الجنس عند اليهود – الجزء الأول
كان المفروض أن يكون عنوان هذا المقال “ملاحظات حول الجنس في التوراة”، ولكني ذهبت مذهب الكُتّاب الذين يتصيّدون العناوين المثيرة المفتة للانتباه.
ولست اتحدّث عن الجنس عند اليهود الا بهذا المعنى الذي يخص التاريخ والتوراة القديمة، وليس ما يخص اليهود المعاصرين، الذين لا أظنهم يختلفون عن باقي البشر في توجههم وفهمهم وسلوكهم في هذا الموضوع. الا من كان منهم من غلاة المتشددين “الحريدين”, الماسكين الدين من ذيله، كما يقول المثل عندنا، وهم ليسوا قلة على أية حال.. وانا في ذلك أذهب مذهب جان بول سارتر في كتابه عن اليهود واللاسمي،ة والذي يؤكد فيه أنه ليس هناك “يهودي” متميز، الا بقدر ما نجحت الشعوب الاخرى في خلق هذا اليهودي.
ثم اني كتبت سلسلة من المقالات بعنوان “الجنس عند العرب”، أثارت ضجة سرعان ما خبا أوارها، اذ توقفت عن نشرها. وقد نشرت منها ثلاثة، وبقي واحد غارقا في عتمة الجوارير. فصار عندي خبرة في كتابة مثل هذه المواضيع. كلمة صغيرة – لا تخص اليهود ولا العرب – ينبغي قولها عن هذا “البعبع” الذي يُسمى الجنس، وهو أن حال الانسان لن يصلح على مستوى الفرد ولا الجماعة، ما لم ير الناس في الجنس شيئا طبيعيا،لا ينبغي الخجل منه ولا فيه. ويكفي أن الجنس ارتبط تارخيا مع مفاهيم مثل العبودية والملكية الخاصة والحلال والحرام والعيب. ولم يتحرر من هذه المفاهيم حتى يومنا هذا. وهو لن يتحرر منها عما قريب, ما لم تحدث ثورة في المفاهينم الاجتماعية للفرد والجماعات.
الجنس السّوي عند اليهود
الجنس السوي، الطبيعي، المثالي، عند اليهود، هو الجنس الذي يكون هدفه انجاب ذرية. وليس هذا غريبا عند جماعة عاشت عصورا طويلة كأقلية متفردة، تظن بنفسها التميّز، وتهاب الاختلاط بالآخرين، خشية فقدانها لهذا التميز. ففي الاختلاط ضياع للأنساب. وكم من شعوب حثية وآشورية وفينيقية ضاعت، لأنها لم تهتم بهذا القانون الحديدي للاختلا ط – وحسنتا فعلت!
كذلك لا ننسى أن المجتمعات الزراعية القديمة – واليهود بينها، كانت تعتمد كثرة النسل هدفا، من أجل زيادة عدد الايدي العاملة في العائلة, من جهة، وزيادة القوى المحاربة والمدافعة عن القبيلة من جهة ثانية, ثم التغلب على ظروف الطبيعة القاهرة المودية بحياة الأطفال، قبل أن يصبحوا رجالا بالغين، من جهة ثالثة. وللمقارنة فقط نقول، ان هدف الجنس هذا هو نفسه الذي تبنّاه الاسلام أيضا, ويروى بهذا الصدد هذا الحديث: تكاثروا تناسلوا، فاني مباه بكم الامم يوم القيامة.
هذا بالنسبة للجماعة، أما بالنسبة للفرد، فان هدف الجنس هو تحصيل اللذة. ومن اجل تحصيل اللذة قد يسعى الفرد، بدون وجود الرادع الاجتماعي، الى العلاقات العابرة, أو الى الممارسات الشاذة التي لا تنتهي بانجاب الاولاد, كأن يسعى الى الزنى، أو اللواط مثلا, او ممارسة الجنس مع الحيوانات. كل هذا كان مرفوضا في الشريعة اليهودية.
وفكرة تحريم اللذة غير المقترنة بالهدف الاسمى, او الهدف الالهي، او هدف الطبيعة، كما سمّاها المتأخّرون, وهي التناسل وزيادة النسل، انتقلت الى المسيحية ايضا. فالقديس “اوغسطين” من القرون الوسطى، أدان ما أطلق عليه “الجنس الجاف”، وهو الجنس الذي لا ينتهي بقذف الرجل بمنيه في المكان المعد له من رحم المرأة. وأدان هذا القديس كافة اشكال الجماع الذي لا تكون فيه المرأة مستلقية على ظهرها, وقد اعتلاها الرجل, أو الجنس الذي لا يتحقق فيه الايلاج.
الجنس والزواج في اليهودية
وبما أنه جرى تقنين الجنس وجعله ملكية خاصة في المجتمعات القديمة، فصار الرجل يمتلك المرأة كما يمتلك الارض أو المال او قطعان الماشية, لذك جرى ربط الجنس بالزواج. فمن خلال الزواج يمتلك الرجل الحق في الخدمات الجنسية التي تؤديها المرأة, بالنظر الى ان المرأة هي موضوع جنسي في المقام الاول، وقبل ان تصبح أما أو يدا عاملة. وهناك هدف آخر للزواج يرتبط بالملكية, وهو ملكية النسل وتحديد الانساب.
هذا كان الأصل في مؤسسة الزواج منذ البداية. وكدليل على ذلك، رافقت مؤسسة الزواج مؤسسة أخرى هي نظام التسرّي. أي امتلاك الرجل للنساء اللواتي يغنمهن بعد انتصاره على رجالهن في ساحة المعركة، او يشتريهن ممن غنمهن. ذلك أن العصور القديمة هي عصور راجت فيها العبودية. وفي التسري او التزوج من الاماء، أو “ما ملكت ايمانمكم” كما يسميها القرآن، يكون الأولاد ملك أبيهم – سيدهم في هذه الحالة. هذا التملك هو الذي وضع الحدود بين ما هو جنس مرغوب وحلال، وبين ما هو جنس مستهجن وحرام يعاقب عليه القانون منذ حمورابي، وربما قبله، لكونه يمثل اعتداء على املاك الغير.
زواج الأخ بأرملة أخيه
ومن أجل أن لا يضيع حق التملك بالموت، فقد كانت الشريعة اليهودية تفرض على الاخ أن يتزوج أرملة أخيه المتوفي. وكان هذا الزواج يسمى “الخلاص” (جيئولا)، فالأخ يخلص زوجة أخيه مما أحاق بها من فقدان. واسم الزواج هذا لا يشي بهدفه المعلن: ألا تضيع فرصة انجاب الاولاد داخل العائلة بموت أحد رجالها, ما دام الرحم جاهزا لا يزال للانجاب. وثمة هدف آخر: وهو أن ألا يضيع ذكر المتوفي. بعد موته, فالأولاد المولودون من امرأته (وأخيه)، سوف يتسمّون باسمه، تخليدا لذكراه.
وربما أخذ اليهود هذه العادة من الشعوب التي جاورتهم، او عاشت قبلهم. وارتباط هذه العادة بوراثة ما تمثله المرأة من موضوع جنسي، ينبغي للاخوة أن يحتفظوا به, واضح كل الوضوح. ولعلنا نذكر هنا الأبناء الذين كانوا يرثون زوجات ابيهم المتوفي عند الشعوب القديمة. أما في الاسلام، فكان الرجل يرث جواري أبيه، فيصبحن جواريه بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات جنسية, بالاضافة الى القيمة المادية لهؤلاء النسوة.
وفي التوراة أكثر من قصة عما يسمى زواج “الخلاص” هذا. بل لقد أُفرد سفر خاص هو” سفر راعوت” ليحكي قصة في هذا الاتجاه. ف “راعوت” امرأة موآبية تزوّجت من شاب يهودي هاجر أبوه وأمه “نعمي” الى أرض الموآبيين, طلبا للرزق.
ويحدث أن يموت زوج نعمي، وكذلك ابنها المتزوج من راعوت هذه. فتقرر نعمي العودة الى بلادها. ولكن الفتاة الموآبية تأبى الا أن ترافق حماتها، متخلية عن أهلها ووطنها ومتمسكة بديانتها الجديدة. وفي بلاد اليهود تعرف راعوت رجلا يهوديا يدعى “بوعز” يملك حقولا واسعة من القمح والشعير. وهو يسمح لراعوت بالتقاط السنابل وراء الحصادين العاملين عنده. اما نعمي فتحدّث كنتها أن بوعز هذا هو قريب لعائلتها، وان من واجبه الديني أن يتزوجها، خصوصا وأن ليس للمتوفي أخ “يخلصها” حسب الشريعة.
وتعتمد نعمي طريقة مبتكرة لاخراج هذا الزواج الى حيز الوجود. فهي تدرب كنتها على اقتحام مكان بوعز في منامه على بيدر القمح. وهذا كلام التوراة نفسه: “وقالت لها حماتها يا بنيتي، ألا ألتمس لك راحة ليكون لك خير؟ فالآن أليس بوعز ذا قرابة لنا؟ ها هو يذري بيدر الشعير الليلة، فاغتسلي وتهيّئي والبسي ثيابك وانزلي الى البيدر. ولكن لا تُعرَفي عند الرجل حتى يفرغ من الاكل والشرب. ومتى اضطجع, فاعلمي المكان الذي يضطجع فيه، فادخلي واكشفي ناحية رجليه، واضطجعي وهو يخبرك بما تفعلين. فقالت لها لراعوت كل ما قلت أصنع”.
وبالفعل تُنفّذ راعوت ما قالته حماتها:”ودخل بوعز لينام فدخلت راعوت سرا، وكشفت ناحية رجليه، واضطجعت. وكان عند انتصاف الليل أن الرجل اضطرب, والتفت، واذا بامرأة مضطجعة عند رجليه.”
ويبدو ان بوعز لم يكن يعرف حتى هذه اللحظة من هي المرأة التي تنام في الليل الى جانبه، راغبة في الزواج منه، حسب وصية قريبته. فهو يستغرب من سلوكها ويسألها: “فقال من انت ؟ فقالت: أنا راعوت أمتُكَ. فابسط ذيل ثوبك عى أمتك. لأنك وليّي.”
والولي في عرفهم، هو الشخص الذي يحق له الزواج من المرأة التي مات عنها زوجها. ويستحسن الرجل كلام راعوت, خصوصا انها تفعل الاصول، ولم تسع وراء الشبان الصغار، كما يخبرها. ولكنه يطلب منها ان تمهله حتى يسأل في امرها شخصا آخر اقرب اليها منه، وأحق بهذا الزواج إن أراد. ولكن الشخص الآخر الذي يسأله بوعز يتنازل عن حقه في الزواج منها, وهو يخلع نعله ويعطيه لبوعز دلالة على تنازله له. ويتزوج بوعز من المرأة كما وعد، فتلد له ولدا يكون احد أجداد الملك داوود.
وثمة درس آخر نستفيده من هذه القصة، وهو قدرة المرأة اليهودية ان تعرض نفسها للزواج. كذلك لا حظوا تماسك الموآبية بتقاليد اليهود وهي ليست منهم.