الحافظ، رئيس الجمهورية وقتذاك، ولصداقته القوية بكوهين كان الأمر محرجاً للغاية له… وبحثاً عن كبش فداء لأخطائه وإخفاقاته قام بضرب كل محافل الماسونية في سوريا، ورغم ذلك وحتى اليوم لم يعتقل أي ماسوني في تاريخ دمشق بتهمة الانتساب للعشيرة”.
يختم مبيض كتابه بجملة أسئلة: “هل كانت الماسونية شراً في دمشق، أم تنظيماً أهلياً حمل أوزار سنوات من القهر والفشل والأحلام الضائعة؟ هل كان الماسون رجالاً أفاضل يسعون إلى تطوير مجتمعهم، أم أن الماسونية استخدمتهم لتحسين صورتها في المشرق العربي؟”.
ورغم أنه يتركنا أمام سيل من أسئلة بلا إجابات حاسمة، يُحسب له أنه قدّم بحثاً علمياً ترك فيه للقارئ اتخاذ قراره وتكوين رأيه في المجتمع الماسوني، استناداً إلى كل ما عرضه له من وثائق تنشر للمرة الأولى.