هل الهزيمة سياسية.. أم إلكترونية أيضا؟
جديدة من الحرية قد تجلب لهم المتاعب و تدخل مواطنيهم عالم المحظور في دول لا تعرف إلا النذر اليسير من معاني الحرية و ممارساتها. فما أن بدأت الإنترنت بالانتشار حتى بقي الكثيرون في عالمنا العربي حكومات و مؤسسات مقتنعون بأن القادم الجديد و ما يقدمه من مخزون وافر من المعلومة المطروحة و المتبادلة قد يكسر حدود الحياة التقليدية ويخلق ثقافة المواجهة و التحدي في وجه الأنظمة العربية الحديدية. بل أن البعض قد ذهب إلى وصم الإنترنت بالكابوس الخادش للحياء و الوحش المخل بمقومات الإنسانية و حضارتها. أما من عجز عن تحمل فكرة تحرير الإنترنت و المعلوماتية للإنسان العربي فقد ذهب إلى منع الإنترنت من الدخول إلى بلده كذلك الحال بالنسبة للأطباق الصناعية و الهواتف المحمولة و مجمل مكونات الثورة التقنية. الواقع أن الكثيرين من العرب قد أخافتهم حقيقة أن المعلومة قوة و تحرير و تطوير ، الأمر الذي لا تمتدح الكثير من عواصمنا العربية عقباه.
لهذا تعزز مسلسل الهزائم العربية ليس فقط الميدانية منها بل إنما المعلوماتية و الإلكترونية. و بينما حرص أجدادنا على إيصال تراثهم إلى الهند و السند و حدود الصين و أصقاع أوروبا على سروج خيولهم و بحد سيوفهم ذهب بعض أحفاد الأحفاد الذين ننتمي إليهم إلى رفض الفرصة المهمة التي قدمتها الإنترنت و التي و إن استغلت بالشكل الصحيح لمكنت العرب من الاستغناء عن شقاء الأجداد و وفرت الوسيط النوعي لإيصال تراثهم إلى العالم بأسره بسرعة لم يكن لأجدادنا يوما أن يحلموا بها.
لكن العرب تقهقروا إلكترونيا و تقهقرت معهم لغتهم على الإنترنت فغاب تاريخهم و تراثهم و أدبهم إلى أن أفاقوا في زمن ليس ببعيد فوجدوا بأن لغات لم تدرج ضمن لائحة اللغات العشرة الأوائل في العالم قد سبقتهم في تضمين محتوى مواقع الإنترنت لها كاللغة الكورية مثلا. و بما أن الأرقام أصدق أنباء من التوقعات و التقديرات فإن الواجب يحتم إقران الملاحظات و الإنزعاجات بالأرقام* و الحقائق.
يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في العالم 700 مليون حتى منتصف هذا العام أي بزيادة تبلغ 45 مليون عما كانت عليه في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي. و تبلغ عدد مواقع الإنترنت المنشأة محليا، أي المواقع التي تحمل عنوانيها مسمى البلد المسجلة فيه (.tu لتونس.sa للسعودية) 36 مليون موقعا حسب إحصائيات العام 2002 بينما يبلغ عدد المواقع المسجلة عالميا و التي تحمل المسميات الشائعة .com و .net 29 مليون موقع. لكن المواقع العربية تبلغ في مجموعها 16,900موقع أي ما ما يعادل 0.026 % من مجموع المواقع المذكورة آنفا.
و تشير الأرقام إلى أن ليبيا و حتى منتصف عام 2002 كانت الأكثر اهتماما بتطوير المواقع الإلكترونية المكتوبة باللغة العربية، إذ بلغ عدد المواقع العربية الليبية المنشأ 4426 موقعا تغطي قائمة عريضة من الموضوعات بما فيها الموضوعات الحكومية التي تهتم بالكتاب الأخضر و أدبيات ثورة الفاتح. يلي ليبيا في القائمة العربية السعودية بواقع 3158 موقعاً، ثم مصر بواقع 2485 موقعا. لكن عدد المواقع في بقية الدول العربية يتهاوى إلى أن يصل إلى ما هو أقل من خمسة مواقع.
أما بالنسبة لمحتوى المواقع العالمية فتأتي اللغة العربية في موقع يتجاوز العشرة الأوائل حسب إحصائيات العام 2002 لتحتل اللغة الإنجليزية الصدارة بواقع 64.4% يليها اليابانية بواقع 5.9 % ثم الألمانية ( 5.8%) و الصينية ( 3.9% ) و الفرنسية (3%) و الإسبانية (2.4%) و الروسية ( 1.9%) و الإيطالية ( 1.6%) و البرتغالية ( 1.4%) و الكورية(1.3%) بينما يتضمن 0.5% من المواقع محتوا مكتوبا باللغة العربية .
أما أكثر الدول اعتمادا على المواقع ذات المحتوى المكتوب باللغة العربية حسب إحصائيات العام 2002 فتأتي الإمارات في المقدمة بواقع 0.9 مليون مستخدم ثم الجزائر بواقع 0.6 مليون مستخدم رغم تأثير اللغة الفرنسية لتوازيها في ذلك كل من مصر و العربية السعودية ( 0.6 مليون مستخدم) ثم تونس و المغرب ( 0.4 مليون مستخدم لكل منهما) ثم فرنسا و الأردن و الكويت و بريطانيا (0.2 مستخدم لكل منهم) يتبعهم البحرين و عمان و إسبانيا و سوريا ( 0.1 مليون مستخدم لكل منهم).
و عند مراجعة أرقام منتصف العام 2002 (أيار 2002) فإن أكبر عدد لمستخدمي الإنترنت في العالم هو في أوروبا إذ يصل إلى 186 مليون يليها الولايات المتحدة الأمريكية و كندا (183 مليون) ثم دول شرق و جنوب شرق آسيا (168 مليون) يليها أمريكا اللاتينية (34 مليون). أما الشرق الأوسط و إفريقيا فيتساويان بواقع 5 ملايين مستخدم لكل منهما فقط. أما توزيع نسبة المستخدمين بالمقارنة بعدد سكان كل بلد فإن الولايات المتحدة الأمريكية تتصدر القائمة بنسبة 43% يليها الصين 7% ثم اليابان بواقع 5% و المملكة المتحدة و كندا و ألمانيا بواقع 4% لكل منهم.
أمام هذا السيل من الأرقام فإن وضع الأمة العربية إلكترونيا ليس أفضل حالا من وضعها سياسيا لا لنقص الخبرات و القدرات بل للخوف من عصر المعلوماتية و لقلة التشجيع و الاهتمام و إهدار الأموال في أمور و متاهات لا طائل منها.
لكن الصورة المظلمة هذه قد شهدت بعض الفروقات الغريبة التي دفعت العرب إلى الإقبال على الإنترنت في لحظات احتدم فيها أمران لا ثالث لهما، الانشغال السياسي و الاهتمام الفني. أما الانشغال السياسي فقد ارتبط في السنوات الأخيرة بعدة أمور من أهمها انتفاضة الأقصى و حرب العراق الأخيرة و اللذان زادا من اهتمام العرب بالإنترنت للحصول على المعلومة الأخبارية و التحليلية و للمشاركة في حلقات التصويت و الاستطلاع إضافة إلى تبادل المقالات و الصور و الأفلام القصيرة.
لكن الاهتمام الفني قد سحق و بدون منازع هموم السياسة أحيانا بل و أثار عندها بعض الأقلام العربية المتميزة التي أكالت الركل و اللوم للأمة العربية لاهتمامها بالفن و المغنى و الرقص في وقت تهان فيه الكرامة العربية و تنتهك حرمات الأمة. و بما أن هذا المقال لا ينوي الدخول في تلك المتاهة فإن التركيز سينصب مرة أخرى على الأرقام و لنأخذ حالتين نموذجيتين للمقارنة بينهما من حيث دفعهما لإقبال عربي أوسع على الإنترنت : حرب العراق الأخيرة و أحد البرامج الفنية على إحدى المحطات اللبنانية الفضائية.
أما بالنسبة لحرب العراق الأخيرة فسنتناول ارتياد العرب لأحد أكثر المواقع الأخبارية المتميزة رغم أن هذا الموقع قد تعرض للإعطاب لأيام قليلة خلال الحرب نظرا لطرحه لصور و مشاهد و معلومات لم ترق لبعض الناس من غير جلدتنا و الذين تسببوا بالإعطاب المذكور.
بلغ عدد زوار الموقع المشار إليه و بشكل قياس تقديري قد لا يخلو من الخطأ البسيط نسبيا معدلا يصل إلى نصف مليون زائر يوميا شارك منهم ما يعادل 7% في استطلاعات الرأي التي أجريت خلال الحرب. علما بأن الكثيرين من الزوار المشار إليهم قد تكررت زياراتهم خلال اليوم الواحد أي إذا ما قيست الأمور بعدد الزيارات لا عدد الزوار فإن الرقم سيقفز إلى 1.5 إلى 2 مليون زيارة يوميا. و قد استقطبت قائمة الأخبار العاجلة الاهتمام الأكبر تبعه اهتمام أقل بالأخبار الأخرى و لقاءات التحليل و الإعلانات. و قد لفت هذا الموقع لكثرة شعبيته و شعبية القناة الفضائية التي يمثلها اهتمام من هم من غير العرب و الذين رأوا فيه مصدرا إضافيا للمعلومة و مقياسا مهما لحجم الإقبال و النهم العربي آنذاك للحصول على الخبر بصورة حرة و متجردة و لتكوين المزاج العام و الانطباعات و المواقف. ناهيك عن اهتمام الفضائيات الغربية به و الوكالات الاستخبارية العالمية التي راقبت بدأب حسب ما أعلن لاحقا جل المواد المطروحة على الموقع و على القناة الفضائية ذاتها.
أما بالنسبة للبرنامج الفني المذكور سابقا و الذي ركز على التصويت للفنان المتميز عبر موقع المحطة الإلكتروني أو الهاتف المحمول، فإن حجم التصويت حسب إفادات المنظمين قد بلغ 4.8 مليون صوت خلال الأسبوع الأخير أي في فترة احتدام المنافسة حول المركز الأول. لكن
20 % ممن صوتوا قد اختاروا التصويت عبر الهاتف المحمول نظرا للتكلفة المادية لهذا الخيار بينما فضل 80 % التصويت مجانا من خلال موقع المحطة أي ما مقداره 3.84 مليون شخص أو ما معدله 0.55 مليون صوت يوميا. لكن لم تتوفر الوسيلة لمعرفة حجم الارتياد اليومي لموقع المحطة خلال الفترة التي عرض فيها البرنامج أي مجموع من صوتوا و من لم يصوتوا و من صوتوا ثم عادوا للإطلاع على التفاصيل الخاصة بالبرنامج أو أولئك الذين ارتادوا موقع المحطة دون الاهتمام بالبرنامج برمته فلم يقتربوا صوب التفاصيل الخاصة به.
و إن كان الفن و السياسة قد قدر لهما أن يجمعا اهتمام الأمة إلكترونيا كما هو الحال في الأفراح و المآتم العربية واقعيا فإن الجهود يجب أن تنصب على تعزيز المشاركة العربية في عالم المعلوماتية ليس لأهداف مادية فحسب بل لأهداف تعلمية و ثقافية و تطويرية مهمة. فإذا ما كان العرب غير قادرين على تغيير هزيمتهم السياسية المهينة فإنهم لا شك قادرين على تحقيق نصر إلكتروني متميز. المهم الإرادة و القيادة و الأمانة.