مسيحيو الشرق…لا للتخندق الطائفي ونعم للمواطنة المتكافئة
المسيحيون في الشرق مسؤولية الشرق وأهله
لا يحتاج مسيحيو المنطقة العربية إلى شهادة حسن سيرة وسلوك من مسلميها في سياق صد الحملات الداعشية البغيضة والطائفية عليهم وعلى غيرهم من الطوائف والأديان والمعتقدات التي يريد استئصالها الفكر الداعشي ومنظماته وداعموه.
كما لا يحتاجون إلى “خطاب التسامح”، لأن مثل هذا الخطاب ينطوي على فرضية مسبقة وكأن الطرف المُتسامح معه ارتكب خطيئة ما. ولكن الطرف المتسامح يبدي أخلاقا عالية ويمارس تسامحه الفوقي على تلك الخطيئة. الخطاب الوحيد الذي يحفظ كرامة الجميع في المجتمعات متعددة الأديان والطوائف والإثنيات هو “خطاب التعايش”، ففي هذا الخطاب يتساوى الجميع ويقفون بهاماتهم عالية ومتكافئة لا يضمن ولا يمن أحد فيهم على الثاني بـ”التسامح”، بل يقر بالتعايش القائم على الاحترام والندية، وكل ذلك أمام القانون وفي دولة القائمة على مبدأ المواطنة لا غيره.
مسيحيو الشرق…ملحه واكسير حياته
عاش مسيحيو الشرق في هذه المنطقة وبلدانها منذ أكثر من ألفي سنة، أي قبل الحقبة الإسلامية، وبقوا فيها وقاتلوا مع أهلها كل الغزوات الخارجية بما فيها الغزوات الصليبية. وهنا في بلدان المشرق هناك مئات من العائلات ذات التاريخ الطويل زمنيا والامتداد الواسع جغرافيا والتي لا يدلل اسمها على “دينها”، فقد تكون مسيحية أو مسلمة، ذلك أن أفرادها اختاروا أن يبقوا على مسيحيتهم أو يصبحوا مسلمين، وأيا ما كان الخيار فإن العائلة بقيت متماسكة حتى يومنا هذا بشقيها، نعم اختلفت أديان الناس، لكنهم بقوا، مجتمعات وشعوبا متعارفة.
لم تكن التواريخ والحقب الزمنية وردية بالتمام والكمال، وكانت هناك فترات من التعصب والعنصرية، لكن الزخم العريض للاجتماع الأهلي كان في الوسط المعتدل والمتعايش. وصحيح أن مسيحيي المشرق صاروا أقلية، لكن ذلك لم يقلل من اكتمال أهليتهم التاريخية ولا انتمائهم الذي لا يجوز لأحد أن يمن عليهم به. عندما تحتاج أي أقلية ما إلى “تسامح” الأكثرية “ورأفتها” تدخل الأمور مرحلة المرض والخطر، وعندما تشعر الأقلية بأنها في خطر لمجرد أنها مختلفة عن الأكثرية فإن الأمور تكون مهددة بالعفن الخطير.
والأخبار التي تأتي من هنا وهناك بشأن انعقاد مؤتمرات وتأسيس مبادرات للدفاع عن مسيحيي الشرق تخلق مشاعر متناقضة، خاصة عندما تأتي من خارج المنطقة العربية، فمن ناحية لا يستطيع أحد نقض ورفض كل الجهود الآتية من جهات بعضها مخلصة ولا أجندات خفية لها. ومن ناحية ثانية هناك كثير من النفاق والتوظيف السياسي الذي يثير شبهات لها ما يبررها بسبب التجربة التاريخية المريرة مع الغرب، سواء في أوروبا أو أمريكا. وعوض أن نغرق في تفنيد الجهود وإثارة عقلية المؤامرة يمينا وشمالاً، فإن هذا يجب أن يدفعنا لإعادة الطرق وبقوة على بوابات وعينا النائم كي نتحمل مسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض، حتى لا نتركها للآخرين.
رفض فكرة إقامة “تحالف الأقليات”
وفي الجانب المشرق في هذا السياق تجدر الإشارة إلى رفض الأكثرية المسيحية في لبنان تحديدا وفي المشرق عموما، ونخبتها وقيادتها الدينية، فكرة إقامة “تحالف الأقليات” وهو ما دعا إليه النظام السوري وحلفاؤه. فمثل هذه الفكرة تعزز مسألة التخندق الطائفي بعيدا عن فضاء المواطنة، وتذهب بالصراع إلى أمدية بائسة أخرى، فعوض أن يصبح الدفاع عن المسيحيين وأي جماعة تستحق الدفاع مسؤولية الجميع، يُعاد ترسيم المهمة وفق خطوط التمايز الديني.
مسؤوليتنا الجماعية هي أن يعيش مسيحيونا بأمان وكرامة، وهو الأمر ذاته الذي يحلم به مسلمونا وكل الجميع منا في هذه البقعة المنكوبة من العالم. تقع علينا نحن أهل المنطقة المسؤولية الكاملة والتامة، قبل أن تكون مسؤولية أي طرف خارجي، وحتى لا يتم تمييع المسؤولية عبر الحديث العام والفضفاض، فإن تلك المسؤولية تبدأ من الناس العاديين. أي الأفراد في الحواضر والأرياف والحارات، ثم تنتقل إلى جمعيات المجتمع المدني ومؤسساته وأهل الرأي فيه.
وأخيرا تصل إلى الحكومات التي هي أفشل الجميع في القيام بأي مسؤولية وطنية، كما أثبتت بجدارة حتى الآن، إلقاء اللوم على الحكومات والجهات الرسمية حتى تقوم بما يجب أن تقوم به من مسؤوليات تجاه العنصرية الدينية والطائفية هو هروب إلى الأمام لا أكثر. عدد لا يُستهان به من هذه الحكومات والأنظمة قائم أساسا على بنية طائفية، لذا لا يُعقل منه أن يقوم بما يناقض بنيته التكوينية.
ومرة أخرى، فإن ما لا نحتاجه في سياق التصدي لهذه المسؤولية هو خطاب التسامح والسماجة في النظرة إلى المسيحيين وكأنهم أطفال يحتاجون إلى حماية ورعاية.
نحتاج إلى خطاب جمعي جديد ومتماسك، سواء في شأن مسيحيي الشرق أم في شأن الجماعات الأهلية المتعددة، إثنيا وطائفيا، خطاب قوامه وأساسه التعايش الندي.
المسيحيون والمسلمون واليهود العرب والأزديون وكل أتباع الأديان لا يمكن أن يتعايشوا إلا على قاعدة المواطنة المتكافئةوالتي لا تفرق بين الأفراد بحسب أديانهم ومعتقداتهم، بل تمحضهم المساواة والعدالة بكونهم مواطنين كاملي الأهلية أمام القانون والدستور.
خطاب المواطنة المتساوية وخطاب الانتماء إلى الدولة المدنية هو الخطاب الوحيد، الذي يحمي مسيحيي الشرق ومسلميه وكل مكوناته، سواء أكانوا متدينين أم علمانيين. ويحافظ على إنسانيتهم وتكافؤهم مع بعضهم البعض، أي خطاب آخر سوف ينتقص من هذه الطائفة الدينية، أو تلك الأقلية الإثنية، ويعيد التأسيس لنظرة عنصرية ما، سواء دينية أم قومية.
خالد الحروب
(المصدر: موقع قنطرة)