حين أصبحت الكتائب الجهادية المختلفة عبئاً على خالقيها
بقلم: نجيب جورج عوض
من راقب تنامي الكتائب الجهادية الإسلاموية، سنية أو شيعية، وانتشارها في المشهد السوري وإرهاصات هذا التواجد في ضوء التطورات البنيوية في قواعد إدارة الخارطة الجيوسياسية في المنطقة يمكنه أن يقرأ التعبير المتنامي بين صناع القرار الدوليين والأقليميين عن تأفف ورغبة قوية بالتخلص من كافة تلك الكتائب بكافة صنوفها وأنواعها بعد أن باتت جميعها تشكل عبئاً ثـقيلاً جداً على كاهل خالقيها وجالبيها للمشهد السوري وأحد أكبر العوائق في وجه فرض اتفاق الحل التقاسمي الذي طبخته وأقرته مراكز صنع القرار الغربية والمحلية في لقاءي جنيف 3 وفيينا 2.
من هنا فإنَّ اللقاء الذي انعقد بين روسيا وأمريكا والسعودية وإيران وتركيا وقطر وسواها في مدينة لوزان مؤخراً، لم يكن يهدف سوى إلى الاتفاق الحصري على مصير الكتائب المقاتلة الإسلاموية ومن كل الأطراف الموجودة على الساحة ولتوزيع الأدوار ورقع التواجد ومسؤوليات تنظيف المطمر الجهادي السوري بين الفرق بحسب وجودها على الأرض. وما الارهاصات التي رأيناها، مثل دعاية النزاع الأمريكي-الروسي وتشعباتها، سوى تداعيات تفصيلية لم تغير الاتفاق الاستراتيجي بين القوى المعنية.
من جهة جبهة النصرة وكل كتائبها المختلفة الأسماء، مثل “جيش الفتح” و”جيش التحرير” و”جيش الإسلام” الخ الخ (كلها مجرد محاولات لإعادة تسويق البضاعة الكاسدة لجبهة النصرة للشارع العام بأسماء جديدة)، فقد بات جلياً أن تلك الكتائب المذكورة باتت تعتبر أداة عديمة النفع ومعرقلة للاتفاق المذكور. فهي فشلت تماماً في نيل دعم وتشجيع الشارع السوري العام، بما فيه الإسلامي، لأنها حاربت الحراك المدني للثورة وقمعت المعارضة المدنية وأعلنت رفضها لشعارات الثورة الأساسية، ناهيك عن جرها للمعركة مع النظام إلى داخل المدن السورية وإصرارها على تحويل مناطق سكن المدنيين المسالمين إلى ساحات المواجهة المباشرة مع النظام المجرم. كل هذا جعل تلك الكتائب (التي خلقتها الأيديولوجية الأخوانية-السلفية ومولتها قطر وسلحتها وأدارت عملياتها ميدانياً تركيا، وغضت الطرف عن وجودها السعودية) تصبح عائق حقيقي أمام البدء بأي تطبيق للاتفاق التحاصصي بين القوى المسيطرة على الملف السوري، وأمام حصول كل طرف من الأطراف المتحاصصة (بما فيها رعاة الجبهة المذكورة) لمكسبه من الصفقة المذكورة. لهذا، كان كان الطبيعي أن نسمع وزير خارجية تركيا في أعقاب لقاء لوزان يأمر جبهة النصرة بالانسحاب المباشر والفوري من حلب الشرقية، تمهيداً لنقل مقاتليها إلى تركيا أوإعادة موضعتهم في مناطق تم الاتفاق مع القوى الأخرى على وجودهم فيها.
أما من جهة الكتائب الشيعية من لبنان والعراق، والتي جلبها النظام الإيراني كي تـعوِّم خادمه الأمين (النظام السوري) لأطول فترة ممكنة وتستخدمه كورقة في الصراع الإيراني-السعودي، فهي أيضاً باتت جزء من المشكلة ولم تعد حلاً ولا حتى في نظر من أرسلها، بل معيقاً لتطبيق الاتفاق التحاصصي الذي عقدته روسيا باسمها وباسم إيران مع الأمريكي والسعودي والتركي حول مستقبل تقاسم السلطة في سوريا وحضور إيران في المنطقة. فحتى إيران تدرك أن حزب الله وباقي الكتائب الشيعية التي ارسلتها لسوريا فشلت بوضوح في تحقيق الهدف العسكري المطلوب منها، وهو دحر وهزيمة الكتائب المعارضة السنية الإسلاموية تحديداً، وأن من يحقق ضرر فعلي في كتائب المعارضة الجهادية في الواقع (مدمراً في طريقه وبشكل وحشي مجرم كل وجود إنساني مدني سوري) هو الروسي دون سواه. إلا أن إيران تعرف أيضاً أن قرار إخراج حزب الله والكتائب الشيعية من المستنقع السوري الذي ورطتها فيه ليس بيدها وحدها، بل هو رهن بحسابات أمنية واستراتيجية تتعلق برغبة الإسرائيلي الملحة بتوريط حزب الله في الوحل السوري أطول فترة ممكنة واستنزافه ميدانياً ولاحقاً شعبياً في محيطه اللبناني (يقدم هذا التورط لإسرائيل حدوداً آمنة وهادئة في الجنوب اللبناني ويبعد بندقية حزب الله عنها باتجاه عدو إسرائيل العربي وبصورة غير مسبوقة لم تكن إسرائيل تحلم بها). لهذا يستمر تورط حزب الله في الوحل السوري وتضطر إيران كي تضحي بإخراجه من المشهد لأنها مجبرة على خدمة مصالح حليفتها الأمريكية، وحليفها الإسرائيلي، ولأنها تحتاج حتماً للمحافظة على وجود دمية دمشق في مكانه حتى تصل إلى خواتيم معقولة في صراعها مع السعودية.
أما داعش، المرتزقة ذوو البندقية المعروضة للإيجار الذين سمح الغرب والروس بوصولهم من بلدانهما إلى سوريا، فهم أيضاً ما عاد لهم أي دور يلعبوه في المشهد. كان المطلوب من مرتزقة داعش أن يملأوا الأرض المحروقة بغرض تحجيم مساحات انتشار كتائب المعارضة وكتائب دعم النظام ومنعها من التواجد سوى على حدود سيطرة ميدانية مبرمجة ومُقرَّرة مسبقاً. بات الدواعش يشكلون خطراً لأنهم تجاوزوا دورهم التحجيمي وراحوا يتمددون جغرافياً وراء الحدود المقررة لدورهم. باتت داعش مصدر تهديد حقيقي لا لعمليات إدارة المصالح الاستراتيجية وقواعد الصراع فقط، بل ولأي اتفاق تقاسمي لا يسمح لأمثال داعش وسواها من الجهاديات بأي دور أو حصة في المستقبل المتخيـَّل لسوريا. لهذا تشن القوى الراعية للكارثة السورية معاً حرباً على داعش لتنظيف الساحة منها بعد انتهاء دورها.
لا نستغرب أن يدور ما نراه من مسرحيات إعلامية وقنابل صوتية يطلقها الأمريكي ضد الروسي أو العكس حول النزاعات الدائرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الكتائب الجهادية السنية أو الشيعية. فتلك الكتائب باتت العقبة أمام تطبيق القوى الدولية والأقليمية ما بدأت السير في ركابه حيال مستقبل سوريا. المؤسف جداً واللاأخلاقي واللاإنساني هو أن دماء السوريين وأرواحهم وحياتهم ومناطق عيشهم لا تمثل في معادلة تلك القوى الراعية سوى خسائر ثانوية لا قيمة لها. وما لقاء لوزان وإرهاصاته سوى اختذال المأساة السورية لعملية تنظيف للأرض من سرطانات جهادية فرضها الجميع على السوريين وقمعوا ثورتهم بها وأعطوا للنظام المجرم ديمومة بسلاحها قبل سواه.
“المصدر: كلنا شركاء”