المملكة العربية السعودية تحصد ما زرعت
بقلم: ديفيد هيرست
بعد هدر الفرص وارتكاب ما لا يحصى من الخطايا، ها هي السياسة الخارجية للمملكة تأتي بنتائج عكسية في كل أرجاء المنطقة، وما هذه إلا البداية فقط.
علامتان- في الأيام الاخيرة – أشارتا إلى تراجع قدرة الرياض على إحكام قبضتها على جوارها.
أما الأولى فكانت صاروخاً بعيد المدى أطلقه الحوثيون على مطار جدة الذي يقع إلى الغرب من مكة. وأما الثانية فكانت انتخاب ميشيل عون رئيساً للبنان بضمانة الدعم الذي قدمه له سعد الحريري، رجل الأعمال الذي طالما أغدق عليه السعوديون بسخاء. وعون هذا مدعوم من قبل حزب الله والنظام في دمشق، رغم أنه قاتل ضده عندما كان جنرالاً في الجيش.
كلا التطورين يعتبران بمثابة الضربة المرتدة أو الصفعة في وجه المملكة السعودية. ما من دولة عربية مجاورة إلا ولها حكاية يمكن أن تسردها حول التأرجح المضطرب في المزاج والذي يعبر عنه في الرياض بعبارة “السياسة الخارجية”. خلال هذا الوقت وقع السعوديون في ثلاث خطايا استراتيجية.
خذ العراق على سبيل المثال. كان السعوديون قد منحوا صدام حسين 25 مليار دولار على شكل قروض منخفضة الفائدة حتى يخوض حربه مع إيران على مدى ثمانية أعوام. وفي عام 1990، بعد عامين من انتهاء الحرب، كان صدام يغرق في الدين، وسعت الرياض والكويت إلى النيل منه وتقويض نظامه من خلال رفضهما تخفيض إنتاج النفط، وكان ذلك واحداً من الأسباب التي دفعته إلى غزو الكويت. بعد ذلك، دفع البلدان، السعودية والكويت، ما مقداره 30 مليار دولار إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتشن ما بات يعرف بحرب الخليج الأولى في عام 1991.
وفي عام 2003، راحت المملكة تلعب على الحبلين. حينها، كان ولي العهد الأمير عبد الله قد حذر الرئيس بوش من عواقب غزو العراق وأعلن وزير الخارجية السعودي أن المملكة لن تسمح باستخدام قواعدها. إلا أن الذي حصل في الواقع كان العكس تماماً، حيث أصبحت الأراضي السعودية والقواعد العسكرية فيها مرافق أساسية لا غنى لقوات التحالف عنها.
ثم جاءت الإطاحة بصدام حسين واجتثاث البعث وما خلفه ذلك من فراغ في السلطة ليشكل غزو العراق هدية تقدم لإيران على طبق من فضة. بدأت إيران نشاطها في العراق بتقديم خدمات خيرية للجنوب الذي تقطنه أغلبية شيعية، ثم تطور دورها لتصبح راعياً سياسياً أساسياً، ثم أصبحت في نهاية المطاف قوة عسكرية تهيمن على البلاد وتتحكم بالمليشيات الشيعية التي تعمل نيابة عنها.
ثم خذ اليمن مثالاً آخر. على مدى عقود كان رجل السعودية في اليمن هو الدكتاتور علي عبد الله صالح، والذي أنقذ حياته الأطباء السعوديون بعد أن تعرض لإصابة بحروق بليغة بعد تعرضه لهجوم بالقنابل. وكما كتبت في حينها، تواصل السعوديون، وشاركهم في ذلك الإماراتيون، مع الحوثيين وشجعوهم على الزحف باتجاه العاصمة اليمنية صنعاء.
كانت الخطة تقضي بالتحريض على إشعال حرب مع التجمع اليمني للإصلاح الذي يمثل الإسلاميين في اليمن. إلا أن الخطة جاءت بنتائج عكسية مذهلة نظراً لأن الحوثيين زحفوا على صنعاء ودخلوها دون أن يقاومهم أحد ثم بدأوا منها الزحف على عدن. عندها فقط أدرك السعوديون ما ارتكبوه من خطأ حيث وفروا لإيران مدخلاً جديداً في المنطقة. وقع السعوديون في حيص بيص ولم تبق لديهم خيارات تذكر.
وكانت المحصلة لجوء السعودية إلى حملة قصف جوي أحرقت الأخضر واليابس ولم تبق في البلاد حجراً على حجر رغم إخفاقها في استعادة صنعاء – حتى الآن – أو في الحيلولة دون أن تنطلق الصواريخ باتجاه جدة أو باتجاه مكة.
ولنأخذ الآن مصر نموذجاً ثالثاً. في هذه الحالة لا يمكن القول بأن الملك عبد الله لم يلجأ إلى خيار استراتيجي محدد، بل لقد فعل. لقد قرر الوقوف في وجه الثورة المصرية، وكانت تلك أكبر خطيئة ارتكبتها المملكة العربية السعودية على الإطلاق.
إلى جانب كل من الإماراتيين والكويتيين، أنفق السعوديون ما يزيد عن 50 مليار دولار على رجل فشل فشلاً ذريعاً في جلب الاستقرار إلى مصر وانتهى به المطاف أن يغازل عدو السعودية، إيران. منذ البداية، كانت علاقته بالسعودية تقوم على المال الفوري (الكاش). وكان السيسي في عام 2013 قد تردد لثلاثة شهور قبل أن يغدر برئيسه محمد مرسي.
لقد أقدم على ذلك فقط حينما حصل على وعد من دول الخليج بتلقي مبلغ 12 مليار دولار، كما أخبرني أحد مصادري وكما أشرت إليه في كتاباتي من قبل. ما الذي حصله السعوديون مقابل ما دفعوه من أموال؟
تبادل المواقع
يمكن للمرء أن يبالغ في خطورة الخصومة الحالية بين السعودية ومصر. بل يرى البعض أن السعوديين سيصعب عليهم التخلي عن السيسي بعد أن استثمروا فيه بسخاء منقطع النظير.
ومع ذلك، وحسب المعطيات الحالية، لقد أخفقت مصر في تزويد السعوديين بقوات للمشاركة في حرب اليمن وصوتت لصالح مشروع القرار الروسي حول حلب الأمر الذي اشتاط له السعوديون غضباً. وانضمت مصر إلى المحادثات في سويسرا بعد طلب من قبل إيران لتعديل الكفة في مواجهة الأقطار التي تعارض النظام السوري، كما أنها أقامت علاقات مع حزب الله ومع الحوثيين.
يقول الدبلوماسيون المصريون إن الهدف من ذلك هو التوسط لوضع حد للحرب في اليمن ودعم الدولة السورية في حلب. إلا أن النتيجة كانت إقدام الرياض على تعليق تزويد مصر بسبعمائة ألف طن من منتجات البترول شهرياً.
كانت محصلة الوقوع في الخطايا الثلاث أن إيران والسعودية تبادلتا المواقع. بينما كانت إيران تبدو معزولة قبل حروب العراق، وكانت السعودية تتمتع بنفوذ واسع في الإقليم، ها هي المملكة العربية السعودية اليوم محاطة بالصراعات وبالدول المتهاوية. تخوض المملكة الآن حرباً في الشمال وحرباً في الجنوب.
وأما خصمها الأكبر، إيران، فهي في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي اليمن، وتتفاخر بفرض هيمنتها على أربع عواصم عربية. لقد أنفقت المملكة العربية السعودية عشرات المليارات على مشاريع التدخلات الخارجية، إلا أن الإقليم اليوم أقل استقراراً من أي وقت مضى. في نفس الوقت بلغت أزمة القيادة السنية مستويات غير مسبوقة، بينما يضطر الملايين من أهل السنة على ترك مدنهم والتوجه نحو مخيمات اللاجئين أو الهجرة إلى الخارج، وما لهم من حام ولا نصير.
حليف مؤقت… تخبطات وارتباكات استراتيجية
لم يسلم الاستقرار الداخلي في السعودية من التأثر كذلك. كان الأمر فيما سبق يتأسس على ميثاق في غاية البساطة: “نحن ندفع لكم (المال)، وأنتم عليكم أن تخرسوا.” ولكن، بعد انهيار أسعار البترول ورفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، بدأ السعوديون يقلبون المثل غير المنطوق رأساً على عقب ويسألون أنفسهم: “إذا كانت الدولة لا تملك الإنفاق علينا، فلماذا يتوجب علينا أن نخرس؟”
تعتبر المملكة نفسها قائدة في العالم العربي السني، ولكن حتى تقود فأنت بحاجة إلى رؤية، ليس فقط لنفسك أو لعائلتك الحاكمة، وإنما أيضاً لشعبك (ولشعوب المنطقة)، لم يعد ثمة شك في أن المملكة السعودية عاجزة عن تقديم مثل هذه الرؤية.
على النقيض من إيران، لم تعمل المملكة العربية السعودية بتأن وصبر وهدوء على بناء شبكة من الحلفاء المحليين (عبر المنطقة). قد ينذر (مخطط ايران) ذلك بكارثة لحلب أو الموصل، وذلك أن جهودها تؤدي إلى مزيد من الانقسام الطائفي، ولكن لا يملك أحد الادعاء بان إيران لا تملك خطة. فهي تسعى جاهدة إلى تغيير التحكم الجيوسياسي والتركيبة العرقية في الإقليم، وتأمل في أن تهيمن على كل البلاد الواقعة ما بين إيران والبحر المتوسط.
وفي سبيل تحقيق ذلك تعمل إيران بجد على إيجاد حلفاء استراتيجيين على المدى البعيد. أما التحالفات التي يقيمها السعوديون فهي جميعاً مؤقتة، إما مع دول أو مع زعماء، كما ظهر واضحاً للعيان في لبنان هذا الأسبوع.
عندما أتيحت أمام السعودية الفرصة للجوء إلى خيار استراتيجي لجأت إلى الخيار الخطأ. وكانت الفرصة قد أتيحت لها بفضل الانتفاضات العربية في كل من تونس ومصر. لقد كان محمد مرسي في غاية الوضوح حينما تقدم بعرضه إلى المملكة العربية السعودية، والتي كانت وجهته الأولى في السنة اليتيمة التي حكم فيها.
قال لهم مرسي: “أقول، إن المملكة العربية السعودية بحاجة إلى الشقيقة الكبرى مصر، ومصر الكبرى بحاجة إلى المملكة العربية السعودية. وإذا اتفق هذان الشريكان، إذا اتفق البلدان، الشعبان، إذا اتفقا فستكون هناك نهضة حقيقية في دنيا العرب، بل والمسلمين. وإن شاء الله سيكون ذلك. إذا كانت المملكة العربية السعودية هي راعية للمشروع السني الوسطي المعتدل، مشروع أهل السنة والجماعة، إذا كانت له راعية، فإن مصر لهذا المشروع حامية.”
نعم ونقم
إلا أن الملك عبد الله كان قد حزم أمره وقرر ماذا يريد. كان رد فعله على الإطاحة بحليفه حسني مبارك ذا طابع شخصي، حيث أنه تصور نفسه في مكانه، وتخيل أن ما حدث لرفيقه كان يمكن أن يحدث له. وبناء عليه، ومنذ الثالث من يوليو 2013 وحتى وفاة الملك عبد الله في العام الماضي، صار الإسلام السياسي يعامل على أنه الخطر الاستراتيجي الذي يتهدد المملكة.
كانت تلك غلطة قاتلة. كان من الممكن أن يشكل الربيع العربي فرصة سانحة أمام السعوديين، فقد عرض عليهم مرسي حلفاً (وشراكة استراتيجية) تكون المملكة العربية السعودية مع مصر بموجبه في ريادة ورعاية الوضع العربي الجديد بينما تلعب مصر دور الحامي لهذا الوضع المتشكل. وهذا بالضبط ما يحتاجه السعوديون اليوم وما لا يستطيع منحه إياهم السيسي.
كان من تداعيات سحق الإسلام السياسي فتح المجال على مصراعيه أمام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتطورت الحالة السيناوية من مشكلة محلية إلى مشكلة إقليمية. وشكلت حالة الحرب شبه الدائمة كارثة اقتصادية بالنسبة للمملكة، رغم أنها كانت بمثابة النعمة على مصنعي السلاح مثل شركة بي إيه إي البريطانية BAE Systems.
تأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين كأكبر منفق على التسلح، حيث تنفق على شراء السلاح ما يقدر بمبلغ 56 مليار دولار، أي ما يعادل 25 بالمائة من ميزانيتها. تبلغ حصة شركة بي إيه إي من ذلك 1.14 مليار دولار مقابل مقاتلات نفاثة من طراز يوروفايتر تايفون .Eurofighter Typhoon قد يصعب تصديق ذلك بسبب حملة القصف المروعة التي يتعرض لها اليمن، إلا أن المملكة العربية السعودية تملك أفضل وأحدث قوات عسكرية في المنطقة، والأكثر نصيباً من حيث ما ينفق عليها من أموال.
الوجهة الأخرى للأموال السعودية هي الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذه الأموال التي تعود ملكيتها للدولة باتت في خطر محدق بعد إجازة قانون العدالة ضد رعاية الإرهاب أو ما يعرف اختصاراً باسم “جاستا” JASTA والذي سيسهل بموجبه على الأمريكيين من ضحايا الحادي عشر من سبتمبر الترافع مدنياً أمام المحاكم الأمريكية لمقاضاة المملكة العربية السعودية. بلغني من مصادر أن دولة الإمارات العربية المتحدة أتمت سحب أموالها من الولايات المتحدة. تارة أخرى، يؤخذ السعوديون على حين غرة (إذ لم يسحبوا أموالهم بعد)، وها هم الآن يجدون أنفسهم مضطرين إلى بيع ممتلكاتهم واستثماراتهم على عجل وبأسعار زهيدة.
تخيل ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن المملكة العربية السعودية استثمرت هذه الأموال في الإقليم، ولو أنها أنفقت هذا المال في دعم الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في مصر واليمن، بغض النظر عمن فاز في الانتخابات.
لكانت مصر الآن في أوج عملية تحولها الديمقراطي. ولتراجع الخطر الذي يشكله صالح والحوثيون. لربما ظلت حركة التمرد موجودة في سيناء، إلا أنها ستكون قد تراجعت بشكل ملحوظ وباتت أقل خطراً. ولوجد الإسلاميون في مختلف أرجاء العالم العربي نموذجاً يحتذى من النظام الديمقراطي الناجح والبعيد كل البعد عن ممارسة العنف ماثلا أمامهم. ولضعف الدعم الذي يتمتع به الجهاديون، وهو ما حدث فعلاً بعيد ثورة يناير 2011.
لو حصل ذلك لما تجرأ أحد على تحدي السعوديين في زعمهم بأنهم بنك العالم العربي وبأنهم يشكلون بالنسبة للمنطقة ما تشكله ألمانيا بالنسبة لأوروبا. ولكانت العائلة الحاكمة في وضع يؤهلها للبدء بعملية الإصلاح السياسي الداخلي، وزيادة الشفافية السياسية، وحتى إجراء الانتخابات، وتحويل النظام نحو ملكية دستورية.
ولو حصل ذلك لما فقدت السعودية ثروتها، ولما وصلت إلى الحال الذي هي فيه الآن من مطالبة المواطنين السعوديين بشد الأحزمة بينما يستمر الأمراء في إرخائها.
ترجمة “عربي21” عن ميدل إيست آي.
الأربعاء، 02 نوفمبر 2016