تشريح الثورة
عبدالله بن بجاد العتيبي
يحتاج الإنسان على الدوام لتجديد معارفه وتغذية وعيه وتنظيم ذهنه بحسب المتغيرات والمستجدات، حتى يستطيع مواكبة الأحداث ومراقبة التطورات بمنطقٍ متماسكٍ ورؤيةٍ خاصة.
من أهمّ مصادر تطوير المعرفة والوعي والذهن، ذلك المنتج الإنساني العظيم “الكتاب”، ومنذ عام ونيّف ومع أحداث ما سمّي “الربيع العربي” كان يجب عدم الاكتفاء بالمعارف القديمة، بل الانكباب على تطوير المعرفة تجاه تلك الأحداث بأبعادها المتعددة، وزيادة التغذية المعرفية المتخصصة تجاهها، وهو ما فعله كثيرون عبر متابعة المعلومات الجديدة والآنية وعبر محاولات بناء رؤية أكثر تماسكاً تجاه مشهدٍ مختلطٍ وفوضويٍ ومتناثر.
وقفت ضمن هذا السياق على كتاب للباحث والمؤرخ والأكاديمي الأميركي كرين برينتن الذي ترجمته “الفارابي” بالتعاون مع “كلمة” تحت عنوان “تشريح الثورة”، وقد سعى الباحث بمنهجية صارمة، وحذرٍ علميٍ ظاهرٍ من إطلاق التعميمات، لرصد خلفية الثورات، وقد حدّد الباحث أربع ثوراتٍ كبرى في الغرب هي: الثورة الإنجليزية والأميركية والفرنسية والروسية، ومع اعترافه بحجم الاختلافات بينها، إلا أنّه استطاع الخروج بنتائج علميةٍ وتعميماتٍ مفيدةٍ.
لقد كان يخلط في جميع فصول الكتاب بين مشروعٍ مفاهيمي اعتمده وشرحه والتزم به مع التزامٍ بعناصر التفكير العلمي، وكان يبين دائماً عن مخزونٍ ثقافيٍ واسعٍ وجهدٍ بحثيٍ مميّزٍ، فهو يجمع بين مصادر مختلفةٍ من شتى الدول ليبرز نتيجةً صغيرة أو كبيرةٍ يرى أهميتها، ويسعى للتدليل عليها، فمرةً يأخذ مقطعاً من روايةٍ روسيةٍ ويجمع إليه مثلاً إنجليزياً ويضيف تصريحاً سياسياً أميركياً ويرصد مسرحية فرنسية ليعود عليها جميعاً بالتحليل والضبط، ضمن سياق الفصل الذي يتحدث فيه ليخرج بتعميمٍ ما يعتقد أنّه يوضح هذا الجزء أو ذاك من صورةٍ أكبر.
لقد كان يصرّح بوضوحٍ بأن علاقات المجموعة البشرية غير قابلة ٍللسيطرة مثل “الجوّ”، ويتحدث عن دراسة الثورات بما يشبه “الروح”، وينظر للثورات بمنظار “الحمّى” مستعيراً من علم الجراثيم، وكان دائم التنقّل بين المعلومة والنقد والمقارنة والاستنتاج بأسلوبٍ شائقٍ وأفكارٍ متماسكةٍ ورؤى تتراكم مع فصول الكتاب.
لقد نشر الكتاب قديماً في نهاية الثلاثينيات الميلادية، ولكنّ المؤلف عاد عليه مراجعاً وموسّعاً في منتصف الستينيات، وقد أفلح المترجم سمير الجلبي في نقل أفكار المؤلف باتساقٍ فكري وجمالٍ لغويٍ يفتقده كثيرٌ من المترجمين.
لن يألو القارئ المتفحص والناقد جهداً في أن يختلف مع الكاتب في هذا الموضوع أو ذاك، ويناقشه في هذه الفكرة أو تلك، وربما في المنطلق العام للكتاب أو في المنهج الذي اعتمده الكاتب، ولكنّه بالتأكيد سيجد نفسه أمام سيلٍ من المقارنات مع الواقع العربي الحديث، وأمام امتحانٍ يحفّز ذهنه أثناء القراءة على مناقشة الأطروحات ومحاكمة الرؤى والأفكار، مع حجم الأسئلة الكبير التي يثيرها لديه.
أحسب أنّ قارئي الكتاب عموماً وبخاصةٍ غير المختصين في قراءة الثورات سيجدون الكثير من الأفكار الثرّة والمعلومات الجديدة والمقارنات المحكمة، والأكثر تأكيداً أنهم بعد قراءة الكتاب لن يكونوا مثلهم قبله، وذلك نجاحٌ وأيّ نجاحٍ لأي مؤلفٍ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه.