في رحيل صموئيل ب. هنتينغتون
حقَّقت نظريته الخاصة بـ”صراع الحضارات” نجاحًا فائقًا ليس له مثيل. ففي عام 1993 صاغ صموئيل هنتينغتون للمرَّة الأولى في مجلة الشؤون الخارجية “Foreign Affairs” نظريته عن صراع الحضارات التي نشرها فيما بعد في كتاب كان الأكثر رواجًا بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، كما أنَّها أثارت موجة اهتمام شديدة وكذلك تحوَّلت إلى مرجع لتفسير كلِّ النزاعات الدولية. ولا يستطيع المرء أيضًا الفرار من الإدلاء برأيه لصالح أو ضدّ أفكار هنتينغتون بجزئيَّاتها – أي فيما يخص النموذج الذي يتَّبعه هنتينغتون في التفسير.
نظرية هنتينغتون باعتبارها مبتدئة الجدال
وفي يومنا هذا لا ينبغي أن نبالغ في تحدثنا عن أنَّ هذه الأطروحة تلغي نفسها بنفسها. ولكن هنتينغتون وفي جهوده من أجل التحديد والتصحيح أسهم مساهمة فعَّالة في “صراع الحضارات” الذي يزعم أنَّه حتمي لا يمكن تجنّبه وصار يخشاه المرء في يومنا هذا باعتباره سلاحًا خطابيًا أكثر من كونه سلاحًا تحليليًا.
وهذا لا يعني أنَّ قوة الانفجار السياسي الخاصة بنظرية صراع الحضارات تضاءلت من خلال ذلك أكثر مما كانت عليه. فهذه النظرية تؤدِّي باعتبارها مبتدئة الجدال حول الحرب والسلام بين الحضارات عملها بمعزل عن المضمون التجريبي.
الغموض الحضاري
في عام 1993 صاغ هنتينغتون للمرَّة الأولى نظريته عن صراع الحضارات التي تحوّلت فيما بعد إلى كتاب كان الأكثر رواجًا أمَّا أنَّ العوامل الثقافية تلعب دورًا غير ضروري بالنسبة لتعايش البشر، فهذا ما لا يستطيع المرء إنكاره إذا كان يريد توخي الجدية. غير أنَّ السخرية تكمن في السؤال حول عناصر الحضارات المعنية التي تؤدِّي إلى نشوب النزاع ولماذا تثير بجزئيَّاتها هذه التأثيرات.
وإذا تتَّبع المرء هذا السؤال بجزئيَّاته (الأمر الذي لم يفعله هنتينغتون) فعندئذ ينهار مفهوم الحضارة باعتبارها مفردة تدل على النزاع. وفور ما ينظر المرء عن كثب يجد أنَّ الحضارات تضيع قدسية الأساسيات الثابتة والمفعمة بالنزاعات بحدّ ذاتها والتي يدنو منها هنتينغتون.
وصموئيل هنتينغتون كان منذ البدء يعادي بشدة الحرب على العراق وكان يرى بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 الحاجة الملحة لاستخراج سوسة صراعه الحضارات من المعترك السياسي؛ فقد قال هنتينغتون: “إنَّ هدف أسامة بن لادن هو على وجه التحديد أن يخلق من هذه الحرب التي يخوضها تنظيم إرهابي ضدّ المجتمع المتمدِّن صراع حضارات بين الإسلام والغرب. وستكون ثمة كارثة إذا تحقَّق له ذلك”. وهنتينغتون كان يطالب بعزف معزوفة صراع الحضارات – بيد أنَّه لم يعد يريد فجأة قيادة هذه المعزوفة بنفسه. ويبدو أنَّه أمعن فكره أكثر في ذلك.
الأولوية السياسية
وهذا ما فعله أشخاص آخرون في السابق؛ حيث كان باناجوتيس كونديليس Panajotis Kondylis واحدًا من أوائل الذين عارضوا بعد انتشار نظرية صراع الحضارات التحصيل الثقافوي للسياسة. وفي عام 1996 كتب موضوعًا أساسيًا في هذه المجلة عارض فيه صموئيل هنتينغتون: “إذا كانت الحضارات تشكِّل حتمًا عناصر ونزاعات قابلة للتقليل فلا بدّ من أن تكون خطوط الفصل بين الحضارات ثابتة، أي أنَّ الصداقات والعداوات أبدية. وكذلك يجب أن تجعل طبيعتها تحوّل العالم الخارجي والداخلي مستمرًا لا يتغيَّر. ولكن التجارب التاريخية تعلِّمنا شيئًا مختلفًا. وكذلك ينمكن أن تتغيّر ببطء أو بسرعة وجهة نظر ثقافة ما في الثقافات الأخرى وفي ذاتها، وذلك من خلال تغيير المواقف في أوضاع الموضوعات التاريخية”. والثقافة ليست أمرًا جامدًا مغلقًا. فهي تخطئ لكي تستمر في الحياة، كما أنَّها تحافظ على استمراريتها بنفسها.
نادرًا ما تكون النزاعات ذات طبيعة عرقية أو دينية
وأينما نظرنا نرى أنَّ مبادئ المنطق السياسي هي التي تواجهنا وليست مبادئ المنطق الديني. وكذلك تعدّ الحِكَم السياسية الأساسية هي المنتجة لنماذج التفسيرات الثقافية. ومن الممكن أن تبدو الصراعات ذات طبيعة عرقية أو دينية. غير أنَّ هذا لا يشكِّل وحده سببًا كافيًا لمزاعم الخوف من الإسلام – الإسلاموفوبيا (حيث تبقى بطبيعة الحال الحرب على التعصّب الإسلامي غير متأثِّرة بذلك).
وعلى كلِّ حال يمكن التعلّم في كلِّ حلقة علمية سياسية وفي كلِّ مجلس محلي وفي كلِّ مقهى أنَّ النزاعات نادرًا ما تكون ذات طبيعة عرقية أو دينية، بل لها دوافع اجتماعية. والإنسان لا يعيش فقط من القيم التي تعتبر كأنَّها تبدو معلَّقة بسماء من الأفكار. بل إنَّها تشكِّل خليطا ممزوجًا بواقع معيشي اجتماعي وسياسي. وهنا تتم في الوقت نفسه المبالغة في النزاعات ويتم سترها ثقافيًا.
ولم يكن صموئيل هنتينغتون يرغب في جعل الآخرين يستغلونه باعتباره مستقطبًا إيديولوجيًا يعمل لصالح الغرب. أما أنَّه لم ينج على الرغم من ذلك من هذا الدور فهذا ما يعود سببه إلى ثمن نجاح أطروحته الخاصة بصراع الحضارات.
كريستيان غِيِر
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: فرانكفورتر ألجماينه/قنطرة 2009