مصر والعودة إلى السلطوية
في محاولة للقضاء على ما تبقّى من حمّى الثورة وإبعاد شبح التمكين الجماعي، اتّخذ نظام السيسي خطوات عملية لقمع الاختلاف في الآراء، وإسكات الأصوات المعارِضة، وترسيخ السيطرة على الكيان السياسي. وقد عمد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تحت قناع الحرب على الإرهاب وبسط “الاستقرار” من جديد، إلى تقنين إجراءات سلطوية غير مسبوقة. ففي الأشهر القليلة الماضية، فرضت السلطات سلسلة من المراسيم والتدابير التي تهدف إلى توسيع نطاق الدولة الأمنية، فزادت من سطوتها وصلاحياتها في التحكّم بالمجتمع المصري بمختلف مكوّناته، بدءاً من الجامعات والمؤسسات الدينية وصولاً إلى المجتمع الأهلي والإنترنت.
لقد زعمت الحكومة مراراً وتكراراً أن هذه الإجراءات الأمنية ضرورية من أجل محاربة الإرهاب، لكن الحقيقة هي أن العنف يتفاقم. فالتمرّد المحدود النطاق في سيناء يستمر بلا هوادة، وقد توسّعت الهجمات نحو القاهرة ودلتا النيل. ولقي المئات من عناصر الشرطة والجنود مصرعهم خلال العام المنصرم. مؤخراً، في 24 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أسفرت الهجمات في شمال سيناء عن مصرع أكثر من ثلاثين عنصراً أمنياً في أسوأ أعمال عنف موجّهة ضد الدولة منذ عزل محمد مرسي في تموز/يوليو 2013. وقد بادرت الحكومة سريعاً إلى فرض حال الطوارئ لمدّة ثلاثة أشهر في أجزاء من شمال سيناء مع حظر التجوال بين الخامسة مساءً والسابعة صباحاً.
وكذلك أصدر السيسي قانوناً ينظّم دور الجيش في فرض الأمن في الداخل ويمنح المحاكم العسكرية صلاحيات أكبر. يُجيز التشريع الذي وُقِّع في 27 تشرين الأول/أكتوبر الجاري للجيش مساعدة الشرطة في حراسة المنشآت العامة، بما في ذلك محطات الكهرباء، وأنابيب الغاز، ومحطات السكة الحديد، والطرقات، والجسور. كما يُتيح اللجوء إلى المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين المتهمين بجنايات مثل قطع الطرقات أو الاعتداء على الأملاك العامة، مع العلم بأنه غالباً ما تُوجَّه مثل هذه التُّهَم إلى المشاركين في الاحتجاجات في الشوارع. وهذه الإجراءات هي الأحدث في سلسلة من الخطوات التي اتّخذها نظام السيسي من أجل منح المؤسسات الحكومية صلاحيات واسعة ومطلقة بهدف إحكام قبضتها على البلاد.
الجامعات
من أولى الخطوات التي قام بها السيسي بعد تسلّمه منصبه إصدار مرسوم رئاسي في حزيران/يونيو الماضي يخوّله أن يُعيِّن مباشرةً رؤساء الجامعات، ملغياً بذلك الممارسة التي كانت قد بدأت بعد إطاحة حسني مبارك في العام 2011 والتي أتاحت للأساتذة والعمداء اختيار رؤسائهم عن طريق الانتخابات. ومنحَ السيسي أيضاً رؤساء الجامعات صلاحيات جديدة يستطيعون بموجبها طرد الطلاب أو عزل الأساتذة الذين يُشتبَه بارتكابهم “جرائم تخلّ بالعملية التربوية”، وذلك من دون إجراء مراجعة مستقلة. وحُظِرت كل الأنشطة السياسية الحزبية في جامعة القاهرة التي تُعتبَر من أعرق المؤسسات الأكاديمية في البلاد. وفي شباط/فبراير الماضي، أبطلت المحكمة حكماً صادراً في العام 2010 يقضي بمنع عناصر الشرطة من دخول حرم الجامعات.
بعد عزل مرسي العام الماضي ولجوء القوى الأمنية إلى العنف لفضّ اعتصامَين نظّمهما أنصاره، ظهرت الجامعات بأنها أحد آخر معاقل المعارضة الحاشدة للنظام المدعوم من الجيش. وقد جوبهت الاحتجاجات التي نظّمها الطلاب الجامعيون العام الفائت بحملة قمع واسعة من الشرطة، ماأسفر عن مقتل 16 طالباً وتوقيف ألف آخرين وطرد خمسمائة أو تعليقهم عن الدراسة. وكذلك أرجأت السلطات انطلاقة العام الدراسي حتى منتصف تشرين الأول/أكتوبر الجاري بهدف فرض إجراءات أمنية جديدة. فقد رُفِعت جدران من الفولاذ، ووُضِعت أجهزة للكشف عن المعادن وكاميرات مراقبة في العديد من الجامعات، واستخدمت الحكومة شركة “فالكون” للأمن الخاص من أجل تفتيش الطلاب عند مداخل اثنتِي عشرة جامعة، مايتسبّب بوقوف الطلاب طوابير طويلة أمام أبواب الجامعات. في اليوم الأول من العام الدراسي، اعتقلت القوى الأمنية مايزيد عن 70 طالباً في عمليات مداهمة لمنازلهم قبل الفجر في إطار حملة إجراءات احترازية. فاندلعت احتجاجات في الجامعات رداً على اعتقال الطلاب، وقد تصدّت لها الشرطة بإلقاء الغاز المسيل للدموع والرصاص المستخدَم في صيد الطيور. والآن، بعد أسبوعَين على بداية العام الدراسي، توفّي الطالب عمر الشريف في جامعة الإسكندرية متأثراً بالإصابات التي تعرّض لها على أيدي القوى الأمنية، واعتُقِل نحو مئتَي طالب إضافي من المتظاهرين.
مزيد من الإجراءات البوليسية
لم يقتصر تعزيز قبضة الدولة الأمنية ذات الانتشار الواسع، على القطاع الأكاديمي وحسب. فالحكومة تتّخذ حالياً تدابير لإنشاء قسم جديد في الشرطة المصرية تحت مسمّى يُنذر بالأسوأ، “الشرطة المجتمعية”. في 18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أقرّ مجلس الدولة قانوناً يدعم الاقتراح الذي تقدّمت به وزارة الداخلية بما يُجيز للمدنيين الانضمام إلى هذا القسم الجديد في الشرطة، ويمنحهم صلاحيات الاعتقال بعد فترة تدريبية ممتدّة على 18 شهراً. لاتتوافر تفاصيل وافية عن دور الشرطة المجتمعية، لكن ربما كان الهدف من إنشائها محاولة تقنين العلاقة القائمة حالياً بين القوى الأمنية وشبكتها الواسعة من المخبرين المدنيين. بحسب الخبير الأمني نبيل الشاهد الذي كان وراء فكرة إنشاء شرطة مجتمعية، سوف يشكّل القسم الجديد “مجموعات من ’‘النخب‘ في كل حي ويعقد اجتماعات دورية يتلقّى خلالها تقارير حول الأنشطة ’‘المشبوهة‘ في المنطقة المعنية و’الغرباء‘ الذين يظهرون في المكان، بهدف تكوين قاعدة بيانات موضوعة في تصرّف الشرطة”.
في غضون ذلك، تستعدّ المنظمات غير الحكومية في مصر لمواجهة حملة قمع وتضييق الشهر المقبل. فقد فُرِض على جميع المنظمات الأهلية التسجّل رسمياً في مهلة أقصاها 10 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بمقتضى قانون متشدّد يعود إلى عهد مبارك ويعمل “على إطلاق يد الحكومة تقريباً في إغلاق أية منظمة”، كما أوردت منظمة هيومن رايتس ووتش. تفرض الحكومة على المجموعات القائمة منذ وقت طويل المسجّلة حالياً في خانة شركات المحاماة أو الشركات غير الربحية – وقد أدّى عدد كبير منها دوراً أساسياً في توثيق الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان – التسجّل في خانة الجمعيات بموجب القانون 84/2002 تحت طائلة مواجهة عقوبات جزائية تصل إلى السجن لمدّة عام بتهمة القيام بأنشطة غير مرخَّصة. وقد حدّد قطاع الأمن الوطني وجود ما لايقل عن مئة منظمة تعمل في مجال حقوق الإنسان من دون أن تكون مسجّلة بحسب الأصول المرعية الإجراء.
ويبدو أنه ثمة اتّجاه إلى إقرار قانون أكثر تشدّداً بعد. فقد اقترحت الحكومة مشروع قانون جديداً يمنح الأجهزة الحكومية والأمنية سلطة كاملة على جميع أنشطة المنظمات الأهلية، بما في ذلك القدرة على نقض القرارات الصادرة عن مجالس إدارتها، كما أنه يفرض عقوبات أشد قد تصل إلى السجن لمدة ثلاث سنوات في حال ارتكاب مخالفات على غرار العمل من دون ترخيص أو الحصول على تمويل أجنبي من دون إذن مسبق. أكثر من ذلك، وقّع السيسي الشهر الفائت على تعديل المادة 78 من قانون العقوبات، بحيث بات كل من يُتَّهم بالحصول على أموال من بلد أجنبي أو منظمة أجنبية معرَّضاً لعقوبة السجن المؤبد. وقد تمت صياغة التعديل بأسلوب مبهم، بما يمنح السلطات هامشاً واسعاً لتفسيره.
التضييق على المساحة الدينية ووسائل الإعلام
تتخذ السلطات المصرية أيضاً خطوات غير مسبوقة لتشديد الرقابة على المساجد في مختلف أنحاء البلاد. في 19 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وافقت وزارة العدل على إجراء يجيز لوزارة الأوقاف منح مفتّشيها الحق في توقيف كل من ينتهك القوانين والتنظيمات المتشدّدة الجديدة داخل المساجد. وفي نيسان/أبريل الماضي، أعلنت الحكومة أنها منعت 12000 إمام من إلقاء الخطب الدينية. وقد وضعت وزارة الأوقاف توجيهات صارمة تقول إنها تهدف إلى مكافحة التطرف والشعارات السياسية، لكنها تُستخدَم أيضاً لضبط الرسائل التي تنطلق من منابر الوعظ ومنع ظهور أي تحدٍّ للسلطات.
ولايزال الصحافيون ووسائل الإعلام يتعرّضون أيضاً للمطاردة من الحكومة. هذا الشهر، اقتيد رئيس التحرير وأحد المراسلين في صحيفة “المصري اليوم”، التي تُعتبَر الصحيفة الخاصة الأولى في البلاد والموالية للنظام إلى حد كبير، أمام محقّقي أمن الدولة الذين استجوبوهما لمدّة 14 ساعة بعدما أعلنت الصحيفة أنها ستنشر محاضر التحقيق في المزاعم عن حدوث غش وتزوير في الانتخابات الرئاسية في العام 2012. وقد أُطلِق سراحهما بكفالة، ويواجهان تهماً تشمل نشر معلومات كاذبة، وسرقة محاضر التحقيق، والإخلال بالسِّلم. وجاء ذلك في أعقاب قيام الحكومة المصرية بمصادرة عدد صحيفة “المصري اليوم” الذي كان من المفترض صدوره في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الجاري بحجّة أنه يتضمّن مقابلة حسّاسة مع عميل استخباراتي. في غضون ذلك، يقبع ما لايقل عن أحد عشر صحافياً خلف القضبان في مصر، بحسب لجنة حماية الصحافيين، وبينهم ثلاثة صحافيين من قناة الجزيرة الإنجليزية حُكِم عليهم بالسجن لفترات تتراوح من سبع إلى عشر سنوات بتهمة الضلوع في الإرهاب.
تأتي حملة التضييق هذه على الرغم من أن المشهد الإعلامي خاضعٌ في شكل عام للدولة. ففي أعقاب هجمات سيناء في 24 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وقّع رؤساء 17 صحيفة يومية خاصة ومملوكة من الدولة بياناً داعماً للحكومة في حربها على الإرهاب، وتعهّدوا بموجبه عدم انتقاد مؤسسات الدولة. وقد جاء في البيان: “يؤكد المجتمعون حرصهم الشديد على حماية حرية الكلمة وتحقيق أهداف ثورتى 25 يناير و30 يونيو، غير أنهم يجددون رفضهم لكافة محاولات التشكيك فى مؤسسات الدولة. فى خياراتها الأساسية أو التطاول على الجيش أو الشرطة أو القضاء بما ينعكس بالسلب على أداء هذه المؤسسات”. وقد أوقِف اثنان من كبار مقدّمي البرامج الحوارية عن الظهور على الهواء في غضون أسبوع واحد. فقد أوقفت قناة “دريم تي في” المملوكة من جهات خاصة حلقة الإعلامي وائل الإبراشي بصورة مفاجئة في منتصف عرضها بعدما وجّه انتقادات للعديد من الوزراء. وكذلك حظرت قناة “النهار” الخاصة المقدّم التلفزيوني محمود سعد من متابعة تقديم برنامجه الليلي، واستبدلته بمقدّم آخر بعدما أشار أحد ضيوفه إلى هزيمة مصر العسكرية في العام 1967.
مراقبة النشاط الإلكتروني
إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية، تسعى الحكومة أيضاً إلى رصد حركة المواطنين عبر الإنترنت، بهدف منع أية تحديات محتملة للنظام. يبقى الإنترنت الوسيلة الوحيدة في مصر حيث يتم انتقاد نظام السيسي علناً وعلى نطاق واسع. وفي هذا الإطار، تسعى وزارة الداخلية إلى شراء تقنيات جديدة بهدف إنشاء منظومة واسعة لمراقبة الإنترنت الهدف منها رصد النشاط العام مثل التعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنما أيضاً النشاط الخاص مثل التواصل في غرف المحادثات والاتصالات الهاتفية والمراسلات النصّية. تكشف نسخة مسرّبة من المناقصة التي أطلقتها وزارة الداخلية أن “الأفكار الهدامة” التي ستبحث عنها الوزارة في النشاط الإلكتروني تشمل كل شيء من الدعوة إلى التظاهر و” ازدراء الأديان” وصولاً إلى “السخرية المهينة واللاذعة، والقذف والسب” و”اجتزاء كلام من سياقه”.
استمرّ توسُّع دور الجيش داخل الدولة مع ورود أنباء هذا الشهر بأن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات سوف تقوم بإٍسناد حصة من البنى التحتية الوطنية في قطاع الاتصالات إلى وزارة الدفاع مع منحها الحق في إدارتها. وفي وقت سابق هذا الشهر، عُيِّن اللواء خالد عبد السلام الصدر أميناً عاماً لمجلس النواب المصري، وهو أول شخصية عسكرية تتولّى هذا المنصب. نتيجة هذه الخطوة غير المسبوقة، سيصبح اللواء مسؤولاً عن إدارة الشؤون اليومية لمجلس النواب بعد إجراء انتخابات لاختيار أعضائه – وهكذا يمسك السيسي بزمام السلطتَين التنفيذية والتشريعية معاً.
في غضون ذلك، لا يزال آلاف الأشخاص محتجزين خلف القضبان، وعدد كبير منهم في الحجز الوقائي – وهي آلية قانونية تتيح للمدّعين العامين سجن المواطنين لأشهر متواصلة من دون محاكمة أو من دون اتباع الأصول المرعية الإجراء. وقد أوقِف كثرٌ ووُجِّهت إليهم تهم بموجب قانون التظاهر المتشدّد جداً الذي صدر العام الماضي ويحظر عملياً التظاهرات العامة. وقد حكمت محكمة في القاهرة على 23 ناشطاً شاباً، في 26 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، بالسجن ثلاث سنوات بتهمة انتهاك قانون التظاهر من جملة تهم أخرى. وكانوا قد اعتُقِلوا في حزيران/يونيو الماضي خلال تظاهرة سلمية احتجاجاً على قانون التظاهر وللمطالبة بالإفراج عن المعتقلين.
لايزال نظام السيسي يعمل على إرساء أسس دولةٍ تزداد سلطوية، عبر اللجوء إلى المنطق الاستبدادي القديم الذي يقايض الحقوق بالأمن. في ظل هذه الأجواء، تتقلّص بسرعة المساحة المتاحة أمام المعارضة أو أمام محاسبة المسؤولين في مصر.
شريف عبد القدوس صحافي مستقل مقيم في القاهرة. مراسل البرنامج التلفزيوني/الإذاعي !Democracy Nowوزميل في معهد The Nation Institute.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
رابط الي المقال باللغة الانجليزية
حقوق النشر محفوظة لصدا 2014
© Sada – Carnegie Endowment for International Peace 2014
(المصدر: موقع قنطرة)