هل النظام السوري نظام العلويين؟ الجزء الأول
علاء الدين الخطيب
لا يهدف هذا المقال للدفاع عن العلويين كعلويين بل عن السوريين كسوريين. فضمن أنهار الدماء والآلام المفتوحة والصراع الدولي الهائل المتوحش فوق الأرض السورية ظهر سلاح الطوائف والقوميات كأمضى سلاح يشكل التهديد الأخطر لمستقبل سوريا أكثر بكثير من البراميل والصواريخ والسيوف.
لم يُسمى النظام السوري بهذا الاسم منذ 4 سنين فقط، بل منذ 1970 يوم تولى حافظ الأسد رئاسة سورية. لقد كان طبيعيا في المجتمع السوري المحافظ على تراثه الديني والطائفي والإقليمي والعائلي والطبقي أن يكون أهم وصف لأي زعيم سوري “علوي، سني، دمشقي، حلبي، حموي، عربي، كردي، شركسي… الخ”. منذ الاستقلال أثبت السوريون شعبيا أن لا غضاضة لديهم حول طائفة ودين الزعيم السوري. لكن ما دارت به الأيام لاحقا وبسبب هوس حافظ الأسد بالسلطة تحول التعريف الطائفي بالتدريج إلى أداة تقسيم داخل جسد الشعب السوري.
حافظ الأسد لم يكن حاكما غبيا ولا نقول كما يردد البعض عبقريا. كان حاكما ذكيا ميزته أنه يتعلم من خبراته. أهم أسس قوة حكم حافظ الأسد أنه دمج بين ثلاث سياسات: الأولى اكتساب رضى الناس من خلال التقرب من الزعامات الدينية والطائفية والقبلية والمالية. والثانية سياسة فرق تسد، المبدأ الذهبي في الحكم، والتفريق الواضح الممكن بسوريا هو بين الطوائف أولا ثم بين القوميات. والسياسة الثالثة والأهم هي اليد الحديدية التي لا ترحم أي معارض أو منتقد.
بالسياستين الأولى والثانية كانت وسائل العمل هي: المال بمصالحه وفساده وتصارعه بالسوق ووسيلة الدين والطوائف والقبليات والقوميات. كانت عملية اكتساب رضى الناس يجب أن تبدأ طبيعيا من محيطه الأساسي كديكتاتور أي العائلة الأصغر فالأكبر فالقرية وتلقائيا سيستتبع ذلك أن يجر كل “مدعوم” دائرته الأقرب. لكن حافظ الأسد لم يكن بغباء تسليم رقبته لأهله، فقد أحاط نفسه بمجموعة متنوعة طائفيا وقوميا من السوريين الذين أنشئوا معه هرما مستفيدا من السلطة معتمدا على فسادها بمصالحه. هذه الدائرة احتوت أساسا بالبداية ضباط الجيش لكنها تمتدت بسرعة لتشمل وبنفس الأهمية طبقة كبار التجار وهم أساسا الدمشقيون والحلبيون وأيضا زعماء القبائل والعشائر الممتدة من أطراف حوران مرورا ببادية حمص وصولا للجزيرة السورية. وضمن هذه الهرم منح رجال الدين بكل الطوائف مكانات مميزة يعرفها السوريون جيدا وهم يطلبون واسطة لتسيير حياتهم المُنهكة أصلا، فحاجة السوري بسبب فساد النظام الإداري للواسطة تماثل حاجته للطعام.
في منتصف الثمانينات، بعد حربه مع تنظيم الإخوان المسلمين الذي قاد محاولة انقلابية مسلحة حيث استخدم حافظ الأسد اليد الحديدية بوحشية لا ترحم. ثم صدامه الأشد خطرا مع أخيه رفعت الأسد توصل حافظ الأسد لكلمة السر: احجز الطائفة العلوية في الجيش ووظائف الدولة، ادعم الطائفة السنية في مجال التجارة والصناعة والاستثمار، وزع بقية الطوائف بين الوسطين. وأقم حاجزا حادا بين السلطة العسكرية وبين السلطة المالية وناور بالسلطة الإدارية بين الأقوياء. هذا التقسيم نجح لأنه راعى أيضا الحالة النفسية والتاريخية للسوريين. فالعلويون القادمون من قرى فقيرة تحمل ذاكرة اضطهاد مريرة من أيام العثمانيين ستجد أن لمعان النجوم على أكتاف أولادها أكثر من كاف لها، أما سنة المدن الكبرى فهما تاريخيا شيوخ التجارة والمال وسيناسبهم منحهم حرية السوق بعد كابوس عبد الناصر ثم بعثيي الستينات والتأميم. الناحية الأهم بالنسبة لحافظ الأسد أن الجيش والأمن كمؤسسة هي حتما بنية تسلطية ديكتاتورية هرمية بقسوة يمكن التحكم بها عبر معادلات بسيطة غير معقدة وهي أفضل مؤسسة لضمان السيطرة على طائفته التي كانت بالواقع أكبر خطر واجهه منذ 1966 مع القوميين السوريين ثم صلاح جديد ثم الشيوعيين ثم رفعت الأسد ثم مافيات الجبل. لم يقع حافظ الأسد بفخ تسليم الجيش للضباط العلويين. هو منحهم نسبة أعلى من نسبتهم السكانية بكثير كضباط قادة لكنه قرنهم دائما بضباط من بقية الطوائف بمن فيهم السنة. فوزارة الدفاع ورئاسة الأركان بقيت للسنة مهما قيل من إشاعات شعبية حول ضعف المنصبين.
مع تسلم بشار الأسد السلطة بعد أبيه اختلفت الأمور جزئيا. فبعد أن تخلص بشار من الضباط الكبار الغير مخلصين له، قام بكسر الحاجز الحديدي الذي أنشأه أبوه بين الجيش والأمن وبين المال والتجارة والاقتصاد، فسمح بزواج السفاح بين المال والبوط العسكري. وسمح لأول مرة لأقاربه باقتحام الأسواق السورية التي بقيت أيام حافظ الأسد حكرا على تجار دمشق وحلب. ظهر رامي مخلوف بسلطات هائلة اقتحم بها كثيرا من القطاعات الاقتصادية بعد أن أصبح يعمل خلالها بما يمكن تسميته “مشلح” كرمز سيء للمرحلة الجديدة لعهد السوق المفتوح. هذا الاختلاط السريع بين العسكر والتجارة والصناعة رسخ فساد أجهزة الدولة وزاد من تبرم الشارع وغضبه من السلطة التي لم تحقق شيئا يذكر بعد عام 2000 من وعودها.
هرم السلطة
الآن لو عدنا لهرم السلطة أو ما اعتاد السوريون أن يسموه النظام سنجد أن هذا النظام يرتكز أساسا على 4 قوائم: القائمة العسكرية، القائمة الأمنية، القائمة الإدارية، والقائمة المالية. من الناحية البنيوية لسوريا ولغالبية دول العالم منذ أواخر القرن الماضي لا يمكن الادعاء أن قائمتي الجيش والأمن تكفيان لإنشاء سلطة ودولة.
بالواقع كثير من الناس وحتى من المثقفين ما زالوا يفكرون بسوريا بمنهجية ورثوها من حقبة ما بعد الاستقلال حين كان يمكن لمجموعة ضباط أن تقلب البلد في ليلة واحدة. هذا كان ممكنا لأن سوريا ومن يشبهها من دول بعد الاستقلال الأول من احتلالات دامت قرونا كانت دولة يمكن تسميتها “بدائية” بالقرن العشرين. والمقصود بالبدائية هنا هو أنها كانت بمرحلة التأسيس للدولة الحديثة بالانتقال ليس فقط للدولة الوطنية، بل أيضا للدولة المؤسساتية. أما منذ الثمانينات وخاصة بعد انهيار السوفييت وانفتاح العالم على بعضه وانتشار التعليم والإعلام ووسائل التواصل وتضخم ما يسمى السوق العالمي المفتوح أمام البضائع والأفكار والأموال أصبح من المستحيل تأسيس دولة يحكمها نظام سلطوي شمولي دون تأسيس القائمتين الأخيرتين: القائمة الإدارية (مؤسسات الدولة) والقائمة المالية (التجارة والصناعة والبنوك والخدمات).
النظام السوري منذ التسعينات أصبح بكل وضوح تحالف القوى المسيطرة على الجيش والأمن وأجهزة الدولة وحركة الرأسمال السوري. لقد أسس حافظ الأسد ورجاله دولة المؤسسات الديكتاتورية، ولم يؤسس طبعا دولة المواطنة، حيث يجلس الديكتاتور بأعلى الهرم ويجلس تحته على مستويات الهرم نزولا ديكتاتوريون تابعون له بفرض قوة المصلحة.
إنه هرم كامل لا يمكنه الوقوف فقط اعتمادا على رأسه. هذا الهرم يتدرج سلطويا من القمة حيث يرتاح الحاكم نزولا للوزير والضابط القيادي والمدير العام والتاجر الملياردير نزولا للمسؤولين الحكوميين المستوى الثالث والضباط القادة بالمستوى الثالث وما دونه والتاجر الغني المليونير، وينزل أكثر للموظف العادي والعسكري الرقيب والمساعد والعريف وصاحب الدكانة والبسطة والتاكسي. ضمن هرم هذه السلطة كل رئيس ديكتاتور على من دونه تحكمهم علاقة الفساد المؤسس للنظام الديكتاتوري وتشابك المصالح “طَعْميني لَطَعْميك، مرّر لي لأمرر لك”. هذا الهرم السلطوي هو نفسه بكل البلدان الديكتاتورية بالعالم يعتمد بقوته أساسا على “حرفية” بناء الهرم وعلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلد. بهذا الهرم السلطوي لا يمكن لفئة مهما كان شكلها طائفي أو قومي أو عشائري أن تحكم هذه الهرم.
هذا الهرم يعيش على شبكة أنابيب مالية تضخ المال من الأسفل للأعلى والسلطة من الأعلى بالأسفل. المال يتوزع بالقاعدة على عدد كبير فحصصهم صغيرة، ثم على عدد أقل بالمستويات الأعلى لتصل غالبية المال لقمة الهرم. أما السلطة فتسير بالعكس من سلطة مطلقة للحاكم الأعلى نزولا بمستويات الهرم للضباط والوزراء والأغنياء وصولا لعامة الشعب.
هرم السطلة بسوريا وبكل بلد طبعا يشمل نسبة ضئيلة جدا من الشعب في مستوياته العليا. لكن بالمستويات عند القاعدة ومع تفرعات متتالية لكل نقطة ارتكاز يضم الهرم عددا كبير من الناس، ليس لأنهم أصحاب سلطة فعلية بل لأنهم منقادون حسب تسلسلية هذا الهرم تاريخيا. ضمن هذه البنية المعقدة يستحيل حتى على الغالبية السنية السورية حتى لو أرادت أن تمسك بكامل هرم السلطة في نظام ديكتاتوري فما بالك بأقلية مثل العلويين.
قد يقول قائل: نعم هرم السلطة يحوي الكثير من غير العلويين، لكن أصحاب مراكز القرار هم من العلويين وينطلق معددا الأسماء والقصص والحوادث.
الجواب: قد يكون صحيحاً أن نسبة الضباط الأقوياء في أعلى الهرم العسكري من العلويين أكبر من نسبتهم السكانية بحيث يصلون إلى 50% على أقصى تقدير (نحتاج بعض الحيادية للخروج من أوهام ال99%). لكن هذا الكلام مستحيل التحقق في السلطة الإدارية وغير موجود أصلا في السلطة المالية (كبار الرأسماليين والتجار). ونعود لنكرر أن حتى زعيم القبيلة بشكلها البدائي تأتي قوته من رجاله وليس من شخصه فلا يمكن لبضعة مئات من العسكريين والأمنيين إمساك بلد مثل سوريا طيلة 40 عاما.
وبفرض أن حجة القائل هذه صحيحة. فهذا لا يعني أن الطائفة العلوية هي التي تحكم. كم عدد المتحكمين بالسلطة بغض النظر عن أصولهم؟ هؤلاء بفرض صحة الكلام ما زالوا أقلية ضمن مجموع العلويين أنفسهم.
أرجو من القارئ العزيز عدم التعجل بالحكم قبل قراءة القسم الثاني.
(المصدر: بيت السلام السوري)