مسيحيّو سوريا يُغرّدون خارج السرب
فيما المعارضة السورية منهمكة بخلافاتها، ويبحث كلّ فريق سياسي منها عن مكسب هنا وهناك، وفيما النظام السوري تائه في مدى انصهاره وقبوله بمقررات جنيف1 كخطوة نحو «جنيف2»، إستطاع فريق كبير من السوريين المسيحيين توجيه صرخة واضحة في مؤتمره الأول الذي انعقد في اسطنبول الأسبوع الماضي.صرخة مفادها “إياكم المتاجرة بعلمانية الدولة السوريّة، فسوريا الوطن الكبير هي لكلّ السوريين على اختلاف طوائفهم، وتنوع طوائف سوريا هو ما يجعلها الأرض الأهم في المنطقة القادرة على تفعيل معايير العلمانية التي تلغي التطرف في الشرق الأوسط الجريح”.
فالنظام السوري الديكتاتوري الذي طالما تباهى بأنّه نظام علماني، هو أكثر الأنظمة بعداً عن العلمانية ممارسةً وأسلوباً، وهو من سجن غالبية اليساريين السوريين، وهو من شجّع التصوّف الإسلامي في سوريا، رغبة منه في تطويع الشارع الإسلامي في الجوامع، بدل تطويعهم في دولة الحق والقانون التي تكفل المساواة للجميع.
وهو من ادّعى أنّه يحمي حرية العبادة للمسيحيين، فكرّس فكرة أن يكون أمام كل كنيسة جامع، وبثّ خطاباً باطنياً تحريضياً عبر أجهزته الأمنية ليشعر الشارع السني والمسيحي بضرورة التقوقع الطائفي، إلّا أنّ هذا النظام نسي أنّ المسيحية السورية فيها من الطقوس الإجتماعية والحياتية الكثير من عادات المسلمين وباقي الطوائف المجاورة لهم، كما أنّ في الإسلام السوري المعاش الطقوس الأوسع من عادات السوريين المسيحيين.
السورية تسبق المسيحية دائماً في ذهن السوري المسيحي. وفي الثقافة المسيحية الدينية رسالة واضحة معناها الصريح رفض الإستبداد بكلّ أشكاله وتصنيفاته، فالمسيح كان من أبرز الثائرين في الأرض.
لذا إنّ همّ السوري المسيحي هو رفض تحويل مجتمعه السوري الى مجتمع إجرامي، داعمه الرئيس إستبداد السلطة الممثلة بالنظام الحالي، واستبداد بعض المتاجرين بآيات القرآن الكريم. فالمجتمع السوري تحوّل عبر هذين المستبدين الى مجتمع الضحية، والضحية حكماً لا يجب تحويلها نحو الجريمة، وإلّا فرِح المستبد وتحققت رسالته التي تنمو وسط الدمار والنزاع العسكري.
من هنا كان واجباً على بعض الوطنيين من السوريين المسيحيين ان يبلوروا تجمعاً مدنياً وسياسياً يكون همّه الأول مساعدة السوريين على تحديد هويتهم السورية، رافضين من خلالها إملاءات المانحين الذين يريدون تحويل سوريا إلى مزرعة غربية أو إيرانية أو روسية أو صينية…
فالسوريون المسيحيون الذين حافظوا على هويتهم السورية الوطنية على رغم كل المضايقات الطائفية وسياسات التهجير والترهيب، التي ساهمت عدة أطراف دولية وإقليمية وإقتصادية في بلورتها والتشجيع لها، هم في الحقيقة الحامل الإجتماعي الأهم في زرع التعايش والسلم الأهلي في سوريا، لما يملكونه من احترام بين الفريقين اللذين سعوا إلى تحويل النزاع العسكري السوري الى نزاع عسكري طائفي “شيعي – سني”. نزاع بكل مخلّفاته، لا يحمل أي بذور للإنماء والتطور، بل يحمل فقط عنواناً عريضاً هو الدمار والدمار فقط.
أمام هذا الواقع، إجتمع ما يزيد عن 50 شخصية سورية لها أصول مسيحية، منها المستقل ومنها المنتمي إلى تنظيمات سياسية وإجتماعية مدنية، منها المتديّن ومنها الملحد ومنها الليبرالي ومنها رجال دين لاهوتيون مؤسسون مشروع “رابطة تجمع السوريين المسيحيين الديمقراطيين” على أن يعتمد إسم سوري أصيل ونظام داخلي لها في فترة قريبة، يحدده الفريق الإداري الذي أجمع الحضور على تعيينه، وهو مكوّن من خمس شخصيات رئيسة أكاديمية مع شخصيتين إحتياطيتين، وتأكيداً على الخط الوطني لهذه الرابطة، تمّ تعيين رئيس فخري لبعض جلسات المؤتمر وهو من أصول شركسية مسلمة.
أصرّ أعضاء هذه الرابطة الوليدة على أن تكون سوريا أولاً، لأنّ أنشطة السوريين المسيحيين هي أنشطة في أساسها لنصرة المظلومين، فالكثير من السوريين المسيحيين كانوا أول المبادرين في عمليات الإغاثة واحتضان المهجرين من كل الطوائف، وهم مستمرون في عملهم حتى هذا اليوم.
ويعتبرون أكثر المساهمين في صياغة الإعلام الراصد للحدث السوري، وهم أيضاً أبرع المساهمين في صياغة حملات الضغط للإفراج عن المعتقلين والمفقودين، والكثير من السوريين المسيحيين إفتتحوا مدارس لتعليم اللاجئين والنازحين، وأثبتت تلك المدارس مدى تفوّقها على تلك التي يديرها النظام السوري، على رغم اعتماد غالبيتها على المنهج السوري المعتمد في وزارة التربية السورية.
كما أصرّ المؤتمرون على تشكيل لوبيات “فرق ضغط سياسية” في دول القرار المؤثرة، تؤكّد على علمانية الدولة السورية، وضرورة أن يعود القرار للسوريين من دون إملاءات.
واعتبروا انّ وقف النزاع العسكري هو المؤسس الشرعي لبناء مشروع حل، وهذا ما نصّ عليه إجتماع جنيف1، الذي يتوقع أن يكون الحامل الأول لتشكيل هيئة سياسية منبثقة عن جنيف2 ، يكون هدفها المحافظة على الدولة السورية وإقصاء الحاكم المستبد الذي أجرم بحق الشعب، وضرورة أن تكون الحكومة المستقبلية في سوريا حكومة محاربة للإرهاب كفكر وممارسة، مما يلغي مشاريع الحكومات المتطرفة التي تقترحها بعض جماعات الإسلام السياسي، التي تحاول فرض أجنداتها عبر السلاح التي استحوذت عليه ضمن حالة عسكرة الثورة.
إستنكار
طبعاً زارت شخصيات سياسية من الحكومة الإنتقالية المؤتمرين من دون أي دعوات مسبقة من قبل منظمي المؤتمر، بهدف مباركة التجمع السوري المسيحي الوليد، وضرورة التأكيد على التعايش المسيحي المسلم المشترك في سوريا.
إلّا أنّ كثيرين من المؤتمرين وجهوا ملاحظات قاسية إلى تلك الشخصيات منها، استنكار المستوى التمثيلي السياسي للمسيحيين في المعارضة، وعدم تركيز الحكومة الموقتة على أمان القرى المسيحية الواقعة ضمن نطاق صلاحيات تلك الحكومة، على رغم أنّ تلك القرى احتضنت المسلمين عندما كان النظام ينكّل بهم.
كما تمّ التطرق إلى ملفات الرموز الدينية من المطارنة والراهبات، وأُعلمت الحكومة الإنتقالية أنّ مشروع الرابطة هو علمانية الدولة ورفضها لمشروع إسلامية الدولة، وبالفعل تجاوبت الشخصيات الزائرة لفكرة أنّه يوجد تطرف إسلامي يجب التعاون جميعاً من أجل إقصائه.
علمانية الدولة السورية
وكان اللافت في هذا التجمع السوري المسيحي الكبير، أنّ منظميه لم يدعوا اليه الشخصيتين المسيحيتين المعتمدتين دائماً من المعارضة السياسية السورية “ميشيل كيلو، وجورج صبرا”، كما أنّ هاتين الشخصيتين أيضاً لم تزرا المؤتمرين ربما لقناعتهما أنّ هذا التجمع يعمد بحق أن يكون مختلفاً عن تجمعات المعارضة السياسية السورية التقليدية، التي طالما تغنت بمشروع “الدولة المدنية الديموقراطية التعددية”.
فهذا التجمع رفع سقف مطالبه نحو علمانية الدولة السورية هدفاً نحو عودة الحق للمسلم قبل المسيحي وحماية للعلوي والدرزي والإسماعيلي والأيزيدي وإكراماً للكردي والشركسي والأرمني والأشوري والسرياني…
فالعلمانية هي الحامي الأهم للمتديّن، وهي التي تبرز تديّنه لله بمعزل عن مصالح مادية فانية، وهي أيضاً الحامي الأهم لإرث القوميات الغني في الأرض السورية.