رواية “الرّاوِي” – مصالحة مع التاريخ
كتاب الألماني اللبناني بيير جروان
توصيف دقيق لحياة متعددة الأوجه يعيشها مهجَّرون مجبَرون على ترك أوطانهم، تقدمه رواية الألماني اللبناني بيير جروان الأولى، المنشورة في ألمانيا عام 2016 في خضم موجة اللاجئين والهجرة. قصة “الرّاوي” حكاية مؤثرة عن البحث في الذات والهوية، وها هي قد صارت أيضا متاحة باللغة الإنجليزية. ريتشارد ماركوس قرأ الرواية ويستعرضها لموقع قنطرة.
نتعرف على الحكاية في روايتنا هذه من منظور سمير، وهو ابنٌ لِلاجئَيْن اثنين من لبنان: إبراهيم وَ رنا الحوراني. تحسُّبًا منهما لأهوال الحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات، يتمكن الزوجان من الحصول على اللجوء السياسي في ألمانيا. يُولَد ابنهما سمير في أوروبا، وتحتضنه حكايا والده عن نشأته في لبنان كل ليلة قبل النوم. قصصٌ عن بطل اسمه “أبو يوسف” وصديقه أمير، الجَمَل النّاطِق. حكاية هذا البطل عبارة عن سلسلةٍ من مغامرات البحث عن الكنوز في بلدان الشرق الأوسط، مع التركيز بالطبع على مملكة لبنان السحرية.
قراءةٌ مُشَوِّقَة: “الرّاوِي” للكاتب بيير جروان من الكتابات النادرة التي تأخذ القارئ في رحلاتٍ داخل حيز شخصيات الرواية وخارجه. فنحن لا نصل إلى أبعد محطة في رحلة سمير العاطفية فحسب، بل نقتفِي أثره أيضًا في رحلته الجغرافية التي يحتاجها كي يَكبُر وكي يتقبَّل نفسه،” كما يخبرنا ماركُوس.
من الطبيعي أن يُقَدِّس الابن أباه، وبالتبعية كذلك، تلك الحكايا الخرافية عن لبنان التي يُعيدها الوالد للحياة كلما قصّ واحدةً منها. غير أن التقديس، وإن كان تجاه الوالد، عامةً ما يُسَبِّب خيبات الأمل و ندبات الجروح. بالنسبة لسمير، تتجسد خيبة الأمل بالصُّدفَة عند مشاهدته عرضًا لشرائح صور حفل زفاف والديه. فتَحَوَّل ما كان في السابق عالَمًا مُتَخَيَّلًا إلى جزء من الحقيقة.
لكن هذه الحقيقة هي التي تزيح السِّتار عن صورٍ مُنَفِّرَة بعض الشيء: يظهر بعض المدعوين في حفل الزفاف بِبِزّاتهم العسكرية وأسلحتهم الحربية، كما يظهر الشِّعار الذي يُبَيِّن شجرة الأَرْز المُحاطَة بالدائرة الحمراء. إحدى الصور تُظهِر والد سمير واقِفًا جنبًا بجنب مع بشير الجمَيِّل، قائد ميليشيا القوات المسيحية اللبنانية (حزب الكتائب) آنذاك.
كان لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات ساحة حربٍ بامتياز. فاستخدمه المقاتلون الفلسطينيون كمسرحٍ لعملياتهم ضد إسرائيل، ونتيجة ذلك، كانت إسرائيل تجتاح وتقصف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين باستمرار. في نفس الوقت، تعاوَنَت إسرائيل مع الميليشيات المسيحية؛ والسوريون بالطبع لم يتوانوا عن الحصول على كل ما طالته أيديهم؛ أما بالنسبة لبقية الشعب اللبناني – بمسيحييه ومسلميه – فكانوا عالقين في شِباك القوى المتصارِعة هذه.
أشباح ذكريات الماضي
سرعان ما يتمكن سمير من إعادة اكتشاف الجوانب المتعددة لماضيه حين يخضع والده لتحولٍ نفسيّ مُبهَم، ليُصبح من خلاله متباعِدًا عن زوجته وطفليه. ثم يبدأ في تلقي مكاملات هاتفية سِرِّيّة من لبنان – مكالمات كان يدَّعي أنها من طرف والدته المريضة. يستمر الأب في تباعُده التدريجي، إلى أن يصل به الأمر إلى الاختفاء الكامل.
حينها، ينهار سمير. فهو كطفل كان يُقَدِّس أباه، لا يمكنه أن يعي اختفاء ذلك الحكواتي المَرِح الذي شَكَّل جزءًا هامًا من حياته. عندما تموتُ والدته فيما بعد وتُرسَلُ شقيقته على إثر ذلك إلى التَّبَنِّي قبيل انتهاء تعليمه المدرسي، تتجمد رغبته بالاستمرار في الحياة.
يتحوَّل استحواذ سمير بأبيه إلى هاجسٍ متلازِم. وعلى الرغم من انعدام التواصُل من قِبَل والده لعُقود، تستمر ذكرى الأب في إلقاء ظلالها على حياة الابن. يُلقي سمير باللوم على نفسه مقتنِعًا أنه كان السبب في انصراف أبيه عن العائلة، وفي وفاة والدته لاحقًا (مع أنها كانت تعاني من حالة غير مُكتَشَفة لتمدُّد الأوعية الدموية في دماغها). كل هذه العوائِق النفسية جَعَلَته يخطو مُتَعَثِّرًا في حياته.
المصدر: قنطرة