المقاربة التنموية التشاركية
بقلم: عبد الله تركماني
المقاربة التنموية التشاركية
يتعلق الأمر بمقاربة قوامها تمكين المواطنين من المساهمة في بلورة حلول ملائمة لمشكلاتهم المتعلقة بتلبية حاجياتهم الأساسية وكذا بآلياتهم وأنماطهم الإنتاجية، في نطاق وضعهم كمسؤولين عن اتخاذ القرارات وتفعيلها ومتابعتها. من هنا يصبح المشروع التنموي تلقائياً مدرسة للديمقراطية، تتعلم فيها الدولة وأجهزتها مراجعة أساليبها في اتجاه آفاق أوسع للشراكة، ويتعلم فيها أفراد الجماعة إنضاج شخصية جماعية مستقلة ومبادرة مستعدة للاضطلاع بمسؤوليات التغيير الاجتماعي والانخراط في تشخيص، وتحليل، وتقييم المعوّقات والمؤهلات، واتخاذ قرارات أو اختيار حلول معينة تجاه المشروعات التنموية المقترحة. إنها مقاربة بديلة تقترح الطرق والأساليب التي تساعد الجماعات على التدبير الذاتي وعلى الفهم والشعور بامتلاك مشاريع التنمية التي ستحدث تغييرات دائمة في حياتها.
إنّ مقاربة من هذا النوع تضع الكائن البشري في مركز الاهتمام قائداً للمشروع وموضوعاً له، بحيث يحضر في جميع مراحل تدبير مشاريع وبرامج التنمية، من التشخيص والتحليل إلى التخطيط والتنفيذ إلى التتبع والتقويم. كما أنّ هذه المقاربة، التي تبنتها مجمل المنظمات الدولية الناشطة في المجال التنموي، تسمح بتقليص مساحات الإقصاء الاجتماعي من خلال الأخذ بعين الاعتبار حاجيات وتطلعات الجماعات الأكثر هشاشة، من قبيل المرأة وذوي الاحتياجات الخاصة والطبقات الفقيرة.
وفي هذا السياق تبدو المواطنة والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، وكل منهما سبب ونتيجة للأخرى. فالمواطنة حقوق وواجبات يرتبها القانون لأفراد المجتمع ويضمن مباشرتهم لها على قدم المساواة دونما تمييز بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو العرق، ويشكل إقرارها وكفالة ممارستها ركيزة الديمقراطية بوصفها نظاماً للحكم يلزم فيه أن يكون للفرد صوت مسموع في دوائر صنع القرار. ولابد للديمقراطية من مواطنين يقولون ويفعلون، ويتعذر قيامها واستقامة أمرها مع رعايا يسمعون ويطيعون.
إنّ التنمية المستدامة التي تسعى إلى تحقيق حاجات الشعب السوري حاضراً وتأمين استمرارها مستقبلاً، بما هي نمط ثقافي له أبعاد اجتماعية واقتصادية وبيئية ومؤسساتية، تواجه اليوم تحديات وعقبات على مستوى ثقافة التنمية السائدة وعلى مستوى المؤسسات وإدارة الشؤون العامة، ومن أهم هذه التحديات نذكر:
1 – أزمة المشاركة، وهنا لا نريد أن نثير الجانب السياسي من المسألة بشكل مباشر، بل جانب إشراك كل الناس، وكل فئات المجتمع في أية عملية تنمية فعلية وصحيحة، لأنه من أول شروط تحقيق التنمية واستدامتها، مشاركة أبناء المجتمع كافة فيها، مشاركة الناس في نقاش الخيارات المتاحة، وشعورهم بأنّ لهم دوراً ورأياً وحضوراً في هذه المسألة، بل شعورهم بأنّ هذه العملية تمثل تطلعاتهم ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
2 – ضعف هيئات المجتمع المدني، فبالرغم من وجود العديد من المؤسسات المهنية والنقابية والعمالية والبيئية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم بنشاطات قيّمة في مجال الحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان ومسائل اجتماعية واقتصادية مختلفة، إلا أنّ هذه المؤسسات ما زالت دون حجم التحديات والحاجات القائمة.
3 – هيمنة المركزية وضعف الحياة البلدية أو المجالس المحلية، إذ تتميز الأنظمة الإدارية – بشكل عام – بهيمنة أجهزة الدولة المركزية على حياة الهيئات المحلية من بلديات ومجالس أو إدارات مستقلة، وبضعف اللامركزية الإدارية.
4 – ضعف حضور دولة الحق والقانون، فمسألة تعادل الفرص والمساواة أمام القانون مسألة حيوية جداً، وهي تشعر المستثمرين والمواطنين بالطمأنينة والاستمرار في عملية التنمية، وبدونها يسيطر جو من انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، وهو ما يولّد قلقاً اجتماعياً عميقاً يعيق أية عملية تنموية فعلية.
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل التنمية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب فشل التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي. وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من قطاع الدولة، إذ أننا نعتقد أنّ أية تنمية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ أنه لابد من تدخل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعب السوري.
إنّ نجاح الخطط التنموية والتعاطي المجدي مع تحديات العولمة واقتناص فرصها، يتطلبان توفير شروط كثيرة، تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكّن المواطنين من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والمفاضلة، بحرية ووعي واستقلالية، بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين الأعباء والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
وغني عن القول إنّ الرقابة الشعبية هي وحدها التي تستطيع القيام بمهمة الكشف عن جوانب القصور ومواطن الفساد والممارسات المنحرفة بفعالية، فأجهزة الرقابة الحكومية تفتقر إلى الحيادية والنزاهة، وتخضع في كثير من الحالات لضغوط المسؤولين عن التقصير والمنتفعين من الفساد، مما يجعلها غير قادرة على إظهار الحقائق وإدانة المقصّرين والمفسدين.
إنّ التنمية والحكم الصالح يمكنهما السير معاً إذا ما توفرت إرادة سياسية، وتشريعات ضامنة ومؤسسات وقضاء مستقل، ومساءلة وشفافية، وتداول سلمي للسلطة، ومجتمع مدني ناشط، ورقابة شعبية وإعلام حر. ولهذا فإنّ التعاطي المجدي مع الإشكاليات والتحديات إنما يستهدف اختيار السبل الصحيحة والمناسبة لإحداث التنمية الإنسانية المنشودة والشاملة، في ظل حكم صالح/راشد ورقابة فعّالة من قبل مؤسسات المجتمع المدني.
إنّ النظرة المعاصرة إلى التنمية هي نظرة شاملة، بمعنى أنها لا تُختزل بالتقدم الاقتصادي بل تشمل الجوانب الاجتماعية والبيئية للتنمية، إضافة إلى الحقوق السياسية للمواطنين وصولاً إلى الحرية والديمقراطية. فإن لم يترافق النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والحفاظ على البيئة للأجيال القادمة وتأمين الحقوق المدنية للمواطنين وتمكينهم من تطبيق مبادئ الديمقراطية بما فيها حرية الخيار وخضوع السلطة السياسة للمساءلة، فإنّ التنمية بمعناها الواسع المعاصر تعتبر تنمية ناقصة أو محدودة الجانب.