مســـيــحــيـــة لــلــشـعـــب!
ميشيل كيلو
لم تكن المسيحية يوما للمسيحيين وحدهم. قبل يسوع الناصري لم يكن هناك مسيحيون، ولو كان المخلص للمسيحيين وحدهم، لما كانت لرسالته وحياته قيمتها الإنسانية الخالدة التي تتمتع بها، ولكان مصلحا عاديا جاء إلى قوم بعينه ثم مضى في سبيله. لم يأت المسيح برسالته إلى المسيحيين وحدهم، ولم يكن بين مقاصده إقصاء غير المسيحيين من قيمها، فالمسيح لم يكن لبشر او لمؤمنين بعينهم، بل كان، بلغة القرآن الكريم: «رحمة للعالمين».
– لا شك في أن اضطهاد المسيحيين طيلة قرون قدموا خلالها تضحيات هائلة، وعاشوا في حالات كثيرة بسرية وملاحقة، هو الذي أجبرهم على اعتبار دينهم رابطة تجمعهم وتحفظهم، مع أنهم لم يتوقفوا عن نشره بين غير المؤمنين به، واعتبروا نجاحه في جذب هؤلاء إلى الإيمان دليلا على سمو ورفعة رسالته وعلى طبيعتها الإلهية ومقاصدها القدسية. وقد أدى الاضطهاد إلى تبلور جانبين جوهريين في عمل اتباع الدين الجديد: أولهما أن وحدة الجماعة المسيحية لا يجوز أن تبقيها منغلقة على ذاتها، أو عاجزة عن التوجه إلى غير المسيحيين ومخاطبتهم والدفاع عنهم باعتبارهم هم أيضا «ابناء الله». وثانيهما: أن الآخر هو قصد المسيحي وهدفه، ليس لأنه مسيحي مثله، بل لانه عكس ذلك بالضبط: ليس مسيحيا، ويرجح أن يكون في حالات كثيرة كارها للمسيحية وعدوا لها.
– لعب الصراع الديني الممزوج بمصالح دنيوية غلفت عديدا من توجهات الدين الجديد، دورا في انغلاقه على ذاته، وفي اعتبار بعض اتباع الأديان الأخرى «خصوما للمسيحية» لا فائدة في الحوار معهم والتوجه إليهم، وفي حالات عديدة لا أمل في شفائهم من آثامهم، فالجهد الذي يبذل لكسبهم إلى جانب المسيحية أكبر من أي عائد يمكن أن يترتب على انضمامهم إليها. تلك كانت حقبة غلبت فيها السياسة على جوهر المسيحية ووضعته في خدمتها، ما شوش سماته الأصلية وصفاته الرحمانية والإنسانية، وشوهه وقوض جوانب مما حمله على امتداد تاريخ طويل من « رحمة للعالمين «.
– أخيرا، لعبت الصراعت الدينية التي نشبت بين المذاهب المسيحية، وداخلها، دورا هائلا في انفراز اتباع الدين الجديد على أسس غير مسيحية، فقد كفّر هؤلاء بعضهم بعضا، ومارسوا عمليات إبادة جماعية ضد الذي يختلف من المسيحيين عن مذهبهم. ولعله ليس سرا أن الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك، قد أدت إلى هلاك ملايين المسيحيين، باسم رسالة يسوع الناصري، ولمجد الرب.
مرت المسيحية إذاً باطوار أخذتها من الانفتاح على البشرية بأسرها، إلى الانغلاق على الذات في طور أول، ثم إلى انغلاق فرقها ومذاهبها على المختلف والآخر من المسيحيين انفسهم في مرحلة ثانية، خدمة لمقاصد مؤسسات سياسية تخلقت في بدايات تشكل الدول القومية واسرها الحاكمة، او تلبية لمصالح وأغراض قادة المؤسسات الكنسية، الذين صاروا بدورهم «أمراء للكنيسة»، في محاكاة صادقة للسلط الدنيوية، التي تجعل من بعض القوم أمراء دنيويين لمؤسسات سياسية، وبعضهم الآخر أمراء كنسيين يديرون مؤسسات دينية، بعيدا عن أي اعتبارات مسيحية أو اخلاقية، غالبا.
واليوم، تدخل المسيحية المشرقية في طور غربة عن بيئتها التاريخية ووسطها المجتمعي، وتظهر العداء الصريح ضد المختلف: مسيحيا كان أم غير مسيحي، وتمارس ضربا من عنصرية مذهبية تجعل من «المسيحي» كائنا أعلى، مترفعا عن الكائنات الأدنى التي تنتمي إلى غير مذهبه أو دينه، بينما يمارس أمراء كنائسها انحيازا سافرا إلى ظلم يشبه ذاك الذي أوقعته روما بالمسيحية الأولى، ويتحالفون مع أمراء السلطة الدنيويين، ويحرضون اتباعهم ضد خصومهم هؤلاء من المسيحيين أيضا، الذين يظهرونهم بمظهر الخارجين على المسيحية والدين، لمجرد أنهم ليسوا مع السلطة أو معارضين أو مقاومين لها، حتى أن مطرانا في واحدة من أكبر كنائس دمشق استدعى عناصر الأمن إلى كنيسته وسلمهم شبانا اتوا إلى مكتبه ليحتجوا على انحياز الكنيسة إلى النظام في الصراع الذي تعيشه سوريا، ويلفتوا نظره إلى مخاطر دوره الشخصي في تحريض بعض الشبان والشابات التابعين لكنيسته على الاحتفال بمقتل شبان مسلمين من بلدة مجاورة لدمشق تتظاهر ضد النظام. بل إن هناك من تلقى رسائل تهديد من زعران يصفون أنفسهم بـ«شبيحة المسيح» ( تصوروا إلى اي درك من الانحطاط وصلت امور الكنيسة: صار للمسيح شبيحة «!) تعلمهم أن مصيرهم قد تقرر، وأنهم سيقومون بقتلهم بمجرد أن تسنح لهم الفرصة لذلك. ومع أنني رددت شخصيا بلطف ومنطق حواري على رسالة تلقيتها تهددني بالقتل، فإن كاتبها اعلمني في رسالة ثانية أنه سيشكوني إلى الأمن لأنني ارسلت عناصر من الجيش الحر لاغتياله، أنا الذي لا اعرف اسم هذا الجبان الذي يطلق على نفسه لقبا تكريميا هو: شبيح المسيح»، ولا اعرف أحدا في الجيش السوري الحر ولست على صلة مع السلاح ومن يتسلحون.
هل يخسر المسيحيون كنيسة يسوع الناصري لمصلحة كنيسة شبيحة؟ ألا يحتم هذا الواقع المشين رد الكنيسة في بلادنا إلى موقعها من حياة المسيحيين والمجتمع السوري، وخاصة منه مجتمع المسلمين بغض النظر عن مللهم ونحلهم؟. أليس من واجبنا جميعا إنقاذ الكنيسة من الذين يرون فيها مؤسسة أميرية متحالفة مع مؤسسة ملكية هي السلطة الحاكمة أو تابعة لها؟. لن يكون رد الكنيسة إلى المسيحيين ممكنا من دون ردها إلى الشعب باسره، وقبل كل شيء إلى المسلمين، إلى من كان منهم مع السلطة: لإنقاذه من جنونه وفاشيته وعنفه الذي يدمره، أو ضدها: لمواساته في مصابه، والتضامن معه، واحتضانه وتخفيف آلامه، ومساعدته على تخطي ما يواجهه من قتل وملاحقة وتشريد وجوع، ولمنعه في الوقت نفسه من الانجرار وراء العنف والرد على السلطة بأساليبها الإبادية، التي لا يقرها قانون أو دين أو عرف، ولم يسبق لما يماثلها أن حدث في احلك فترات تاريخنا المظلمة!
لا يكون رد الكنيسة إلى الشعب، إلى المسيحيين عبر الشعب كله، إلا باستعادة هويتها التاريخية التي جعلت رجالا منها يخفون في أقبية كنائسهم طيلة أشهر من كانوا يقاتلون بالسلاح المستعمر الأجنبي، المسيحي مثلهم. وجعلت المسيحيين شركاء للمسلمين في الثقافة والتاريخ والمطامح والمصير وجزءا تكوينيا من مجتمع واحد كانوا السباقين إلى تأسيسه، وجعلت المسلمين يفتحون مساجدهم لصلوات المسيحيين وأعراسهم وجنازاتهم، فلا يفهم مخلوق اليوم، يعرف تاريخ سوريا، كيف يسمح رجل دين لنفسه بالتحول إلى مخبر لدى الأجهزة الأمنية، وكيف تسكت كنيسة الإنسان عن ذبح الأطفال، إلا إذا كانت لا ترى فيهم بشرا، واعتقدت، كالوحوش الذين يذبحونهم، أنهم لا يستحقون الحياة، وآمنت مثلهم بأنهم سيصيرون إرهابيين، إن هم تركوا ليكبروا ويصيروا رجالا!
لن تنجح كنيسة سوريا الحالية في إيجاد أعذار لمعظم كهنتها ولمواقفها، إن هي استمرت في اعتبار نفسها كنيسة خاصة بطائفتها وحدها وليست كنيسة للشعب: لهؤلاء المظلومين والمقهورين والمعرضين للقتل المباح والمجاني، لمجرد أنهم يطالبون بحقوقهم كبشر. كما ان الكنيسة لن تسترد صفتها ككنيسة للمسيح إذا لم ينزل كهنتها إلى الشارع مطالبين ليس فقط بحماية حياة المسلمين: إخوتهم في الإنسانية والإيمان بالله، بل كذلك بحقوقهم وحريتهم، وبرفع يد البطش والقتل عنهم، وبرد كرامتهم إليهم، وبمعاملتهم كمواطنين اصحاب وطن يجب أن يشاركوا في تقرير شؤونه، وليسوا ضيوفا عند أحد أو عبيدا لسلطة أو حاكم. ولن تسترد الكنيسة مكانها من المجتمع، إذا كانت لا ترى فيه مجتمعا لها أيضا عليه واجبات جدية تجاهه، وإذا كانت تعتقد أن المسيح لم يفتد غير ذلك العدد القليل من المسيحيين، الذين آمنوا به، ولم يشمل بفدائه الإنسان، مع أنه كان يصف نفسه بـ«ابن الإنسان»، ابن كل إنسان، وأنه لو قرر اليوم العودة إلينا لكان أول ما سيفعله النزول إلى الشارع والمشاركة في المظاهرات المطالبة بحرية وكرامة الإنسان، والذهاب إلى الخالدية وادلب ومعرة النعمان والحفة وسلمى وبانياس ودوما وعربين وكفر بطنا والحراك والمسيفرة، لمشاركة أهلها في موتهم وآلامهم، وربما مخاطبة ربه من جديد معاتبا: إلوهي، إلوهي، لم شبقتني: إلهي، إلهي، لماذا تركتني (تركتهم)، وهو لن يقبل بالتأكيد أن يكون الوكيل البطريركي المطران لوقا الخوري، الذي سلم المسيحيين والمسيحيات الخمسة إلى المخابرات، كاهنا في كنيسة تحمل اسمه، ولطرده منها بالغضب الذي طرد به التجار من الهيكل!.
ليست الكنيسة بخير. إنها مريضة إلى الدرجة التي تجعلها لا تشعر بآلام وعذابات من افتادهم يسوع الناصري بحياته. ولا بد من أن ينتفض الكهنة ضد أمرائها»، ويخرج الشعب عن صمته ويهجرها لأنها لا تشعر بعذاب وموت المعذبين، بل تعيش راضية هانية وسط الموت وانهار الدماء البريئة المسفوحة. ولا بد من أن يقاطعها المسيحيون إلى أن تعود كنيسة للشعب: المسلم كالمسيحي، لكونها بهذا وحده تكون ما عليها أن تكونه: كنيسة الرب، لا كنيسة امراء المخابرات!