عِبَر بقاء الأسد
بقلم: كمال داود، نيويورك تايمز
وهران، الجزائر
إذا ما استثنيا تونس، شاخ الربيع العربيّ وأُخرج من التداول
بداية حين انتفضت الشعوب العربيّة ، كان الديكتاتور يغادر بلده بالطائرة كما حصل مع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي مطلع العام 2011. أمّا اليوم فقد انقلبت الآية، فالشعب هو من يغادر بحرًا وبرًّا كما حدث في سوريا
مغادرة الشعب عوض مغادرة الحاكم يطرحُ سؤالًا أساسيًّا ودراميًّا في آن: ما جدوى المطالبة بالديمقراطيّة بعد انتصار الرئيس السوريّ الأسد ولو كان هذا الانتصار موقّتًا كما يستقرئ البعض؟ ما الذي يعنيه هذا الانتصار للمغرب وللشرق الأوسط؟
الكثيرين، يبدو الدرس الأوّل للوضع السوريّ واضحًا: لا انتصار للثورات بالسرعة المرجوّة. لقد قايض الأسد بقاءه قويًّا حيًا يرزقُ بمجزرة دفع ثمنها نصف شعبه. لم يتمكّن لا المنشقّون و لا جيوشُ المعارضين ولا مواقف غالبيّة المجتمع الدوليّ من زحزحة الديكتاتور ومن تقصير عمر نظامه الماضي في غيّه
هو الحلم، حلم الديقراطيّة الذي اغتاله الأسدُ وهو يغتال شعبه. لقد بدا جليًّا لدعاة الثورة في سوريا أنّ مصائرهم تتلخّص بثلاثٍ: الشهادة أو السجن والتعذيب على يد ميلشيات محليّة أو أجنبيّة تعمل لصالح النظام وإمّا اللجوء المذلّ . هذه التضحيات على قسوتها لن توصل الثائر ولا أولاده إلى الحريّة فهذه النتائج المزرية تبثُّ الشكّ في نفوس أعتى الثوريّين والديقراطيّين وأكثرهم إيمانًا
بقاء الأسد في السلطة يؤكّد أنّ أثمان الديقراطيّة باهظةٌ، لا بل باهظةٌ جدًّا
كما أنّ من نتائج هذا البقاء ترسيخ فكرة فحواها أنّ الثورة تفتح شهيّة دول العالم على الافتراس. إنّ النخب السياسيّة في العالم العربيّ ما بعد الكولونياليّة محافظة كانت أم تقدّميّة لا تستسيغ فكرة الاستعانة براعٍ خارجيّ للمطالبة بحقّها الديمقراطيّ. فتذكّر سنوات الانتداب يكفي وحده لبثّ الشكوك حول النيّات الغربيّة.
لنأخذ الوضع الجزائريّ مثالًا : إنّ الحكومة الجزائريّة محافظة جدًّا، وبوليسيّة ومتحالفة في الخفاء مع الإسلاميّين وهي تذكّر الشعب باستمرارٍ بالانتداب الفرنسيّ وذلك لتبيان أنّ اليد الأجنبيّة تشجّع على الحريّات بهدف زعزعة الأنظمة
يرى عبد العزيز بو تفليقة، الرئيس الجزائريّ أنّ الربيع العربيّ الذي طال مجموعة من البلاد العربيّة هو مجرّد “مؤامرات هدّامة”. وقد روّجت محطّة تلفزيونيّة مصريّة خاصّة أنّ رسوم سيمسون المتحرّكة هي دليلٌ عن تدخّلٍ أجنبيّ في سوريا! كما ولّد خرابُ ليبيا شكوكًا كثيرة.
هذه الحجج تشهرُ باستمرار في وجه المعارضين المحليّين. ففي العام 2016، حين قرّر الرئيس بو تفليقة وهو مريضٌ عاجزٌ أن يعدّل الدستور كي يتمكّن من الترشّح للرئاسة مرّة جديدة اتّهمت وسائل الإعلام الموالية له كلّ من وقف وعارض هذه الفكرة ـ ـ مطالبًا بالمزيد من الديقراطيّة ـ ـ بالعمالة للغرب والصهيونيّة
إنّ التجربة السوريّة بتحالفاتها الإيرانيّة والروسيّة التي وقفت في وجه السعوديّة و قطر والولايات المتحدّة تؤكّد هذه الأفكار. وهي تبيّن أنّ أيّ مطلب يترجم عن نفسه خرابًا وهذا الخراب من مصلحة المستعمر (تمامًا كما حدث في ليبيا). ومن هنا يفضّلٌ كثيرون الاستسلام لديكتاتورهم الشخصيّ عوضًا عن التورّط مع الأجنبي
من الغرابة بمكان أن يرفض الرافضون تدخّل غرب بعينه وغضّ الطرف عن تدخّلات أجنبيّة أخرى. هذه هفوة يرتكبها المثقّفون في العالم العربيّ حين يفكّرون أنّ الاستعمار من نوع واحد وأنّ الساحة الروسيّة والإيرانيّة برأى منه. فحين يتدخّل الروس أو الإيرانيّون يتحدّث المثقّفون العرب عنهم “كعون أو مساعد”. فالرئيس فلاديمير بوتين هو مثلهم ضدّ الكولونياليّة يندرج في خانة المحرّر أو الحليف
عبرةٌ ثانية نستخلصها من التجربة السوريّة: إنّ الديمقراطيّة هي حصان طروادة الكولونياليّة الغربيّة الجديدة
فالعبرة الأخيرة القائلة إنّ الدكتاتور خيرٌ من الخليفة يصعب اقتلاعها لتجذّرها عميقًا لدى الرأي العامّ الشارعيّ العربي. فافتتاحيّات الصحف العربيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ تؤكّد أنّ وحشيّة داعش من مسؤوليّة التدخّل الغربيّ الذي فكّك الأنظمة الديكتاتوريّة التي شيّدت سدًّا في وجه التيّارات الأصوليّة
إنّ إضعاف النظام السوريّ شرّع الأبواب لتنظيم داعش. فأبو بكر البغداديّ الذي أعلن دولة الخلافة من الجامع النوريّ الكبير في الموصل أسوأ من بشّار الأسد، لذا فالشعوب تفضّل الدكتاتور على الخلافة
أقنع بشاّر الاسد الغربيّين و النخب المحليّة والرأي العام أن الديكتاتوريّة هي سور منيع في وجه الأصوليّات والهمجيّات . وهذه الفكرة التي تظهّرت عملاقة في الحرب السوريّة يعبّر عنها بشكل خافت في مصر واليمن و والمغرب و تونس والجزائر. فنظام الرئيس بوتفليقة لا يني يذكّر مواطنيه بالتجربة الجزائريّة في صراعها ضدّ الإرهاب ويوجّه رسالةً مفادها: أو الدكتاتوريّة أو الخراب
أمّا الدرس الثالث، وبعد ستّ سنوات على فرار زين العابدين بن علي من تونس فمفاده: أنّ الصراع الذي يُختتم بوصول الإسلاميّين إلى السلطة، كان يفضّل عليه المحافظة على نظام قمعيّ توتاليتاريّ
هل ما تقدّم صحيح؟
بالطبع لا. إنّها الديكتاتوريّات القامعة التي تُنتج حلقات مفرغةً تصبّ في مصلحتها آنيًا على الأقلّ، فهذا المنطق تصاعديّ لا محال. فهذه الأنظمة كي تبقى في السلطة تزداد قمعًا فتنتجُ معارضين ينضمّون إلى صفوف الإسلاميّين.
لقد ربح الأسد، ربح وقتًا
من جهة أخرى، حين سيتنهي وقته وسيسقط، سيترك سوريا بلا خيارات أمّا الربيع العربيّ أو ما تبقّى منه فخياراته صعبة ممضة: خراب أو نظام كليّ ، قمع ومجازر ديكتاتوريّات أم …ديمقراطيّة
- كمال داود هو مؤلّف معارضة الغريب، ومجموعة مقالات صدرت بعنوان استقلالاتي. ترجم النصّ من الفرنسيّة إلى العربيّة ندى عسّاف