هل مهدت "الوهابية" الطريق لصعود فكر "داعش" التكفيري؟
هل مهدت “الوهابية” الطريق لصعود فكر “داعش” التكفيري؟
ينظر اليوم إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، على اعتباره من أكثر التنظيمات عنفاً في تاريخ الحركات الإسلامية، التي تتبنى الفكر السلفي الجهادي التكفيري، بما فيها حتى التنظيم الأم الذي خرج منه، أي تنظيم “القاعدة” الذي انتمى إليه أبو مصعب الزرقاوي، الأب الشرعي لهذا التنظيم المتطرف. وتعتمد قوة هذا التنظيم على أساس الاستقطاب الطائفي قبل الإيديولوجي. ويعتمد خطابا دينيا متعصبا موجها إلى طائفة بعينها هي طائفة السنة. كما يتبنى العنف والإرهاب كنهج لتحقيق أهدافه.
بداية التأسيس
التاريخ القريب لهذا التنظيم يبدأ في عام 2003 مع الأردني أبو مصعب الزرقاوي، عندما أسس “جماعة التوحيد والجهاد” في العراق، وأعلن مبايعته لأسامة بن لادن زعيم تنظيم “القاعدة” آنذاك. ويمكن اعتبار “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” الذي كان يتزعمه الزرقاوي بمثابة النواة الأولى لـ “داعش”، حيث كان يستقطب أتباعه من طائفة السنة داخل العراق ومن دول أخرى.
وفي عام 2006م حاول الزرقاوي تجميع الجماعات الإسلامية المقاتلة تحت تنظيم “مجلس شورى المجاهدين”، بزعامة أبي عمر عبد الله رشيد البغدادي، لكن هذا المجلس لن يعمر أقل من عشرة أشهر، إذ تم حله في نفس السنة بعد مقتل الزرقاوي، ليحل محله أبو حمزة المهاجر على رأس تنظيم القاعدة في العراق، لكن أبي عمر البغدادي لن يبايعه وسيؤسس”دولة العراق الإسلامية”. وفي عام 2010 قتل أبي عمر البغدادي لتتم مبايعة أبي بكر البغدادي أميرا للتنظيم الجديد.
ومع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، سيجد هذا التنظيم في بلادها مرتعا له للتمدد غربا معلنا حربه المقدسة ضد “النظام النصيري السوري”. وفي العام 2012 سيعلن التنظيم بسط نفوذ دولته في الشام والحرب ضد الحركات الجهادية الأخرى المنافسة له خاصة “جبهة النصرة”، وسيٌسقط زعيمه بيعته لتنظيم “القاعدة”. وفي عام 2013 أعلن البغدادي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي سيتم تلخيصها في كلمة: “داعش”.
ورغم تقاسمهما لنفس المرجعية الأيديولوجية المتطرفة، إلا أن تنظيم “النصرة” يتهم مقاتلي “داعش” بالتشدد في تطبيق الشريعة، وقد تحولت خلافاتهما إلى حرب طاحنة بينهما. ولم يستثن تعصب “داعش”، حتى حلفائها الموضوعيين في الأزمة السورية مثل “الجيش السوري الحري” الذي كفره التنظيم واتهمه بالارتداد عن الدين الإسلامي.
جذور فكر “داعش” التكفيري والجهادي
هناك من يعيد جذور هذا الفكر السلفي الجهادي إلى أول خلاف في فجر الإسلام بين علي ابن أبي طالب ومعاوية ابن سفيان، بعد قضية التحكيم بينهما والتي كان من نتائجها انتهاء عهد الخلافة، وتأسيس أول نظام ملكي وراثي في الإسلام في في النصف الأول من القرن الهجري، وكان من نتائج ذلك التحكيم ظهور رافضين له، سموا بـ “الخوارج”.
لكن إذا ما سلمنا بأن “الخوارج” هم من أسسوا لأول فكر متشدد في تاريخ الإسلام، إلا أن فكرهم كان ينطلق من موقف سياسي معارض للتحكيم، الذي اعتمد للحسم في الخلاف بين علي ومعاوية وبموجبه انتقل الحكم من زمن الخلافة إلى زمن الحكم عن طريق الثوريت. وسيذهب الخوارج إلى حد تكفير خليفتهم علي إبن أبي طالب، بعد واقعة “التحكيم” ولم يعترفوا بحكم معاوية، وسيتبنون وجوب الثورة على أئمة الجور والفسق والضعف، أي الأئمة الذين يبررون نتائج التحكيم سواء بتبريره أو بقبوله كأمر واقع أو بالخنوع له.
هذا النوع من التفكير التكفيري سيجد من يؤسس له فقهيا. وسيتجسد بجلاء في المذهب الفقهي لأحمد بن حنبل (780-855م)، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي. ويقوم هذا المذهب الذي يعتبر من أكثر المذاهب السنية محافظة، على الاعتماد على النص والابتعاد عن الاجتهاد والتأويل واضعا بذلك البنيات الأولى لتأسيس الفكر التكفيري، رغم أن مؤسس هذا المذهب تورع في حياته عن تكفير من كان يحالفه من فرق أخرى كالشيعة والمرجئة والخوارج والمعتزلة.
وفي القرن الثامن الميلادي سيواجه صاحب هذا المذهب فكر “المعتزلة”، الذين كانوا يقولون بخلق القرآن، وهو نفس الرأي الذي كان يتبناه خلفاء تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي، وفرضوه على الفقهاء والقضاة، لكن ابن حنبل عارضهم فتعرض للسجن والتعذيب دون أن يثنيه ذلك عن مذهبه الذي صار له أتباع كثر من بعده.
ويعتقد دارسوا هذا المذهب أن المحنة التي تعرض لها مؤسسه هي التي أدت إلى تبلور وانتصار الاتجاه المتطرف داخل أهل السنة والجماعة في تاريخ الإسلام. لذلك ينظر إليه كثيرون على اعتباره المؤسس التاريخي للتوجه السلفي، الذي يعتبر اليوم مرجعا للحركات السلفية الجهادية، بما فيها حتى تلك التي لعبت دورا كبيرا في قيام الدولة السعودية أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
بداية التشدد الفكري
لكن هذا الفكر سيتخذ منحى متشدد، وسيتجسد في فتاوي فقيه عاش قبل سبعة قرون، هو أحمد ابن تيمية (661–728م) اتخذ منه مرجعا لتبرير تشدده وتطرفه. فرغم مرور كل هذه القرون مازال فكر هذا الفقيه وفتاويه مثارا للجدل بين جمهور فقهاء الإسلام. فإذا كان أنصاره يعتبرونه مجددا أحيا الدين، فإن خصومه يصفون فكره بالغلو والتشدد، ويتهمونه بنشر الفكر المتطرف والإرهاب.
ويعد إبن تيمية الذي يوصف بـ “شيخ الإسلام” صاحب تأثير كبير على “الصحوة الإسلامية” بتياراتها المختلفة، وخاصةالتيار السلفي الجهادي الذي تعتبر تنظيمات مثل “القاعدة” و”داعش” أحد نتاج هذا النوع من الفكر المتشدد الذي ينتصر للنص على حساب العقل.
فكر أحمد ابن تيمية سيجد من يحييه بعد ستة قرون من وفاته، إنها العقيدة “الوهابية” التي تشترك معه في الكثير من القواسم، بل ويعتبر أتباع هذا الفكر ابن تيمية الأب الروحي لهم. فـ “الوهابية” قامت على أساس أن المسلمين عاشوا ستة قرون في جهل وضياع منذ وفاة شيخ الإسلام، ابن تيمية، إلى أن ظهر محمد بن عبد الوهاب الذي يعتقد أتباعه أنه أحيا الدعوة وأعاد الناس إلى العقيدة الصحيحة. ومن أجل تحقيق هذه الغاية يتبنى فكرة الجهاد كأسلوب لإعادة إقامة دولة الإسلام أو دولة الخلافة.
ما أشبه الليلة بالبارحة
من يعيد استقراء تاريخ بدايات انتشار “الوهابية” في بداية القرن التاسع عشر، سيكتشف الكثير من أوجه الشبه ما بين النهج العنيف الذي كانت تتبعه هذه الحركة بعد تحالفها مع آل سعود لفرض وجودها، وما بين العنف الذي يتبناه تنظيم “داعش” لفرض أفكاره وبسط نفوذه.
فما تشهده اليوم مدن العراق وسوريا من تدمير للمساجد والحسينيات الشيعية وللمزارات والقبور الصوفية، ومن محاكمات شرعية تقيم الحدود وتنفذ الإعدامات الجماعية العشوائية، نكاد نجد شبيها له في تاريخ حركة آل سعود المسنودة بالفكر الوهابي، ما بين عامي 1904 و 1925، حيث قاموا بتدمير مقابر أهل البيت، وصحابة الرسول محمد، واجتثوا المساجد وبيوت الأولياء، ودكوا القباب والمزارات.
يروي أمين الريحاني في كتابه “تاريخ نجد الحديث وملحقاته” (ص: 28 و 29) أن الحادث الخطير في دعوة محمد عبد الوهاب هو قطعه لشجرة “الذيب” في منطقة الجبيلة، التي كان يتبرك بها الناس، فتبعه أنصاره في تدمير القباب وتحطيم القبور بما فيها قبور أصحاب النبي محمد. أما الحادث الثاني الأكثر خطورة حسب الريحاني، في دعوة مؤسس الوهابية، فكان هو رجم إمرأة اتهمت بالزنا في ساحة عمومية. يصف الريحاني: “رجمت الزانية! فسرى خبرها سير البرق في البوادي والحضر، ووقع وقع الصاعقة في القلوب الأثيمة والقلوب الطاهرة، فسكت أناس، وصاح آخرون”.
ويذكر الريحاني أن أمير منطقة الإحساء كتب إلى الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ينذره ويدعوه إلى التراجع عن غيه، مما حمل الشيخ على الهجرة خوفا على حياته، فتلقفه أمير ذو طموح كبير هو محمد ابن سعود، أمير منطقة الدرعية آنذاك، فتعاهدا على عقد العهد الذي جمع بين عقيدة المصلح وسيادة الأمير. عهد “المذهب والسيف” الذي مازال يجمع بين الوهابيين وآل سعود إلى يوم الناس هذا ويجسده العلم الوطني السعودي الذي يجمع ما بين كلمة التوحيد وصورة السيف المسلول.
وتذكر كتب التاريخ أن حرب آل سعود، المسنودة شرعيا من طرف “الوهابية”، ذهب ضحيتها سبعة آلاف قتيل، وانتهت بإقامة المملكة السعودية التي تعهد ملوكها بتنبي الفكر الوهابي المتشدد كمذهب رسمي للدولة، يقوم على فرض تطبيق الشريعة واعتماد قوانينها الصارمة، وهو ما يقول اليوم تنظيم “داعش” إنه يسعى إلى الوصول إليه.
لكن مع مرور الوقت لم تكن علاقة آل سعود دائما على خير مع “الوهابية”، بحيث كانت تمر كثيرا بلحظات توتر أدت إلى ظهور تيارات فكرية من داخل الفكر الوهابي تعادي النظام السعودي وتدعو إلى مقاتلته. ولعل أبرز هذه التيارات هي تنظيم “القاعدة” الذي أسس أسامة بن لادن معلنا عودة التفكير الجهادي إلى أرض الإسلام.
عودة الفكر الجهادي
هذا النوع من الفكر التكفيري الجهادي سيجد مبررا له للعودة مجددا إلى أرض الإسلام كرد فعل هذه المرة على القمع الذي تعرضت له بعض الحركات الإسلامية في دول قمعية في مصر وسوريا في النصف الثاني من القرن العشرين. ومع حرب أمريكا في أفغانستان سيتم تشجيع هذا الفكر رسميا من قبل أنظمة عربية وقفت إلى جانب أمريكا في حربها ضد الروس في أفغانستان قبل أن ينتقل نفس الفكر إلى العراق، وهذه المرة ضد أمريكا وبدعم من أنظمة عربية كانت تقف ضد التدخل الأمريكي في العراق.
وما بين حرب أفغانستان واحتلال العراق، سينتشر هذا الفكر في أوساط الشباب المتدين الذي سيتبنى العنف داخل بلدانه لتحقيق قناعاته. وأغلب هؤلاء الشباب هم الذين شكلوا مقاتلي تنظيم “القاعدة”، ويشكلون اليوم إحدى أذرع جيش “داعش” وحطب حربها داخل العراق وسوريا، يغذيهم حلمهم بإعادة حكم الخلافة إلى بلاد العرب، وإقامة دولة الإسلام على الأرض بقوة الحديد والنار.
علي أنوزلا
تحرير: لؤي المدهون
علي أنوزلا كاتب وصحفي من المغرب، مدير موقع “لكم. كوم” الذي منعته السلطات المغربية عام 2013، أسس ورأس تحرير عدة منابر صحفية ورقية. حاصل على جائزة “قادة من أجل الديمقراطية” 2013 من منظمة “بوميد” الأمريكية. اختارته منظمة “مراسلون بلا حدود” الفرنسية كأحد “أبطال الإعلام” في العالم عام 2014.
(المصدر: موقع قنطرة)