دور التيار السلفي في الأردن.. دراسة لأبو رمان وأبو هنية
صدر مؤخراً دراسة جديدة بعنوان (السلفية المحافظة: استراتيجية أسلمة المجتمع وسؤال العلاقة الملتبسة مع الدولة) للباحث الزميل الدكتور محمد أبو رمان بالتعاون مع الباحث حسن أبو هنية.
ويقدّم الكتاب، الذي صدر من خلال مؤسسة فريدريش أيبرت الألمانية (باللغتين العربية والانجليزية)، قراءة تحليلية للاتجاهات السلفية في المشهد العربي، وخصوصاً في الأردن، موضّحاً موقع السلفية المحافظة أو التقليدية من هذه السلفيات، ومحدداً مسار تطورها وصعودها في الأردن، والمعالم الرئيسة لخطابها الأيديولوجي وعلاقتها بالدولة والمجتمع، التيارات الإسلامية الأخرى.
السلفية: الصعود والانتشار
يكشف الكتاب أن تيار “السلفية المحافظة” هو أحد أبرز ثلاثة تيارات تتقاسم “المشهد الإسلامي” الشعبي الأردني، بالإضافة إلى كلّ من جماعة الإخوان المسلمين، وتيار “السلفية الجهادية”، الذي يمثّل الوجه الآخر الراديكالي للدعوة السلفية.
و”السلفية المحافظة” ليست جماعة إسلامية بالمعنى الكلاسيكي أو الهيراركي، فهي أقرب إلى اتجاه ديني – اجتماعي يضم شيوخاً وتلاميذ (أتباعاً)، ينتظمون من خلال دروس وحلقات دينية ومنهج فكري معين، ونشاطات مشتركة، مع رفض الالتزام بصورة رسمية أو علنية بإطار حزبي أو تنظيمي معين، إذ يعتبرون ذلك مخالفاً لمنهجهم.
أخذ حضور “السلفية المحافظة” يبرز في الأردن مع بدايات ثمانينيات القرن الماضي، عندما استقر أحد أكثر شيوخ الدعوة السلفية في العالم شهرة، الشيخ ناصر الدين الألباني، في عمان، وبدأت دائرة أتباعه ومريديه بالاتساع والانتشار، مع أفكار دعوته وفتاواه الدينية، ليس فقط في الأردن، بل خارجه، من خلال كتبه وكتب أتباعه.
وعلى الرغم من انتشار السلفيين في محافظات ومدن المملكة كافة، إلاّ أنّ كثافة انتشارهم وحضورهم تبدو في مدن ومناطق معيّنة، أقرب إلى الأردنيين من أصول فلسطينية، كعمان الشرقية والزرقاء والرصيفة، وإن كان لهم حضور أيضاً في مدن أردنية أخرى، كما هي الحال في الرمثا والطفيلة، وبدرجة أقل في السلط والعقبة والكرك.
ويمثّل اليوم مركز الألباني للدراسات المرجعية العلمية والمؤسساتية الرئيسة للتيار، إذ تصدر عنه مجلة الأصالة وينشر الفتاوى المعتمدة (بتوقيع شيوخ التيار) والمحاضرات الخاصة بهم، ويمثل بؤرة تجمع ولقاء وتواصل بين الأفراد.
كما تمثّل شبكة الانترنت قناة مهمة وحيوية في التواصل بين السلفيين ونشر خطابهم وأفكارهم والتجنيد، ويُخص بالذكر منتدى “كل السلفيين”، الذي يشرف عليه علي الحلبي، إذ يؤدي حالياً دوراً رئيساً في التواصل والحوار بين أفراد التيار، ومناقشة القضايا الساخنة والحيوية.
تركز الدروس السلفية والعلاقات بين أفراد التيار على العلم الشرعي (الديني)، وهو أساس التمايز والصعود والتجنيد داخل التيار، وبذلك تحظى الكتب العلمية الدينية بأهمية قصوى بين الأفراد، وتأخذ دروس العقيدة والفقه والحديث منحى أقرب إلى “أدلجة المعرفة”، إذ تقوم على تمايز العقيدة والفتاوى السلفية عن الجماعات والمذاهب والفرق الأخرى، ما يجعل من أفراد التيار ذوي نزوع جدالي في التنشئة والتجنيد مع الفرق والتيارات الأخرى، منذ اللحظات الأولى التي يلتحق فيها أحدهم بحلقات الدروس أو المحاضرات المتعلقة بهذا التيار.
مسار مسكون بالصدام مع الإسلاميين
وفي مجتمع مثل الأردن، الذي لم يكن (تاريخياً) على تماس مع الدعوة السلفية بقدر ما حظيت فيه افكار الصوفية والمذهبية بحضور واسع، حتى داخل المؤسسة الدينية الرسمية، كان من المتوقع أن يحدث اصطدام عنيف بين السلفية وعدوها التقليدي التاريخي الصوفية، وأن يدخل السلفيون معارك على “ساحات النفوذ” مع المدرسة الصوفية.
الصراع مع الصوفية لم يكن الوحيد، الذي خاضه السلفيون، وما يزال، إذ كانت معركتهم الرئيسة الأخرى هي مع جماعة “الإخوان المسلمين”، التي كانت تتمتع بحضور واسع في المساجد ومراكز الاشتباك والاتصال الشعبي، وكان لخطابهم الديني – السياسي حضورٌ واضح، من خلال خطبائهم ودعاتهم وأساتذة الجامعات والتكنوقراط المنخرطين في الجماعة.
منذ حضورها المبكّر في المجتمع الأردني أعلنت الدعوة السلفية المحافظة عن خصومتها الصريحة مع جماعة الإخوان وأفكارهم، وذلك بما كان يقدمه الألباني من خطاب فكري معارض للعمل السياسي حتى بصيغته الإسلامية، نظراً لرفضه الحزبية الإسلامية، وهجومه العلني والصريح على العقائد الدينية للجماعات الأخرى، باعتبارها لا تلتزم بعقائد ومناهج السلف الصالح، نظرياً وعملياً.
الصراع على تمثيل “البيت السلفي”
ولعدم وجود تعريف منضبط واضح محدّد توافقي للسلفية، فإنّ صراع “المحافظين” مع المدارس والاتجاهات السلفية الأخرى، اندلع حتى على عنوان “السلفية”. فكل من “المحافظين” “والجهاديين” يدّعي مشروعية تمثيل المدرسة السلفية فكرياً وتاريخياً وسياسياً، ويتّهم الآخر بالانحراف عن مسارها الصحيح.
مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ومع بروز الوجه الآخر للسلفية (الجهادي) على يد الأب الروحي له أبو محمد المقدسي، بدأ كلّ من الاتجاهين يتنازع الحديث على اسم السلفية ويدّعي أحقيته تمثيلها.
وبالرغم من الصراع الشديد بين الاتجاهين والاختلاف الكبير في مواقفهما السياسية من الحكومات والنظم، إلاّ أنّهما يتفقان على رموز معيّنة، مثل حضور بعض العلماء والفقهاء الإسلاميين المؤثرين تاريخياً في خطابهما الفكري والديني، كابن تيمية وابن قيم الجوزية وأحمد بن حنبل، والشوكاني ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
خطوط التصدع والنزاع تمتد إلى داخل السلفية المحافظة نفسها، فمع أنّها حافظت على تماسكها خلال مرحلة الشيخ الألباني، إلا أنّها شهدت تصدعات بعده، امتدت إلى السنوات الحالية.
وبرزت مسألة التمثيل بقوة عقب وفاة الشيخ المؤسس ناصر الدين الألباني. فقيادات الصف الأول تغيّرت منذ وقت المؤسس الألباني إلى اليوم، ففي مرحلة الألباني كان الرجل الثاني، إن جاز التعبير، هو محمد إبراهيم شقرة، الذي دخل في صدام شرس بعد وفاة الألباني مع باقي تلاميذ الشيخ حول بعض الفتاوى والأحكام ظاهرياً، لكن حقيقة الصدام كانت على الخليفة الشرعي للألباني.
بعد ذلك تصدّر الصف الأول مجموعة أسماء هي: علي الحلبي، مشهور حسن، سليم الهلالي، مراد شكري، موسى نصر، حسين العوايشة.
ثم أدّت التصدّعات والخلافات إلى خروج كلّ من سليم الهلالي ومراد شكري من القيادة المعتمدة، التي بات مركز الألباني بمثابة الموقع الرسمي لها، وأصبحت البيانات اليوم والفتاوى توقع بالأسماء التالية: علي الحلبي، مشهور حسن، حسين العوايشة، باسم الجوابرة، موسى نصر، وزياد الزعبي.
السياسة: خروج من الباب ودخول من النافذة
تبلورت رؤية السلفية المحافظة لمنهج التغيير والعمل السياسي على يد الشيخ المؤسس الألباني من خلال نظرية “التصفية والتربية”، كما مرّ سابقاً.
لذلك، لا يتعرض السلفيون للدولة وشرعيتها إلا اضطراراً، ويوجهون عنايتهم إلى المجتمع وفعالياته الناشطة، وقد ظهرت الرؤية الاستراتيجية لدى شيخهم الألباني، جلياً وبشكلٍ صريح، عقب هزيمة حزيران (يونيو) 1967، إذ تولدت لديه قناعة باستحالة تحقيق النصر والتمكين من دون إعداد بعيد المدى للمجتمع والدولة.
وترسخت تلك القناعة بعد الصدامات الدامية بين الحركة الإسلامية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين والنظام في سورية، وهي منعطفات تاريخية فارقة في تحديد المسار الفكري والسياسي للدعوة السلفية الألبانية، وقد برزت مخرجاتها بوضوح عقب استقرار الألباني في الأردن العام 1980 حتى وفاته العام 1999.
عموماً، على الرغم من دعوى الألباني بعدم التدخل في السياسة وبمحاولة ضرب ستار حديدي فكري بين دعوته والشواغل السياسية التي يرفضها الألباني، إلاّ أنّ أتباعه، عملياً، انخرطوا بصورة غير مباشرة في المعادلات السياسية، من خلال الحروب الفكرية والسياسية التي خاضوها نيابة عن الحكومات في مواجهة التيارات الإسلامية الأخرى.
الديمقراطية، بحسب هذا الخطاب، نظامٌ كفريٌّ مستوردٌ ومتناقض مع الشريعة، فالألباني يشدد على أن “الديمقراطية: وهي عند واضعيها ومعتنقيها: حكم الشعب نفسه بنفسه، وأن الشعب، مصدر السلطات جميعا. وهي بهذا الاعتبار مناقضة للشريعة الإسلامية والعقيدة… لأن الديمقراطية نظام طاغوت، وقد أُمرنا أن نكفر بالطاغوت… فالديمقراطية والإسلام نقيضان لا يجتمعان”.
وعلى الرّغم من اشتراك السلفية الوهابية والمحافظة في التشديد على لزوم المرأة بيتها، فإنّ السلفية الألبانية – المحافظة أكثر تسامحا بخصوص لباس المرأة، من السعودية عموماً، فقد خصّص الألباني عدة كتبٍ في بيان لباس المرأة منها “حجاب المرأة المسلمة”، توصّل فيه إلى أن لباس المرأة لا بُدّ أن تتوافر فيه ثمانية شروط، وأهمها: استيعاب جميع البدن إلا ما استُثني أي “الوجه والكفين”.
وتهيمن فكرة التّغريب والتّقليد على مجمل الفكر السّلفي المحافظ كأحد أهم التّحديات والأخطار التي تواجه العالم الإسلامي، فتغريب المجتمع والمرأة نابعٌ من التّشبه بالكفار، لذلك فالألبانيّ يحذّر من التّشبه بكافة أشكاله وصوره.
يتّخذ أغلب أتباع السلفية المحافظة ملامح في المظهر تمايزهم عن غيرهم، وعن التيارات الإسلامية الأخرى، بدعوى أن تلك المظاهر التزام بالسنة النبوية في اللباس والعادات والعلاقات مع الآخرين.
السمة الغالبة عليهم إطالة اللحى، وارتداء الثوب القصير، فوق كعبي القدمين، وعلى الأغلب الثوب العربي، والحديث باللغة الفصحى، والالتزام الديني الصارم، وفي أداء الصلوات في المسجد، وتحريم الأغاني والموسيقى والاختلاط، وعدم الاهتمام بالسياسة والإعلام (إلا قياداتهم)، والحرص على التمايز الاجتماعي في العادات والسلوك والمظهر.
العلاقة الملتبسة مع الدولة
تنظر الجماعات والحركات الإسلامية الأخرى إلى السلفيين المحافظين باعتبارهم “الطفل المدلّل” لدى الدولة، إذ لا يواجهون حرماناً أو منعاً من الوعظ والخطابة، كما أنّهم يتمتعون بفرص جيّدة في التوظيف والتعيين في الوزارات المعنية، كالأوقاف والتربية والتعليم (المواد الإسلامية)، وفي الجامعات لا يعانون من “حجب الموافقة الأمنية”، كما هي حال نسبة كبيرة من جماعة الإخوان المسلمين والجهاديين وأفراد حزب التحرير.
تجد القراءة الرسمية أنّ النظرة السابقة سطحية، وليست عميقة ولا دقيقة، إذ تتولى الدوائر الأمنية إدارة ملف الحركات الإسلامية عموماً، (باستثناء الإخوان، الذين أصبحوا ملفاً أمنياً فقط منذ قرابة عشرة أعوام)، لأنّ غالبيتها لا تشارك في العمل السياسي والبرلماني، وهي ذات طبيعة اجتماعية أكبر منها سياسية.
“القاعدة الذهبية” التي تحكم علاقة أجهزة الدولة بالجماعات الإسلامية جميعها، تتمثل في أنّ المحك والمعيار الرئيس هو الأمن ومصالح الدولة، فيما إذا كانت هذه الجماعات تخدم مصالح الدولة وأمنها أم تضر بها، فتتحدد وفقاً لذلك السياسات الرسمية.
يميّز هذا المنظور بين السياسات قصيرة المدى وبعيدة المدى في التعامل مع الحركات الإسلامية كافة، ففي المدى القصير يتم التمييز بينها على قاعدة ما يخدم الأمن والمصالح السياسية الراهنة، وعلى المدى البعيد يتم النظر إلى الجميع بعين المراقبة والرصد، حتى لا يخرج أيٌّ منها عن قواعد اللعبة الأمنية، فيصبح مصدر تهديد وخطر على الأمن وقواعد النظام السياسي في مرحلة لاحقة.
بالإضافة إلى المواقف السياسية والفكرية العامة، التي تخدم هذا المنظور، فإنّ قادة التيار يخوضون “معركة الدولة الدينية” ضد الأطراف الأخرى، سواء بإصدار الفتاوى أو في المحاضرات أو خطب الجمعة، ما يمنح الدولة “أدوات” منافسة للإسلاميين الآخرين في المجتمع، تتجاوز المؤسسة الدينية الرسمية، التي لا تحظى بدعم كبير أو مصداقية عالية، عادةً، في الأوساط الشعبية.
(المصدر: مركز آفاق للدراسات والبحوث)