تعالوا إلى كلمة سواء
بقلم:د. رياض نعسان آغا
حسناً فعل توماس فريدمان حين وجد الحل الأمثل لمشكلة الولايات المتحدة في شرقنا العربي والإسلامي في أن تستلهم السياسة الأميركية تجربة إسرائيل في الصراع العربي- الإسرائيلي (وهو بالطبع يسميه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي )، ويقول في مقالة بعنوان: (جدار افتراضي بين أميركا والعالم الإسلامي) “توصلت الدولة العبرية إلى استحالة الدخول في أية شراكة فلسطينية. وبالنتيجة شيدت تل أبيب جدارها الأمني، ونفذت انسحاباً أحادي الجانب من قطاع غزة، بينما كان لسان حالها يقول للفلسطينيين: حسناً سنواصل الاشتباك معكم، ولكن من موقع القوة والحصانة الأمنية ضدكم، فهل ثمة خطوة مكافئة لهذه يمكن اتخاذها إزاء العالم الإسلامي؟ هل نبني جداراً أمنياً عازلاً بيننا وبينه؟”.
يرى الصحفي المتخصص بقضايا منطقتنا أن بناء هذا الجدار يتم حين تكف أميركا عن إدمان النفط الشرق أوسطي. يقول “إن هذا الإدمان مدمر لنا ولهم على حد سواء، ولا سبيل لمعالجته، إلا باتخاذنا التدابير الحازمة اللازمة التي تمكننا من تعزيز استثماراتنا في مجال الطاقة البديلة المتجددة” ويرى أن المعضلة العراقية باتت على قدر من الفوضى يصعب على المرء أمامها تحديد موضع قدميه، وما ينبغي فعله في الخطوة التالية ليس مجرد الانسحاب والمغادرة فحسب، وإنما استلهام ما فعلت إسرائيل حين بنت الجدار العازل.
أعترف أنني من موقع المواطن العربي سأكون سعيداً جداً إذا أخذ الساسة الأميركان بنصيحة فريدمان، فليتهم حقاً يبنون جداراً عازلاً بينهم وبين العالم الإسلامي، وليتهم يكفون عن إدمان النفط العربي والإسلامي، وليتهم يسحبون كل قواعدهم العسكرية التي تحيط بوطننا وتسيطر على ممراتنا وبحارنا، وينكفئون إلى محيطهم الواسع الذي يكفيهم خيرنا وشرنا، ليكفونا هم كذلك خيرهم وشرهم. وأنا أطمئن الكاتب إلى أن العرب والمسلمين بالأكثرية المطلقة سيرحبون بمثل هذا الجدار، وسيعتبرون يوم إعلانه عيداً قومياً. بل إن أصدقاء أميركا أنفسهم سيطلبون الطلاق البائن منها لأنهم تعبوا من صداقتهم معها، ورأوا كيف أنها تخذلهم أمام شعوبهم، فقد جاءت إلى العراق بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل، ولكن الفضائح التي كشفت الأكذوبة باتت مخزية لمن صدقها. ثم زعمت أنها تريد تحرير الشعب العراقي فاحتلته وسلبته حريته وسيادته. ثم زعمت أنها تريد نشر الديمقراطية فيه، وها هو ذا كاتبها الذي بشر طويلاً بفضائل غزو العراق يعترف بأن المعضلة في العراق باتت على قدر من الفوضى لا يعرف أمامها أين يضع قدمه. والحقيقة أنه يعرف أن لا موطئ قدم لمحتل في أي أرض فيها شعب مقاوم، يرفض أن تسلب منه حريته وسيادته على أرضه ووطنه، ويعرف أن الانسحاب هو الحل الوحيد، والعقلاء من الساسة الأميركان يقرون بضرورة الانسحاب، ويزيد عليهم فريدمان حين يطلب بناء جدار عازل افتراضي مع العالم الإسلامي كله!
والتفسير الافتراضي لهذا الاقتراح المفاجئ في موقف الكاتب الذي عهدناه مبشراً بالقرن الأميركي في العالمين العربي والإسلامي هو سيطرة شعور قوي بالخيبة والفشل والإخفاق وهو ما عبرت عنه مذكرة رامسفيلد التي أنهى بها عمله. وسيسري هذا الشعور بالفشل في البيت الأبيض الذي تحاصره الانتقادات التي ضاق بها عقلاء الولايات المتحدة وهم يرون كيف تحولت الولايات المتحدة من بلد يحلم به شباب العالم لما فيه من حرية ورخاء وفرص عمل وعلم وتقنية وتقدم، إلى وحش يهدد الشعوب ويتسلط على الأمم، ولا يعنيه من العالم كله سوى أن ينال رضا إسرائيل ولو على حساب القيم والمبادئ التي نهضت عليها الولايات المتحدة.
وقد يكون تفسير الموقف أمراً آخر يمكن فهمه في كون الكاتب يتوجه بهذا الاقتراح إلى القارئ الأميركي ليوهمه بأن غزو الولايات المتحدة لأفغانستان وللعراق كان من أجل النفط فقط، وهو بذلك يستجدي تعاطف بسطاء القراء الذين يدركون حاجة بلادهم إلى النفط، وسيغفرون إذن لقادتهم ما يرتكبون من جرائم ضد الإنسانية في حروبهم النفطية ما دامت لتحقيق مصالحهم. فأما الأذكياء من القراء فسوف يتساءلون: هل كان العرب والمسلمون يمنعون أميركا من شراء نفطهم حتى اضطرت لغزوهم؟ أليست الشراكة قائمة بين العرب والمسلمين من جهة وبين الغرب كله من جهة أخرى منذ أن تم استخراج النفط إلى اليوم؟
لقد استخدم العرب سلاح النفط مرة واحدة في تاريخهم المعاصر حين وقفت أميركا ضدهم في حرب أكتوبر عام 1973 ونسيت أن العرب شركاؤها وأصدقاؤها وبعضهم حلفاؤها، وراحت تمد إسرائيل بترسانة من أسلحة التدمير، معربة بوضوح أن إسرائيل أهم عندها من العرب ومن المسلمين والمسيحيين معاً.
ولكن العرب سرعان ما غفروا للولايات المتحدة هذا الموقف العدائي ضدهم وهذا الانحياز الفاضح لإسرائيل، واستعادوا علاقتهم الوطيدة بها وبالغرب كله. وحين دعت الولايات المتحدة إلى حل سلمي للصراع العربي- الإسرائيلي لبى العرب دعوتها جميعاً وقبلوا أن تكون هي الوسيط النزيه العادل على مبدأ أعلن في مدريد (الأرض مقابل السلام)، ولكن الولايات المتحدة لم تستطع إلى اليوم أن تكون وسيطاً نزيهاً، لأنها تبنت المشروع الصهيوني الإسرائيلي الذي يسمى اليوم “مشروع الشرق الأوسط الكبير”، وشنت حروبها ضد العرب والمسلمين من أجل أن يتحقق الحلم الصهيوني، في أن تصبح إسرائيل دولة قوية متمكنة عسكرياً واقتصادياً وسط مزق من دويلات عرقية وإثنية وطائفية متحاربة متصارعة، وفي أن تستل العروبة والإسلام من العرب والمسلمين فتوهمهم بأنهم شرق أوسطيون، لا تاريخ لهم ولا هوية وليس لهم من نسب غير موقعهم الجغرافي الذي يحدده الغرب الأوروبي والأميركي. ولا أدري كيف يسمينا أهل آسيا، هل سيعتبروننا الغرب الأوسط، أم أن الجهات لا تحدد إلا من حيث تنظر الولايات المتحدة؟
لقد تجاهل فريدمان كل حقائق الصراع العربي- الإسرائيلي واختصرها في كون إسرائيل لم تستطع أن تجد شريكاً للسلام، لأن “القادة الفلسطينيين -كما يقول- كانوا من الشقاق والعجز، بحيث لم يكن في وسعهم وضع حد للاعتداءات الانتحارية المتكررة على الإسرائيليين”، إذن جوهر الصراع كما يقدمه الكاتب هو في العمليات الانتحارية التي عجز القادة الفلسطينيون عن إيقافها، وليس في الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين وحصارها المرير لشعبها الأصيل، وقتلها اليومي للأطفال والنساء والشبان والشيوخ، والكاتب يتجاهل سنوات من الانتظار قضاها الشعب الفلسطيني في مسرح صموئيل بيكيت وليس في مسرح برودواي (كما يقول) حيث صار انتظار (غوديت أوسلو) عبثاً وملهاة تراجيدية.
ويتجاهل الكاتب كذلك احتمال سؤال القارئ الأميركي له: لماذا ينتحر هؤلاء الفلسطينيون؟ وما الذي يدفع إنساناً ما لأن يفجر نفسه ويموت ويقتل معه آخرين؟ إننا نشعر بالفجيعة إزاء هذا الموت، ولكننا ندرك أن إسرائيل هي المسؤولة عن هذه الفواجع كلها، فلو أنها نفذت قرارات الشرعية الدولية وانسحبت من الأراضي التي تحتلها، وأوقفت الحصار الذي تسجن فيه شعباً بأسره، وأطلقت سراح آلاف الأسرى من سجونها ومعتقلاتها، وقبلت بالسلام الذي طالما روج له السيد فريدمان، فإن هذه العمليات التي يسميها انتحارية ستتوقف بشكل طبيعي لانتفاء الدوافع.
لقد رحبت بالجدار الافتراضي بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي حسب اقتراح فريدمان لأننا لا نعرف شيئاً من خيرات أميركا لنندم على فقده، فلم تجد شعوبنا منها غير التسلط والغزو والدعم المطلق لإسرائيل ضدنا. وهذا الحل المقترح دليل عجز مطلق عن التفاعل مع شعوب العالم من موقع التشاركية أو الندية أو الاحترام والمصالح المتبادلة، فالكاتب لا يقبل كما يبدو حلولاً وسطاً، فإما أن تكون الولايات المتحدة مسيطرة على العالم الإسلامي مستبدة فيه، وإما أن تنسحب منه وتبني جداراً عازلاً بينها وبينه، وتستلهم تجربة إسرائيل التي يقول لسان حالها (حسناً سنواصل الاشتباك معكم، ولكن من موقع القوة والحصانة الأمنية).
أما من كلمة سواء نجدها في القانون الدولي وفي احترام مواثيق الأمم المتحدة التي تريد إسرائيل أن تنهيها لأنها تتخذ قرارات تؤيد الحق العربي رغم “الفيتو” الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد الحقوق العربية؟
هل أطلق فريدمان رصاصة الرحمة على المبادرة العربية للسلام ونسي ما كتب عنها؟ إن كان يريد نسيان السلام فالشارع العربي مل انتظار “غوديت” وأدرك أنه مجرد أكذوبة، وها هو ذا الشارع العربي يصنع مستقبله بيده.