حول أوضاع المسيحيين في الشرق
عندما كان الحديث يتناول أوضاع المسيحيين في الشرق، كان الحديث يدور حول محور دورهم في صناعة الشخصية المشرقية-العربية. سواء من حيث الثقافة والتربية، أو من حيث الاقتصاد والاجتماع، أو من حيث النضال الوطني. كانت أدوارهم ومواقفهم وأدبياتهم في هذه المجالات كافة جوهرية وأساسية.
وكانت تعبر بواقعية عن أصالتهم المشرقية وعن التزامهم بقضايا أمتهم وفي صناعة مصير ومستقبل دولهم الوطنية. ولا عجب في ذلك فهم جزء أساسي من نسيج المجتمعات العربية المتعددة. كانوا قبل الإسلام، واستمروا مع الإسلام. وكانت لهم في المرحلتين مساهماتهم البنّاءة والمباشرة في انتاج الحضارة الإسلامية التي هي موضع اعتزاز المسلمين والمسيحيين معًا.
أما اليوم، فإن الحديث عن أوضاع المسيحيين في الشرق يتمحور حول الهجرة: أسبابها المباشرة وغير المباشرة. وحول نتائجها وانعكاساتها، وكلها سلبية ليس على الحضور وعلى الدور المسيحيين فقط، إنما على شخصية العالم العربي وهويته، وعلى مستقبله ومصيره.
إن المتغيرات الديموغرافية التي تعصف بالمنطقة بصورة عامة، وفي كل دولة من دولها بصورة خاصة، تبعث على القلق. صحيح أن الهجرة تشمل مسلمين ومسيحيين. وصحيح أن ثمة أسبابًا اقتصادية واجتماعية تفرض الهجرة على الجميع، وخصوصًا في لبنان والعراق ومصر وفلسطين (أو ما تبقى من فلسطين)، إلا أن الصحيح أيضًا أن للهجرة المسيحية تحديدًا سببًا إضافيًا، وهو تصاعد المد الأصولي الإسلامي المتطرف. الأصولي ليس بمعنى العودة إلى الأصول، ولو كان كذلك لكان خيرًا، ولكن بمعنى احتكار الإيمان واحتكار الطريق إلى الله، وتكفير بل وإلغاء كل من هو خارج هذا المفهوم الاحتكاري. حتى أنه بات ينظر إلى هذا التطرف على أنه متلازم مع اتساع الهجرة المسيحية، بل ومسؤول عنها أيضًا، وهنا الطامة الكبرى.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الظاهرة السلبية والخطيرة تتلازم أيضًا مع ظاهرة سلبية وخطيرة أخرى، وهي الإسلاموفوبيا، أي الخوف من الإسلام وكراهيته عن جهل به. فظاهرة الهجرة المسيحية من الشرق تعزز من ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، الأمر الذي يلحق بالإسلام من جراء هذه الهجرة ضررًا مزدوجًا. الضرر الأول: هو تعريض المجتمعات المشرقية الإسلامية-المسيحية إلى التفسخ، وفقدان جماعات أساسية من مكونات نسيجها الوطني تتمتع بقدر عال من الثقافة والمعرفة والخبرة والتي تمد هذه المجتمعات بثروة التنوع الديني والثقافي، أما الضرر الثاني فهو توظيف الهجرة المسيحية بشكل يوحي بأن الإسلام يضيق ذرعًا بالآخر المختلف، وأنه لا يقبل سوى نفسه، بل وأحيانًا لا يقبل حتى نفسه.
من أجل ذلك فإن ثمة أمرين لا يمكن تبريرهما ولا السكوت عليهما. الأمر الأول هو ضعف الشعور الإسلامي العام بأبعاد الهجرة المسيحية من الشرق، بخطرها على هوية الشرق وعلى مكوناته البشرية والفكرية والثقافية والروحية المتعددة، وكذلك بخطرها على سمعة الإسلام وصورته في العالم؛ والأمر الثاني هو تنامي قوة الشعور الغربي المتعاطف مع المسيحيين الشرقيين إلى حد المطالبة بتسهيل هجرتهم وتوطينهم وتذويبهم في الدول التي يهاجرون أو يهجّرون إليها. سوف أتحدث لاحقًا عن الأمر الأول، لأن خطورته لا تبرز إلا من خلال تبيان خطورة الأمر الثاني. وفي هذا الاطار أسجل المواقف الآتية:
1 – يقول وزير خارجية الفاتيكان جيوفاني لاجولاGiovani Lagola : “إن على الكنيسة أن تتخذ مواقف واضحة وجريئة للتأكيد على الهوية المسيحية في الشرق الأوسط”. فهل للمسيحية المشرقية هوية غير مشرقيتها وعروبتها؟ إن تعريف الهوية أمر معقد ومتداخل ليس مكانه هنا، ولكن التبسيط في التعريف قد يوحي بربط المسيحية بالغرب، وهو إيحاء في غير مكانه، وتاليًا لا يخدم قضية الوجود المسيحي المشرقي.
2 – وصف الكاردينال جان لويس تورانJean Louis Tauran ، وزير الخارجية السابق ورئيس قسم الأرشيف والمعلومات في الفاتيكان، المسيحيين في الشرق بأنهم “مواطنون من الدرجة الثانية نتيجة للإسلام المتشدد، وأن الكثير منهم أجبروا على البحث عن مكان أفضل للعيش”. لا بد من التساؤل هنا عن المواطن من الدرجة الأولى في ظل أنظمة تفتقر إلى الحد الأدنى من الديموقراطية؟ أليست المعاناة عامة وشاملة؟.
3 – نظّم المونسنيور فيليب بريزارPhilippe Brizard ، رئيس مؤسسة الشرق المفتوح Oeuvre d’Orient الخيرية، لقاءًا خاصًا في باريس، في شهر أيار 2007، حضره سبعة من بطاركة الشرق تحدثوا إلى مجموعة من رجال السياسة كان من بينهم الرئيس السابق جاك شيراك حول التحديات والمصاعب التي يواجهها مسيحيو الشرق. هنا أيضًا لا بد من التساؤل: كيف ينظر المسلمون في الشرق إلى مؤتمر من هذا النوع؟ وكيف سيتعاملون معه في ضوء المخاوف المتوارثة من مخاطر التدخلات الخارجية تحت غطاء حماية المسيحيين المشرقيين؟
4 – كتبت السيدة دومينيك كوينيوDominique Quinio ، رئيسة تحرير جريدة الصليب الفرنسية La Croix مقالاً قالت فيه: “كانت الكنيسة تقلل من الصعوبات التي يواجهها المسيحيون في الشرق الأوسط. وكانت تعزو موقفها هذا إلى التضامن مع الفلسطينيين، وكذلك إلى الاعتقاد بأن اللجوء إلى الصمت من شأنه أن يحافظ على المسيحيين. أما الآن ومع التشدد الإسلامي وصعود حماس، اتخذ الفاتيكان موقفًا أكثر شدة. فالفاتيكان يبدو وكأنه بدأ الضغط على الدول الغربية في الجبهة الديبلوماسية من أجل التأشيرات Visas ومن أجل أوضاع اللاجئين المسيحيين الذين يتطلعون لمغادرة العراق ومناطق أخرى”. وهنا كذلك لا بد من التساؤل هل بتشجيع الهجرة والاستيعاب تعالج قضية الوجود المسيحي، أم بتشجيع الصمود والتجذر في الأرض المشرقية التي انبثقت منها المسيحية؟
5 – نشرت الجريدة ذاتها La Croix (التي توزع أكثر من مئة ألف نسخة يوميًا) تحقيقًا صحافيًا ذكرت فيه “أن الحضور المسيحي في الشرق الأوسط (والذي قدرته بنحو عشرة ملايين مؤمن) يواجه الآن تهديدًا حادًا وخطيرًا من المتطرفين الإسلاميين”. وذكرت الجريدة أيضًا “أن الفاتيكان بدأ التخلي عن موقفه التقليدي السابق، والمتماثل مع الموقف الفرنسي الذي يربط قضية المسيحيين في الشرق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية”. إذا كان ذلك صحيحًا فإنه يشكل عنوانًا إضافيًا إلى المؤشرات السلبية في التعامل مع هذه القضية، ولأنه تحليل صحافي وليس تقريرًا رسميًا فليس من الحكمة التوقف عنده، ولكن من المهم التنبه له والتنبيه إليه.
هذه الاستشهادات هي غيض من فيض، وهي تتضخم مع الوقت مثل كرة الثلج، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان الأدبيات التي راجت في القرن التاسع عشر حول أوضاع الأقليات، وهي الأدبيات الدينية-السياسية التي استخدمت ذريعة للتدخل باسم الدفاع عن حقوق المسيحيين من دون أن يطلب المسيحيون ذلك، بل أن التدخل جاء في الوقت الذي كانت فيه المسيحية تتعرض في الغرب نفسه إلى عمليات التشهير والتشويه وحتى الخنق. أما اليوم فإن رد الفعل الغربي، كما يبدو ظاهريًا، يتسم بتشجيع الهجرة المسيحية، وبحث حكومات الدول الغربية عن استيعاب المهاجرين وهذا أمر خطير، ومن ثم على توظيف ذلك في عملية الترويج لما بات يعرف بالعنصرية الإسلامية التي تبرر، في حد ذاتها، الإسلاموفويا، وهذا أمر خطير أيضًا.
في ضوء ذلك أعود إلى الأمر الأول الذي أشرت إليه سابقًا، وهو ضعف الشعور الإسلامي العام بخطر الهجرة المسيحية من الشرق. إذ يبدو أنه لا يوجد رد فعل إسلامي، حتى الآن، في مستوى خطورة هذه الهجرة. وما لم يعتبر المسلمون في الشرق (والمسلمون العرب خاصة) أن الهجرة هي هم إسلامي مشرقي بقدر ما هي هم مسيحي مشرقي، وما لم يتعامل المسلمون مع أسباب هذه الهجرة ومع نتائجها بما تستحقه من مراجعة شاملة وعميقة لمفهوم المواطنة وحقوق المواطن، فإن الوضع سوف يزداد سوءًا، ومعه سوف يزداد استغلال هذا الوضع سوءًا أيضًا.
لا أدعي أنني أملك جوابًا عن السؤال الآتي، وهو: ماذا يفترض بالمسلمين في الشرق أن يفعلوا؟ ولكنني اتخذت المبادرة بإثارة هذا الموضوع منذ أكثر من عام في لقاء إسلامي-مسيحي عقد في المعهد العالي للدراسات الإسلامية التابع لجمعية المقاصد الإسلامية، وتبنى اللقاء برنامج عمل قدمته إليه، ويتضمن ما يأتي:
1. عرض لمظاهر الهجرة المسيحية من الدول العربية، وخصوصًا من مصر ولبنان والعراق وفلسطين، استنادًا إلى الوقائع والأرقام.
2. عرض لنتائج الهجرة على المنطقة العربية: ثقافيًا (هجرة الادمغة)، اقتصاديًا (هجرة الاستثمارات واليد الفنية)، سياسيًا (تفكك المجتمعات العربية)، دينيًا (العلاقات الإسلامية-المسيحية، صورة الإسلام في العالم).
3. عرض مواقف المجامع الكنسية من الهجرة: البيانات الرسمية الصادرة عن مجالس البطاركة في الشرق، التصريحات الرسمية، الاهتمامات الاعلامية، والدراسات العملية.
4. عرض لأسباب الهجرة: الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والدينية (موجة الأصولية والتطرف).
5. التعامل مع ظاهرة الهجرة بهدف اخراجها من اطارها المسيحي إلى الاطار الإسلامي-المسيحي، بحيث تصبح قضية إسلامية بقدر ما هي قضية مسيحية. وهذا يتطلب مبادرات لتحريك: جامعةالدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، ومؤسسات المجتمع المدني: الأزهر، رابطة العالم الإسلامي، مؤسسة آل البيت، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، مجلس كنائس الشرق الأوسط، مجلس الكنائس العالمي، الفاتيكان…الخ. وذلك من أجل:
- اصدار بيانات تنبه وتحذر من مخاطر الهجرة مسيحيًا وإسلاميًا، وتاليًا وطنيًا.
- تقديم اقتراحات للمعالجة.
- التركيز على السماحة والعيش المشترك، ورفض كل مظاهر الغلو والتطرف.
- تنظيم مؤتمرات وندوات مشتركة إسلامية-مسيحية عربية حول قضايا العالم العربي المختلفة: الديموقراطية، التنمية البشرية، التسامح،…الخ.
- اعداد دراسات متخصصة عن تاريخ وحاضر الدور المسيحي في انتاج الحضارة الإسلامية والمحافظة على اللغة العربية والنضال الوطني وصناعة الدولة الوطنية الحديثة.
- نشر دراسات عن موقع “أهل الكتاب في الإسلام”.
- طبع هذه الدراسات في كتيبات تعمم كمادة للثقافة العامة في مدارس الدول العربية.
طبعًا أن يكون هناك اقتراح برنامج عمل شيء، وأن يكون هناك عمل شيء آخر. إن القاعدة الأساس لأي عمل إسلامي هي نبذ التطرف والغلو اللذين نهى عنهما الإسلام أساسًا وحذر منهما صراحة، والذي يتناقض مع الإسلام السمح المؤمن بأنبياء الله جميعًا وبرسالات الله جميعًا. وتاليًا فإن مكافحة التطرف فكريًا وتربويًا وثقافيًا لا تسدي خدمة للوجود المسيحي في العالم الإسلامي فقط، ولكنها تستجيب إلى متطلبات العقيدة الإسلامية، عقيدة وشرعة ومنهاجًا. ومع نبذ التطرف، لا بد من رفع الصوت الإسلامي والصوت الإسلامي-المسيحي عاليًا لاحترام حقوق المواطنة دون تمييز. فالذمية بالمفهوم السلبي الذي يعرفها ويعرّفها به المسيحيون، والتي اعتمدها في مرحلة سابقة من مراحل التاريخ الإسلامي، قد تجاوزها الزمن؛ وهي في الأساس ليست من الشريعة الإسلامية بل كانت اجتهادًا تنظيميًا للحياة المشتركة، وما كان مناسبًا، في تلك الحقبة الزمنية الغابرة، لم يعد صالحًا ولا مناسبًا في الوقت الحالي. حيث قامت الدولة الوطنية على أكتاف مواطنين من كل الأديان والمذاهب والعقائد.
ثم أن ثمة أمرين آخرين يتحتم على المسيحيين في الشرق أن يدركوا خطرهما. الأمر الأول هو أن التقوقع على الذات وقطع طرق التواصل الاجتماعي والتربوي والتكامل الوطني مع المسلمين ليس حلاً، بل إنه يخلق حالة من الشك واللاثقة المتبادلة، أما الأمر الثاني فهو أن الانفتاح على الهجرة، سواء كان ذلك تحت اغراءات الاستيطان في الدول الغربية أو تحت ضغط التطرف الديني، ليس حلاً أيضًا، بل إنه استدراج إلى فخ التخلي عن أداء الشهادة المسيحية وعن حياة المشاركة مع المسلمين في الشرق. والسلبيتان لا تصنعان ايجابية. إن الايجابية الوحيدة الممكنة تكمن في خلق وعي ديني-وطني يقوم على قاعدة الإيمان بأن الهجرة المسيحية تتسبب في معاناة يتحمل تبعاتها وأخطارها المسلمون والمسيحيون على حد سواء.
ورد في الارشاد الرسولي الذي صدر بعد السينودس من أجل لبنان الذي عقد في الفاتيكان في عام 1993 ما يلي:
بودي أن أشدد، بالنسبة إلى مسيحيي لبنان، على ضرورة المحافظة على علاقاتهم التضامنية مع العالم العربي وتوطيدها. وادعوهم إلى اعتبار انضوائهم إلى الثقافة العربية، التي اسهموا فيها اسهامًا كبيرًا، وتبوّأوا فيها موقعًا مميزًا، لكي يقيموا، هم وسائر مسيحيي البلدان العربية، حوارًا صادقًا وعميقًا مع المسلمين. إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه، وهم يعيشون في المنطقة ذاتها، وقد عرفوا في تاريخهم أيام عزّ وأيام بؤس؛ مدعوون إلى أن يبنوا معًا مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويرًا إنسانيًا وأخلاقيًا. وعلاوة على ذلك قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى.
وهذا صحيح، فتاريخ العلاقات الإسلامية-المسيحية في الشرق يعرف فترات طويلة من الاطمئنان المسيحي الذي أثمر مساهمات رائعة في مجالات الحياة كافة.
إن المسلمين والمسيحيين يعانون معًا من مرحلة من تلك المراحل التي لا يشعر فيها المسيحيون بالاطمئنان إلى حاضرهم وإلى مستقبلهم، ولكن باستطاعة المسلمين، منفردين وبالشراكة مع المسيحيين، العمل حتى تكون هذه المرحلة قصيرة وعابرة. إنها حالة استثنائية مذمومة عرفنا كيف نقضي عليها في السابق. ونحن على ثقة من أننا نعرف أنه يجب أن نقضي عليها في الحاضر.
(المصدر: معابر)