نساء العالم الثالث وخطاب الاستعمار:نقاش في بديهيات الخطاب
بقلم : هدى أبو مخ
حين كتب موشيه سميلانسكي في عام 1906 قصته “لطيفة”, لم يكن يهدف الى اظهار تعاطفه مع بطلته العربية المضطهدة على يد المجتمع العربي, بل كان يرمي الى اظهار شرعية ووجوب الاستيطان اليهودي في فلسطين من اجل اقامة الدولة اليهودية. سميلانسكي رمى حينها الى اظهار التعاطف مع الشعب اليهودي من خلال اظهار الفوقية والافضلية الاخلاقية والثقافية للمهاجرين اليهود على السكان الاصليين للمكان, من خلال ابرازه التعامل المزري للعرب مع المراة. سميلانسكي ينتمي بهذا الى تقليد غربي متعاقب من الادعاءات الغربية تجاه الشرق كمتخلف وبربري.
وموشيه سميلانسكي (1874- 1953) الذي هاجر الى فلسطين في عام 1891, من منطلق ايديولوجي صهيوني, كتب الكثير من القصص عن حياة العرب وعلاقتهم بالمستوطنات اليهودية المجاورة. وفي كل تلك القصص برز العرب على ذات النمط, اي كشعب بربري ومتخلف- ثقافيا واخلاقيا واجتماعيا- ما يبرر بالتالي, من وجهة نظر سميلانسكي والصهيونية, اهمية وافضلية التواجد اليهودي على ارض فلسطين عوضا عن العرب. كان وضع الحدود بين الانا اليهودي والاخر العربي ضروريا لهدفين:
1. تعريف هويته (الانا اليهودي المتحضر والعادل) من خلال ابراز النقيض (الاخر العربي المتخلف, البربري).
2. اقصاء ذلك النقيض. اي, اقصاء العربي عن ارضه من خلال خلق حالة اغتراب بينه وبين موطنه (فلسطين).
لكن لم دائما استغل وضع المراة المضطهدة في الخطاب الاستعماري؟ وما الذي جعل الاستعمار المرتبط بالاضطهاد يربط ماهيته السلبية بادعاءات متواصلة حول وضع المراة؟ هل هي حقا الرغبة بتحرير المراة الشرقية؟
هذا ما يحاول هذا المقال الاجابة عليه من خلال استعراض سريع للخطاب الصهيوني الاستعماري, ومن خلال خلق تواصل بين هذا الشكل من الاستعمار, وبين اشكال الاستعمار الاخرى في يومنا هذا بحيث سيكون غزو افغانستان مثالا على ذلك.
يهمني التنويه هنا الى تحفظ مهم. فالمقال لا يرمي الى تصوير الادعاءات الغربية حول دونية واضطهاد المراة العربية على انها اكاذيب واساطير من وحي الخيال, فحالة الاضطهاد التي تحياها المراة حقيقة لا شك فيها. نقطة الخلاف مع هذا الخطاب تتعلق بالمسببات الحقيقية للاستعمار, بحيث ان تحرير المراة ليس حقا الهدف الحقيقي للحروب, بل حفظ المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لتلك الدول وضمان عدم المساس بها من ناحية, ومن ناحية اخرى الحفاظ على بعد متخيل بين الشرق الضعيف الذي يتم الولوج اليه, وبين الغرب الذي يقوم بالغزو والبطولة والنصر.
في قصته “لطيفة”, يصف سميلانسكي وقوع الراوي في حب فتاة عربية جميلة العينين, والتي يقوم والدها في نهاية الامر بتزويجها غصبا عنها من شيخ عجوز. اما لطيفة فتذبل وتشيخ في سنوات قليلة.
ان تغاضينا عن القيمة الفنية الرديئة للقصة, فان هنالك امرين يثيران الانتباه:
1. الحوار الذي جرى بين الراوي وبين لطيفة – وهو الحوار المهم لنقاشنا.
2. الحوار الذي جرى بين الراوي وبين العامل العربي لديه (عطا الله) حول والد لطيفة, والذي يظهره كجشع واستغلالي, بحيث يدفع لعماله نصف ما يدفعه المشغل اليهودي لهم.
سميلانسكي بنى تلك الحوارات بمنهجية شديدة, بحيث مكنه هذا من تعريف العربي كنقيض لليهودي في الثقافة, الفكر, الشخصية والتجربة. لطيفة صورت في القصة كجزء من الاخر العربي المتخلف, وايضا كالجزء الاكثر تخلفا وخنوعا في هذا الاخر, فهي ابنة العربي الشرير وهي امراة مضطهدة تعامل كسلعة بيد والدها ووفقا لمفاهيم المجتمع. المبنى الايديولوجي للقصة يعمل من خلال التاكيد على ان كلا الانتمائين (العربي: انتماء الشخصيات في القصة نساء ورجالا الى الاخر العربي, والجنسي: الانتماء الى جنس النساء) يساعد احدهما على اثبات صحة الفرضية والادعاء حول الاخر. اي ان التخلف الثقافي للعربي, هو المسبب لوضع المراة, وفي ذات الوقت فان وضع المراة يظهر الى اي مدى وصل تخلف العرب. التعاطف المراد انتاجه في هذه الحالة لن يكون تجاه اي من هذين الانتمائين, بل تجاه المجتمع الاكثر عدلا والذي يمثله في القصة الراوي اليهودي. لذا فالمجتمع اليهودي يمثل البديل لهذا المجتمع القائم, وهو ما يحاول سميلانسكي اثباته من اجل دعم الادعاء حول احقية اليهود ليس فقط التاريخية بل ايضا الاخلاقية على ارض فلسطين.
الحوار الذي جرى بين الراوي وبين لطيفة, كان مشحونا بالمعلومات المنتقاة التي تخدم نوايا سميلانسكي باظهار سلبية العربي. هذا الحوار حدث عند بئر ماء:
“- كيف حالك, لطيفة؟
– ابي لا يسمح لي بالعمل…”
و-
“- ابي يود اعطائي لابن الشيخ معجر.
– وانت؟
– افضل الموت على ذلك…”
ثم ينتقل الحوار الى اسلوب المقارنة بين وضع المراة العربية وبين تلك اليهودية بصورة تبرز اضطهاد الاولى وتشييئها على يد الرجل والمجتمع:
“- خواجة, هل صحيح الامر, انه لديكم يتزوجون من واحدة فقط؟
– واحدة فقط, لطيفة.
– ولديكم لا يضربون؟
– كلا, كيف بالامكان ضرب من تحب؟
– عندكم تتزوج الفتيات ممن يردن؟
– طبعا.
– ونحن يبيعوننا كالحمير”
القوة الحقيقية لسميلانسكي, وكما تتجلى هنا, تنبع اساسا من اختياره لاحداث وعادات حقيقية قائمة في المجتمع العربي انذاك, من اجل اقناع المهاجرون اليهود بالاهمية الاخلاقية لوجودهم على ارض فلسطين. هذا الاختيار يقوي من ادعاءاته ويغطي على الكثير من التناقضات فيها, بحيث ان ما يظهر في نهاية المطاف على السطح مجتمعان احدهما فاسد والاخر ايجابي, وذلك بدون الحاجة للتطرق الى مسائل اخلاقية جوهرية كعلاقة هذا العدل المدعى بفكر وايديولوجيا تفيض بالكراهية للعرب. هذه الكراهية للعرب تتحول في هذا الخطاب الى نتيجة للاستبداد العربي, وتترسخ على هذا النحو في الوعي اليهودي متغاضية كلية عن كونها مركب اساسي للصهيونية وانها قائمة بحد ذاتها حتى لو لم يكن العربي متاخرا ثقافيا او مستبدا. هذه النظرة تبرز الاجزاء السلبية في المجتمع العربي وتجند الاجزاء المضطهدة بداخله في عملية شطف الدماغ, فيتحول المضطهد (المراة والعمال في هذه الحالة) الى جزء من خطاب يهدف الى اثبات افضلية اليهودي على العربي -السلبي- المتمثل بشخص الاب, ولكن في ذات الوقت الحفاظ على تلك الاجزاء المضطهدة كجزء من ثقافة هذا الاب ومكوناتها.
الصراع في هذه القصة بين العربي واليهودي ليس عنيفا, بل ياخذ شكلا اخر اكثر خفية, حيث مكان تحركه هو جدل يسعى الى الحفاظ على العربي في المكان المخطط له في الخطاب الصهيوني. الصراع يصور هنا على انه صراع بين الحضارات: الحضارة اليهودية الراقية والحضارة العربية المتخلفة. انه صراع عميق يستمد قوته من سهولة تجذره في وعي ولا وعي القراء اليهود, بحيث يتحول العرب الى مجرد فكرة مسبقة ذات نفس المعايير والقيم بدون اي شاذ عن القاعدة.
في مكان اخر, يحكي الراوي عن لقاءه بلطيفة بعد سنوات قليلة:
“هذه كانت لطيفة… امراة عجوز, وجه يمتلئ بالتجاعيد, عجوزا”
فيسالها:
“- كيف حالك؟ لماذا تغيرت هكذا؟
– الكل بيد الله, خواجه!
وصمتت.
– خواجه موسى تزوج؟
– اجل, لطيفه…
– هل بامكاني رؤيتها…
ناديت زوجتي. زمنا طويلا نظرت الي لطيفة. في عينيها تلألأت دموع…
ومنذ ذلك الحين لم ار لطيفة.”
تصوير المراة العربية لا سيما الفلسطينية في الخطاب الصهيوني في يومنا هذا لا يختلف جوهريا عنه في فترة استيطان فلسطين قبل اقامة دولة اسرائيل على انقاضها. فهو اسلوب يجتهد من اجل ابقائها في مكان معين في اذهان الافراد: راضخة, مضطهدة, جسد, غبية, قبيحة وترتدي الحجاب على جسدها وفكرها وحركاتها. ومن ناحية ثانية التعامل معها كجزء من الاخر العربي. قد يقول البعض ان وضع المراة العربية في اسرائيل لا يزال غير متقدم كفاية, وانها لا تزال مضطهدة. الامر صحيح الى حد ما. “الى حد ما” لان ادعاء كهذا يتغاضى عن التقدم الملموس الذي احرزته المراة العربية في معظم المجالات. هذا التغاضي يبرز من خلال طريقة تمثيلها في الخطاب الصهيوني بحيث ان مخزون الافكار المسبقة عنها لم يتغير في جوهره ومضمونه. في هذه المرحلة ساستعين بالتجربة الذاتية, كابنة للاقلية الفلسطينية التي تعيش في اسرائيل من اجل شرح هذا الادعاء الاخير:
قبل كتابتي لهذا المقال درجت وعلى مدار اسابيع على الدخول الى العديد من المواقع العبرية واضافة تعليقات على الاخبار تحت اسم “عربيه فخوره”. اخترت هذا الاسم لاظهاري ايضا كاخر قومي, وايضا لابراز كوني انثى. لقب كهذا لم يجد الاستحسان لدى القراء اليهود, نظرا لكون العربي عدوا وايضا لان هذا اللقب يثير التساؤل الهوسي: على ماذا قد تكون هذه العربية فخورة؟ بحيث يرتبط هذا بالاذهان بالاعمال التفجيرية التي تتم في اسرائيل على يد العرب. الكثير من تعليقات القراء اليهود على تعليقاتي حملت طابعا عنصريا شموليا, تطرق بعضه الى الانتماء القومي والاخر الى الانتماء الجنسي. مثلا: “على ماذا انت فخورة. على ان الرجال عندكم يقتلون اخواتهم حين يخطئن؟”, و: “على ماذا انت فخورة, انكم قتلتم 190 شخصا بريئا؟” (التفجيرات البربرية في اسبانيا), او: “عربية وايضا فخورة؟ الامران غير ممكنان معا” و: “لا تكوني فخورة, فانت مجرد جسد في دينك”, و: “عربية وجميلة؟! الامران لا يذهبان سوية” و: “عربية فخورة؟! من اجل من اذا وجد اسم فاطمه؟” (وفاطمة تستعمل للسخرية في الثقافة الاسرائيلية). التعليقات كانت كثيرة, لكن ما ذكرته هنا يكفي لشرح قصدي.
اما ان حدث وقابل احدهم امراة عربية لا تبدو كتلك المزروعة في مخيلته, فانه غالبا ما يعزو هذا الى تاثير الحضارة اليهودية على العرب, بحيث انه وحسب ذات الادعاء, لو لم تقم دولة اسرائيل لبقي وضع المراة والعرب على ما هو عليه. كما انه عادة ما يدعي امامها وامام نفسه بانها حالة شاذة وفردية لا تعبر عن الحالة الحقيقية المجتمع العربي.
بالامكان القول بان استغلال الخطاب الصهيوني للاضطهاد الاجتماعي الذي تعانيه المراة, منح هذا الخطاب بعدا اخلاقيا متخيلا في اذهان المهاجرين, وصور الحركة والمهاجرون على انهم ذوي رسالة سامية لنشر العدل والتحضر على ارض فلسطين. فالمراة كانت مجرد حجة في الخطاب الصهيوني لتنفيذ اهدافه بعيدة المدى على ارض الواقع وبصورة تبدو في “منتهى الاخلاقية والانسانية”.
الادعاءات الجوهرية في الخطاب الامبريالي في يومنا هذا لا تختلف عن تلك في الخطاب الاستعماري للحركة الصهيونية. فلدى غزو افغانستان تحدثت الحكومة الامريكية وبكثرة عن تحرير المراة الافغانية من طالبان والقاعدة, فكان وضع المراة الافغانية المزري حجة يحاول الاستعمار الامريكي من خلالها اظهار مدى وحشية النظام الذي تفرضه طالبان وتعاونها على تنفيذه حركة القاعدة, واظهارهما بالتالي كبرابرة يجب محاربتهما. وبعد سقوط طالبان اجتهدت من اجل اظهار نصرها كنصر للمراة وكمهرجان تحرير لها. هذا لا يعني طبعا ان اضطهاد المراة كان المبرر الوحيد لامريكا في خطابها للحرب على افغانستان, لكن وضع المراة الافغانية شكل مركبا اساسيا في خطاب الغزو, وتم العمل على انتاج المعرفة حولها, بانها مضطهدة وان امريكا ستخلصها, ونشر هذا كجزء من مبررات الحرب على افغانستان. تحرير المراة كان حجة موجهة الى الشعب الامريكي والغربي اساسا, من اجل اعطاء شرعية اخلاقية للاحتلال وكسب تاييد الراي العام. من منا لم يشاهد احد تلك الافلام عن افغانستان ما بعد الحرب وعن لقاءات مع نساء افغانيات عبرن عن سرورهن لتحريرهن على يد امريكا!! وكلنا يعرف ان اضطهاد المراة الافغانية هو امر حقيقي وليس اسطورة او اكذوبة امريكية وان طالبان كانت حركة استبدادية, لكن الاكذوبة هي ان احد اسباب غزو افغانستان تم من اجل تحرير النساء, وانه تم تحريرهن بالفعل. فتلك الحرب التي راح ضحيتها الكثيرون من الابرياء, راح ضحيتها ايضا الكثير من النساء. كما ان وضع المراة لم يتغير في جوهره, وذلك لكونه وليد اعراف اجتماعية متجذرة بين الناس وان ازالة طالبان لم يزل الاستبداد الممارس ضدهن اذ ان طالبان هي نتيجة لهذه الاعراف ولهذا المجتمع الذكوري المتعصب.
غزو افغانستان نجح, لكن وضع المراة الافغانية لم يتغير جذريا كما وعدت الادارة الامريكية في ذلك الوقت.