الوجه الآخر في السياسة الإسرائيلية
يشهد العالم هذه الأيام مجزرة غزة على الشاشات المتلفزة لكن على الرغم من الشجب الكبير الذي تتبناه الجهات المدنية وبعض الدول، إلا أن مستوى هذا الشجب لم يرتقي لمستوى انتفاضات الحجارة زمان ربيع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ابو عمار خلال القرن الماضي…
من هذا المعطى الواضح نحاول في هذه المادة تبيان الجانب الجديد في صناعة السياسة الإسرائيلية بعيدا عن التحليلات التي تناولها الكتاب والمفكرين حول معطيات الانتخابات الإسرائيلية والفلسطينية، ومآخذها مستقبلا على السياسة في أرض كنعان المنكوبة تاريخيا…
السياسة الإسرائيلية تجاه المجتمع المدني الفلسطيني:
نجح المجتمع المدني الفلسطيني في الفترة السابقة لدخول منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو عمار، في قيادة الشارع الفلسطيني لنجاحات ملموسة سواء من الشأن الخدمي أو من إعلاء الشأن الثقافي، ليكون المجتمع الفلسطيني المجتمع العربي الأكثر تطورا، وقلة في نسب الأمية بين عموم المجتمعات العربية، التي عاشت ثوراتها القومية في مرحلة الفقاعة الإعلامية التي تروجها مؤسساتها الثقافية الرسمية، على انها فقاعات مديدة الاثر والتأثير.
شعر المفكرون العبرانيون في دولة إسرائيل بمدى تنامي الروح الثورية الفلسطينية الناجمة عن النشاط المميز لمجتمعها المدني، فبادروا عبر إستراتيجية طويلة الأمد، على استخلاص حركة سلام نظرية، مع الجناح الثوري لحركة فتح، المتمثل بشخص القائد الفلسطيني الثوري الرمزي ياسر عرفات، بعد سلسلة من الملاحقات لمنظمة التحرير الفلسطينية سواء في الأردن، أو من خلال حركة أيلول الأسود، أو في الاجتياح الإسرائيلي للبنان…
عاد عرفات وأنصاره في منظمة التحرير من المنفى لداخل الأراضي الفلسطينية بعد معاهدات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، لتأتي سياسة داخلية جديدة تجاه المجتمع المدني الفلسطيني محمومة بالسجال حول مدى نفاذ السلطة على مؤسسات الدولة الوليدة، والمحكومة بحدود الرقيب الإسرائيلي.
حيث خف الإنفاق المادي الدولي على مشاريع مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، لهدف توفير بيئة مادية جيدة للسلطة الوليدة في رام الله، وبدورها السلطة الفلسطينية شعرت بأهمية تمويلات المجتمع المدني، فبادرت بدورها على تأسيس جمعيات رديفة للسلطة، وفرت لها بنية مادية جديدة دعمت بها أحزابها السياسية، ضمن ما يسمى أنشطة اجتماعية لهذه الأحزاب، مما جعل المال سمة سابقة للنشاط المجتمعي.
السياسة الإسرائيلية تجاه السلطة الفلسطينية:
تحصلت الأحزاب الفلسطينية وبخاصة منظمة فتح على نصيب الأسد من التمويلات لهدف بناء البنى التحتية للمجتمع الفلسطيني، ومع تراكم المال بغياب شفافية إنفاق واضحة، تحولت مؤسسات الدولة إلى مؤسسات فساد، ومع وجود اعلام مستقل في القطاع وغزة تبين مدى الفساد الذي تعانيه السلطة، فما كان على السلطة ومؤسساتها المدنية الرديفة لها إلا وأن تعلي من الخطاب القومي أمام غياب مشاريع التنمية المستدامة التي تصرف من أجلها التمويلات.
وفي كثير من الأحيان قامت السلطات الإسرائيلية على إحراج الخطاب القومي لهذه السلطة، لتجعلها فاشلة حينا وفي كثير من الأحيان مكبلة بقوانين الممكن والمسموح، فأتت النتيجة غياب تنمية مع كثرة زعامات سياسية تحتاج جميعها إلى رواتب من أجل إنفاقها الخاص والعام لهدف إعلاء الخطاب القومي الفلسطيني، مما عزز من البيروقراطية والفساد بين غالبية الكتل الحزبية.
في المقابل تغاضت السلطات الإسرائيلية عن الأموال الموهوبة للحركات الإسلامية المقاومة مثل الجهاد وحماس، والتي بدورها سعت إلى إعلاء الإنفاق الاجتماعي، لهدف توسيع أرضيتها الاجتماعية في الشارع الفلسطيني. فتنشطت الحركات السلفية والدينية في مناطق الفقر المدقع من أراضي السلطة الفلسطينية، وكان نتيجتها ملموسة من خلال انتخابات السلطة الفلسطينية الأخيرة والنجاح الكاسح لحماس فيها، فقطاع غزة وبصورة تقارب 70% هو من مؤيدي حركة المقاومة الإسلامية، والأمر ذاته في مدينة نابلس ومخيم جنين والمناطق المجاورة لهما.
مما يبين وبوضوح التغير الواضح في السلوكية الثورية للجمهور الفلسطيني الذي كان وخلال فترة الثمانينات وبداية التسعينات بصورة شبه عامة علماني التوجه ثوري الهوى.
أسلمة المجتمع الفلسطيني:
من السابق نستطيع تبيان ما يلي:
1- تراجع دور المجتمع المدني الفلسطيني، رغم محاولات سكرتير المبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوتي “الجناح المدني” الدخول في انتخابات الرآسة ضد عباس.
2- تحول السلطة العلمانية في رام الله نحو سلطة بلا شعبية كاملة، مع إقصائها لحركة حماس ونزاعها معها.
3- تقسم الشارع الفلسطيني بين فتح وحماس، وغاب التركيز على ممارسات إسرائيل.
إن النتائج السابقة تبين وبوضوح تحول الهوية الثورية للنشطاء الفلسطينيين، من إبراز عدو واضح لهم وهو إسرائيل، نحو سجال حول أهمية وجود الحركات الدينية على رأس السلطة الفلسطينية، وكون هذه الحركات تحمل الروح الجهادية، فهي عاجزة عن تبني نتاج منظمة التحرير الفلسطينية عبر سنين، فحركة حماس لا تعترف أساسا بدولة إسرائيل، وشعارها القديم حول ضرورة إزالة دولة إسرائيل، من الصعب تغيبه لتكون على رأس السلطة الفلسطينية، لذا لجأت حركة حماس إلى إعلاء الخطاب الديني في ثقافتها الثورية، لتتشابه خطب زعاماتها بخطب تنظيم القاعدة وفكرها الجهادي السلفي، مما جعل جمهور الفلسطينيين من الفقراء والمنكوبين بسبب إسرائيل في صف حركتها.
السياسة الإسرائيلية في هذا المضمار عاشت يوم سعدها، فالمقاومة الفلسطينية اليوم سواء أكانت علمانية هي في صف الإسرائيليين ايدولوجيا مع استثناءات قليلة، وسواء كانت إسلامية فهي إرهابية وفق التصنيف الغربي. لقد نجحت إسرائيل في تميز النضال الفلسطيني عالميا باسم نضال إسلامي جهادي… وهذا الأمر يبين في النهاية أنه نضال إرهابي، وطبعا كل عمل إرهابي هو عمل غير مشروع.
الإستراتيجية الإسرائيلية بعد حرب غزة:
أ- في حال سقطت حماس:
حماس حركة أيدلوجية، فيها الجانب السياسي والعسكري والخدمي. لذا إمكانية القضاء عليها كما يصرح بعض العسكريين الإسرائيليين هو أمر غير ممكن بتاتا. ولعل الحكومة الإسرائيلية لا تريد ذلك أيضا، فهي تفضل حماس ضعيفة على أن لا يكون هناك حركة إسلامية تنافس فتح العلمانية. فالحكومة الإسرائيلية بوجود القطبين السلفي واللبرالي في المقاومة الفلسطينية تستطيع وبسهولة تقوية طرف على حساب طرف آخر، وذلك سيكون دائما في مصلحتها، لهدفين رئيسيين:
الأول: ترسيخ الهوية الإرهابية دوليا على حركة المقاومة الفلسطينية سواء أكانت علمانية أو إسلامية.
الثاني: إضعاف الفكر الثوري الفلسطيني أمام النزاع على السلطة، وضرورة وجود اسرائيل لتحديد توازنات بين هذين الفريقين المتنازعين.
إن تحرك إسرائيل باتجاه غزة مؤخرا ليس بسبب بعض الصواريخ التي تمتلكها حماس، أو بسبب قضية جلعاد شاليط، إنما لهدف إضعاف حماس وزيادة الشرخ الفلسطيني. فحماس وحتى خلال القصف الإسرائيلي تكيد الاتهامات لرآسة السلطة الفلسطينية المتمثلة بعباس.
وعباس رغم شجبه للهجوم الإسرائيلي، لا يتنازل لحماس عن مطالب فتح. لقد استطاعت إسرائيل خلال حربها الحالية تبيان عورات كثيرة في القضية الفلسطينية، ويضاف إليها عورات أخرى في وحدت الصف العربي، وطرق تعاطيه مع القضية الفلسطينية، فالسعودية تأسف لحماس ولا ترغب في تبيان أسفها، ومصر تستهجن فلسفة حماس أمام معابرها الحدودية، وحزب الله وسوريا يشجبان الموقف المصري، وقطر وتركيا تستنكران بوضوح، لكنهما لا تفعلان أي شيء ضد إسرائيل دبلوماسيا.
في حال انتصرت إسرائيل في هدفها، فإنها ستحقق صفعة قاسية لإيران ونفوذها الاستراتيجي في المنطقة، بعد فشلها في تحقيق هذا الأمر على حدودها الشمالية. وهذا الأمر قد يفعل مستقبلا هدفا نحو تقويض القوى الإيرانية النووية سواء أكانت سلمية كما تصرح إيران أم حربية كما يتهمها الغرب.
ب- في حال انتصار حماس:
إن انتصار حماس لهو أمر شبه مستحيل، لان إسرائيل ستضع كل ثقلها لتحقيق هدفها هذه المرة، لآن خسارتها ستعني إمكانية غياب الأمان مطلقا للمستوطنين، وبالتالي غياب دولة إسرائيل مستقبلا. من هذه الزاوية، وبدون تحفظات سألغي هذا الاحتمال، رغم أن حركة حماس ستعلنه مستقبلا “أي بعد انسحاب إسرائيل وانتهاء حرب غزة” وفي ذلك قد نرى تغاضيا إسرائيليا، حيث ستصرح الآلة الإعلامية لحماس ومكاتبها في خارج فلسطين أن صمود حركة حماس والشعب الفلسطيني بحد ذاته انتصار أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
إن كلا الجانبين السابقين يبينان وبوضوح مدى نضج قراءة الإسرائيليين للهوية الفلسطينية، وغياب هذا الأمر بالنسبة للعرب والفلسطينيين بشكل خاص، وهذا ناجم عن تراجع دور مراكز الدراسات في العالم العربي، والاستعاضة عنها بالأحزاب الشمولية الفاسدة والمؤسسات الرديفه لها.