طاسات «المستر سوريا»: بوغدانوف والرقص الروسي على الحبال
هل كانت مصادفة محضة أنّ ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي الحالي، الذي كان شخصية محورية في السفارة الروسية في دمشق مطالع ثمانينات القرن الماضي؛ رافق رفعت الأسد، صحبة اللواءين علي حيدر وشفيق فياض، على متن الطائرة التي أقلّت المجموعة إلى موسكو، ضمن إجراء «نفي» تمهيدي فرضه حافظ الأسد على الثلاثة، بعد استفاقته من غيبوبة المرض الشهيرة؛ تفادياً لصدامات عسكرية مباشرة كانت مرشحة للاندلاع بين ثلاثة من أهمّ تشكيلات النظام العسكرية: «سرايا الدفاع» من جهة، و»الوحدات الخاصة»، والفرقة الثالثة من جهة ثانية؟
وكم من الأسباب الوجيهة كانت قد توفرت لدى كبار موظفي السفارة الأمريكية في دمشق، قبل أن يقرروا أنّ زميلهم الروسي يستحق صفة «المستر سوريا»؛ وأنّ الإصغاء إلى ما يسرّبه من معلومات، عامداً بالطبع، وعفو خاطر الزمالة نادراً، يظلّ كنزاً ثميناً حول الحلقة الأعلى المحيطة بالأسد، الأب آنذاك، خاصة في صفوف ضباط الجيش والأمن؟ ولماذا حرص بوغدانوف على إبلاغ زملائه الأمريكيين أنّ موسكو «سعيدة جداً» لأنّ الأسد استقرّ على اختيار ابنه بشار، وليس أيّ مدني أو عسكري آخر، خليفة له؛ بعد وفاة شقيقه باسل في حادث سيارة، سنة 1994 (كما تروي برقية من السفارة الأمريكية مؤرخة في 7/2/1994، كشفتها منظومة «ويكيليكس»)؟
من الإنصاف الافتراض، استطراداً، أنّ العهدة إلى بوغدانوف بإدارة الملفّ السوري، حتى على حساب رئيسه المباشر، وزير الخارجية سيرغي لافروف؛ هو طراز من تطبيق القاعدة العتيقة، حول وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. ومنذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، أواخر آذار (مارس) 2011، وحتى يوم أمس، حين اختتم بوغدانوف جولة في بيروت واسطنبول ودمشق؛ مارس «المستر سوريا» مهارات شتى، متباينة متغايرة بالضرورة، ولكنها لا تكاد تغادر أسلوباً واحداً مزدوج الفعل: طاسة ساخنة تارة، وأخرى باردة طوراً، كما في المثل الشعبي الشهير.
في بيروت، على سبيل المثال الأوّل، أسمع حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، كلاماً حول «التكفير» و»الإرهاب» و»المقاومة» وإيران ودور الحزب… لا يُعلى عليه، ولا يناقض كثيراً ما درج نصر الله نفسه على استعراضه، واجتراره، في خطبه حول سوريا، خاصة بعد الانتفاضة. وحين اجتمع، في مثال ثانٍ، مع وفود «المعارضة السورية الداخلية»، من حسن عبد العظيم، المنسق العام لـ»هيئة التنسيق الوطنية»، إلى ممثلي «تيار بناء الدولة» و»ملتقى الحوار الوطني السوري»؛ توصل مع هؤلاء إلى بيانات لا تخرج أبداً عن اللغة الخشبية ذاتها، حول «ضرورة العمل على توحيد الجهود من أجل إطلاق الحل السياسي في سوريا».
وحتى حين بدا لقاؤه مع هادي البحرة، رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، وبعض أعضاء الهيئة السياسية للائتلاف، مختلفاً أو خلافياً؛ رشق بوغدانوف على ممثلي «المعارضة السورية الخارجية» طاسات مماثلة، أو تكاد، فاتفق معهم على «ضرورة الإسراع بإيجاد الطرق للدفع نحو عملية سياسية تفاوضية تؤدي إلى تحقيق تطلعات الشعب السوري»، كما توافق المتباحثون على «أن يشكل بيان جنيف 2012 إطاراً تفاوضياً مقبولاً، تُبنى عليه أي عملية تفاوضية مستقبلية»، كما جاء في الإعلان الرسمي الذي صدر عن الائتلاف.
المثال الثالث هو لقاء بوغدانوف مع الأسد، في دمشق، حيث نقل للأخير رسالة شفوية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، «حول استمرار روسيا في دعمها ووقوفها إلى جانب الشعب السوري»، كما «أطلعه على مجمل اللقاءات التي عقدها أخيراً في إطار الجهود التي تبذلها روسيا لإجراء حوار سوري ـ سوري»؛ وفي المقابل، «أكد الأسد أن سوريا تتعامل بإيجابية مع الجهود التي تبذلها موسكو بهدف إيجاد حل للأزمة»، استناداً إلى «سانا»، وكالة أنباء النظام. وكأنّ زيارة دمشق كانت مجرد استطالة للقاء بوتين ولافروف مع وزير خارجية النظام، وليد المعلم، في سوشي، مؤخراً، حيث سادت اللغة الخشبية أيضاً: أعرب المعلم عن ارتياحه لنتائج المباحثات، معلناً أنّ بوتين أكد تصميمروسيا الاتحادية على التعاون مع سوريا، ومع الأسد شخصياً، «من أجل الانتصار على الإرهاب»، و»تعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين»؛ على ذمة «سانا»، دائماً.
غير أنّ بوغدانوف، ولأنه أحد أذكى دبلوماسيي موسكو، وأعلاهم خبرة بالملفّ السوري، وبمعمار النظام وطبائعه تحديداً؛ لم يباشر هذه الجولة لكي يهنىء اللبنانيين بالذكرى السبعين للعلاقات الدبلوماسية بين موسكو وبيروت، أو ليستمتع ببعض مفاجآت ربع الساعة الأخير في الضاحية الجنوبية قبيل نقله للقاء نصر الله، أو ليكحّل عينيه بمرأى ممثّلي المعارضة السورية «الداخلية» و«الخارجية»، أو يستعيد بعض ذكرياته الثمانينية مع الفتى بشار الأسد… لقد جاء، أغلب الظنّ، لأنّ موسكو أخذت تستشعر رياحاً مختلفة في أجواء أربع سنوات من المساندة العمياء للنظام السوري؛ لم تعد تليق ـ على أصعدة التكتيك أوّلاً، ثمّ الستراتيجيات العليا الجيو ـ سياسية ـ بقوّة عظمى: هي الثانية على مستوى كوني، وهي مأزومة مثل عشرات الدول النامية!
ثمة، بادىء ذي بدء، هذا الانزلاق الأمريكي التدريجي نحو «منطق تدخّل» موضوعي في سوريا، أسوة بالعراق؛ لن تفلح عقيدة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ضبطه عند الحدود التي تشبث بها سيد البيت الأبيض منذ الأسابيع الأولى لاتضاح مأزق النظام السوري الشامل. وثمة، بالتضافر مع هذا، منطق تصعيدي أمريكي، تلتقي فيه أوروبا أيضاً، بصدد دفع موسكو إلى مضائق خانقة، عبر منعرجات الملف الأوكراني والعقوبات الاقتصادية وتقلبات أسعار النفط.
وثمة، ثالثاً، الأمدية القصوى التي يمكن أن تلتزم بها موسكو في دعم الأسد، بالقياس إلى الحاجات المتزايدة لنظام آخذ في التآكل والتبعية والارتهان، من جهة؛ وقدرة إيران، الحليف الثاني للأسد، على التخفيف من أعباء الكرملين في هذا الصدد، بالنظر تحديداً إلى أنّ بارومتر طهران في مساندة الأسد ليس مفتوح السقوف، حتى إذا كان مرتفعاً، وأنّ مفاوضات الملفّ النووي مع الغرب ذات صلة وثيقة بمدرّجات الصعود أو الهبوط في المؤشر، من جهة ثانية.
بذلك فإنّ مبادرات بوغدانوف، أو بالأحرى: طاساته، تظلّ أقرب إلى الرقص على حبال زلقة، من شاهق تكتنفه مخاطر السقوط دائماً؛ حتى إشعار آخر، غير محدد، وليست موسكو هي الضابط الأوّل لتوقيتاته. وليست تلميحات بوغدانوف إلى إمكانية التحاور مع أمريكا، إذا طُبخت مبادرة معقولة حول حوار سوري ـ سوري ترعاه موسكو (مقابل تصريحات لافروف، بأنّ واشنطن تجهد ضمناً لإسقاط الأسد)؛ إلا وجهة أولى، منكشفة، حول مزالق ذلك الرقص على الحبال.
والودّ القديم الذي جمع الدبلوماسي الروسي المخضرم بزملائه الأمريكيين، أيام السفارة في دمشق، قد لا يفيد كثيراً في شدّ حبال الرقص الراهن، أو تفادي الانزلاق؛ إذْ قد تكون نوايا معاكسة هي الحال بالفعل، وأنّ الزملاء يتربصون أكثر مما يعينون!
والمرء، مجدداً، يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون. وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من وتضخّم وعجز وبطالة، وعصابات مافيا، وتحديث ليبرالي شائه، ومؤسسة رئاسية احتكارية شبه دكتاتورية… وهيهات، بالتالي، أن يفلح بوغدانوف في إتمام رقصة واحدة، في سوريا تحديداً، على حبال فُتلت من مادّة الهشاشة هذه!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
(المصدر: القدس العربي)