متعته الأخرى
7 فبراير 2015
“الكتاب الكبير بـ 25 جنيهاً والصغير بـ 20” يصيح بائع كتب، وهو يقف على ناصية السرادق الطويل المخصص للكتب القديمة المستعملة، وهو يقرع على علبة صفيح، محاولاً لفت الأنظار إليه، حين يشعر بعجز صوته عن الوصول إلى المارة والمهتمين ومحبي طقس معرض الكتاب السنوي، إذ يختلط صوته مع أصوات باعة الأسطوانات الفنية، ومع تسجيل لأحد مقرئي القرآن الكريم، ومع أصوات مطربين شعبيين، ومع تراتيل تمجد السيد المسيح، ومع موسيقا صاخبة تطلع من مكان مخصص للأطفال، ومع تمتمات وهمهمات الازدحام البشري في أرض مدينة المعارض.
لوهلةٍ، ستظن، أنت القارئ العابر وسط كل هذا الكرنفال، أن ثمة استعادة مبهجة لطقس القراءة لدى البشر، لكن ظنك سرعان ما يخيب، حين تدخل أجنحة المعرض، وتتجول متنقلاً بين دور النشر شبه الفارغة من المشترين، بينما ستصدفك بضعة تجمعات بسيطة متفرقة، حيث تجري تواقيع للكتب الصادرة هذا العام، أو ازدحام معتاد في دور النشر المعنية بإصدار الكتب الدينية. لم يتغير الأمر، إذاً، عن العام الماضي، ولا عن الذي سبقه، ولا عن الأعوام العشرة الماضية. ما زال الكتاب الأدبي والفكري والعلمي حظ المهتمين من القراء النوعيين، ومن الكتاب وأصدقائهم فقط، بينما حظ الربح هو لدى العقل المغيب والمبشرين به. ستخرج إلى المقهى الثقافي المجاور، بعد أن تختار بعض الكتب الضرورية، إذ لا تسمح لك ميزانيتك باقتناء ما هو أكثر من ذلك، ولا يسمح وضعك، كلاجئ سوري، بشراء المزيد، وأنت تعرف أنك قد تضطر إلى المغادرة قريباً إلى حيث لا تعرف إلى أين، فأنت لست سوى عابر في هذه المدينة، وربما في المدن القادمة، والعابر لا يمكنه أن يحمل معه سوى تاريخه الشخصي، تواريخ الآخرين التي يخطّونها في كتبهم ستكون عائقاً في طرق العابر القادمة. في المقهى الثقافي، ستجد العديد من أصدقائك المصريين والعرب، ممن لم تتغير عادتهم في الحضور إلى المعرض، منذ أعوام طويلة.
ربما ما يميز معرض القاهرة للكتاب استقطابه عدداً كبيراً من المثقفين العرب، يحضرون سنوياً إلى القاهرة، ببهجة المحب، على أن ثمة، الآن، ما هو مهزوم ومهشم في الأحاديث المتبادلة، ثمّة هذا الانكسار الذي يفرد ظله الثقيل على الجميع، ثمّة دم في الأحاديث، وثمة موت كثير، وثمّة جثث يستحضرها أي سؤال، أو حديث، عن العالم العربي، ستشعر به مضاعفاً، أنت السوري، حين تقابل أصدقاء قادمين من الداخل السوري، لم ترهم منذ زمن، فرّقت بينكم الأيام والحرب، وفرّق بينكم الموقف السياسي، تتبادل معهم الأحاديث، وأنت تخشى أن تسألهم عن أوضاعم هناك، مثلما تخشى الدخول في أي حديث سياسي، وستكتشف، وأنت تسترجع معهم ذاكرتك البعيدة التي تحاول طمسها، لكي تتمكن من العيش، أنهم، هم، كل يوم يمحون ذواكرهم الجديدة كي يواصلوا حياتهم، وستضحك معهم حين يصل إليكم صوت بائع الكتب المستعملة مع علبته الصفيحية، وسيرون دمعتك، حين يريك أحدهم صورة على هاتفه النقال لمكتبة في مدينة السلمية السورية المشهورة بمثقفيها وشعرائها، صورة إعلان كبير على باب المكتبة: “يوجد لدينا كتب للتدفئة سعر الكيلو 250 ليرة”!
هنا، فقط، يمكنك أن تضيف إلى ما كتبه ألبرتو مانغويل في كتابه الجميل (تاريخ القراءة) أن: “تاريخاً واحداً من تواريخ القراءة يعتمد على نيات معينة، وعلى سير وحكايات شخصية، لا يمكنه أن يكون إلا تاريخاً من جملة تواريخ كثيرة”. هنا، فقط، يمكنك أن تقول: ثمة سيرة جديدة، أضافها السوري المحاصر بكل أسباب الموت، إلى سير القراءة المتضمنة في الكتب، هي سيرة الدفء خشية الموت من البرد. سيقول السوري لمانغويل لو صادفه يوماً: ثمة متعة أخرى للكتاب غير متعة القراءة.
(المصدر: العربي الجديد)