منذر مصري يكتب: اللاذقية سفينة نوح سوريا
لا أحد يستطيع أن يعطي رقماً ولو تقريبياً لعدد سكان اللاذقية اليوم، بعد نزح إليها الكثيرون من الناجين بأنفسهم من البلدات والقرى المجاورة شرقاً وشمالاً، وكذلك البعيدة غير التابعة لمحافظتها، التي وقعت فيها المعارك بين أطراف النزاع. غير أن عدد هؤلاء يكاد لا يعادل شيئاً بالمقارنة مع قوافل النازحين من المدن السورية الأخرى، حمص أولاً، ثم المدن القصية كالحسكة والبوكمال ودير الزور والرقة، إلى أن وصل الدور لحلب، فجاء الحلبيون، بعد أن تشبثوا ما أمكنهم ببيوتهم وأسواقهم ومصانعهم، فما كان لعنادهم أن يشفع لهم، فجاؤوا بقوافل كبيرة، يقدرها البعض بمئات الألوف، وقد يبالغون ويقدرونها بما يزيد عن المليون!؟. تركوا كل شيء وجاؤوا فقراء ومعدومي الحال بغالبيتهم.
لكن اللاذقية، رغم التطورات التي طرأت عليها، وخاصة خلال الخمس والعشرين سنة فائتة، وأخص بالذكر، الانتشار السريع لحقول الفطر الحجري شرقاً وشمالاً، لم تكن أبداً مستعدة لاحتواء هذا الفيضان الهائل من البشر، لا كجسم ولا كروح. لا كجسم؛ فالكتلة العمرانية في المدينة، لم تبن وفي ذهن أصحابها شيئاً من هذا القبيل، والطرقات كانت تنوء بزحمة السير قبل الأزمة بسنوات، فماذا بع أن تضاعف عدد المركبات التي تمضي عليها، وتبيت على أرصفتها، وذات القصة مع حصص المدينة المحددة من المياه، والكهرباء، والخبز، وما يتوفر فيها من محاصيل ومواد غذائية، حيث رغم كل طرق المعالجة العسفية التي فرضها الواقع الجديد، تولدت الأزمات وتضاعفت الأسعار مرات ومرات. وحتى مهنة الشحاذة و(التنكيش) في حاويات القمامة باتت تعاني من تزاحم الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا سبيلاً للعيش سواها. ولا كروح؛ لأن هؤلاء المنكوبين حطّوا بنكباتهم فوق أرض تحيا بدورها نكبتها الخاصة بها، إن لم أقل لعنتها، فاللاذقية أيضاً فقدت الكثير الكثير من أبنائها، سواء ممن عارضوا وتظاهروا واعتقلوا وحملوا السلاح، أو ممن والوا وحاربوا في صفوف الجيش النظامي في درعا وفي القصير وريف دمشق وحلب. حتى باتت خجولة نعوات الموت الطبيعي على جدران المدينة. هذا إذا لم أذكر الجرح النازف الذي صنعه المهاجرون منه خوفاً من المجهول الذي يتهدد أطفالهم، أو شبابها الذي غادروها تهرباً من دعوات الخدمة الاجبارية والاحتياطية.
قال لي ابني في زيارته الأخيرة، بعد غياب أربعة أعوام: (لا هذه غير اللاذقية التي كنت أتوق للعودة إليها). أما تلك السيدة الحلبية فقد أخبرتني أنهم اضطروا للمجيء إلى اللاذقية، بعد استشهاد أبنها الأكبر وهو يحارب في صفوف الجيش في حلب ووصول المسلحين لحيهم، وهنا راح الابن الثاني، بسبب مرض الأب، يعمل ليعيل العائلة على شاحنة صغيرة ابتاعوها لهذا الغرض، إلاّ أنه منذ شهرين، وهو ينقل حمولة إلى المنطقة الصناعية، اختفى واختفت الشاحنة معه، ولتاريخه، رغم مراجعاتهم لكل فروع الأمن، لا يعرفون عنه شيئاً. إلاّ أنه صحيح أيضاً، وربما الأصح من كل شيء، ما قاله لي أحد باعة ربطات الخبز قرب بيتي: (لا تظنّ يا أخي أن يموت لك ابن، أصعب من أن ترى أطفالك الأربعة جائعين).
عوامل عديدة، ساعدت، لليوم، على نجاة اللاذقية من مصير شقيقاتها حمص وحلب ودرعا والرقة. ويمكنني أن أضيف مدناً سورية منكوبة أخرى ولو بصورة أقل فجائعية، فالبعض يخمّن أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الأطراف الكبرى اللاعبة على الرقعة السورية، لتحييد الشريط الساحلي الممتد من تركيا حتى لبنان، وذلك لأسباب وغايات عديدة بدورها. أهمها:
1- كونه مؤلفاً من مكونات مذهبية، من المحتم أن تتحول أي مواجهة بينها إلى حرب أهلية طاحنة.
2- عدم قدرة الدول المجاورة، على استقبال المزيد من النازحين السوريين، فما بالك بموجة التسونامي التي ستنتج قي وصول الحرب والدمار لهذه المنطقة.
3- التخوف من حصول تطهير عرقي غير مسبوق، خاصة وأنه ليس هناك أي منفذ جغرافي لهذه الكتلة البشرية الكبيرة المحشورة في الزاوية الغربية.
3- لن يبقى هناك مجال لأيّ حلّ سياسي في المستقبل، إذا لم يُحافظ على قسم من سوريا يصلح لأن يكون قاعدة أو منطلقاً لهذا الحل.
إلاّ إن اللاذقية، الأشبه اليوم بسفينة تعوم فوق محيط من الأمواج العاتية، بات يطلق عليها الصواريخ، التي لا يعرف الناس من يطلقونها، ولا لأية غاية يطلقونها، فتقع على مطارح لا على التعيين، وتقتل وتجرح أناساً لا على التعيين. كما أن التهديدات بالبدء بمعركة الساحل قد أعلنت أكثر من مرة، والحواجز الثابتة والطيارة ما زالت تطبق على صدر المدينة وأهلها وقاطنيها، وصفارات سيارات الإسعاف لا تتوقف عن تغذية الخوف والرعب من مصير مجهول، يهلوس البعض الآخر، أنه الكابوس الأشد دموية والذي لا مفر لسوري منه.
نعم، إذا كان ما يحدث في سوريا طوفان، واللاذقية سفينة نوح السوريين، فالسؤال الكبير هو: (ولكن أين نوح!؟)..
(المصدر: هنا صوتك)