الثقافة المنفية في سوريا
المشكلة الثانية تتمثل في انفصال ديناميات الإنتاج والنشاط والتفاعل الثقافي عن ديناميات التفاعل والإنتاج والتحول الاجتماعي، أي عما قد تصح تسميته اتجاه التاريخ المحلي. هذا يفضي إلى غموض والتباس الفاعلية الثقافية وغموض والتباس معنى منتجاتها، وخفة وزن ونقص شرعية منتجيها من جهة أولى. ويتأدى من جهة ثانية إلى واحد من ردي فعل: إلحاق الديناميات الثقافية المحلية بما يفترض أنه اتجاه التاريخ العالمي او الكوني، ومحاولة استمداد نور الوضوح والتماسك من ذاك الاتجاه الذي يفترض انه يسير نحو الديموقراطية او الليبرالية أو…؛ أو إخضاع الديناميات الاجتماعية لزاد ثقافي جاهز غير متسق معها، ما يضفي عليها طابع القسر والابتسار. وتنتج عن رد الفعل الأول ايديولوجيات تاريخية كونوية، تأخذ وجها ليبراليا اليوم، وكانت ماركسية الوجه يوما؛ وعن الرد الثاني إيديولوجيات معرفية، ماركسية أو قومية أو إسلامية.
وبالمجمل، ينفصل التاريخ المحلي كوقائع عنه كمفاهيم وقيم وثقافة. يرتد الأول إلى قوى عجماء، ويتصعد الثاني في معقولات مجردة عقيم. نفتقر إلى تصور عقلاني لتاريخنا المعاصر، لأن تاريخنا المعاصر مضاد للعقل.
قد نضيف رد فعل ثالثا يتمثل في الغفلة عن المسألة برمتها، وعدم الاهتمام بالتفاعل بين الاجتماعي والثقافي والسياسي. بيد ان الغفلة استسلام لفعل الأشياء، وليست ردا على اي شيء، وإن كانت تشارك الردين السابقين في تغميض الأفكار والمشاريع وفي تآكل شرعية الثقافة وتزايد عزلة المثقفين وانتفاء الحاجة إليهم.
فأفكارنا لا تستمد وضوحها وسدادها (أعني بالسداد تمازج الوضوح الذاتي والترابط مع الواقعي) من ذاتها ولا من تماسكها المنطقي ولا من المضامين والقيم التي تدعو إليها، بل من تفاعل العملية الثقافية التي تؤطر إنتاجها وتداولها والطلب عليها واستهلاكها مع العملية الاجتماعية لتقرير المصير المشترك والتحكم بشروط الحياة العامة، بما في هاتين الاستيعاب الثقافي والتغطية القيمية للواقع. فالوضوح الاجتماعي للأفكار أمر مختلف عن تماسكها المنطقي الذاتي وعن اتصالها بمرجعيات معروفة وإمكانية تقصي أنسابها.
لقد كان مفهوم المجتمع المدني ملتبسا في عز موسم تداوله لأن توظيفه كان منفصلا عن عملية تمدين المجتمع السوري، وبالخصوص بعد هجمة اعتقالات أيلول 2001 التي أعلنت أن العهد الجديد يسير على درب سالفه. يمكن لنا أن نمضي إلى ما لا نهاية في شرح وتوضيح المفهوم، لكن ما لم يتعرف عليه الناس في خبرتهم وتجاربهم الحية فسيبقى غامضا اجتماعيا. لذلك أيضا فإن المهم ان نشرح معانيه التي انعكست في ممارستنا، أي علمنا وجهلنا وغفلتنا وتحيزاتنا..، بدلا من تناول معياري ساذج يقيس مدى ابتعاد ممارستنا له عن معناه !
وهذا المثال مفيد لإلقاء بعض الضوء على المشكلة الثقافية الاولى، أعني انقطاع تأثير الثقافة على النظام السياسي والاجتماعي مقابل انكشاف ثقافي واجتماعي تام أمام السلطة. فقد يمكن وصف العام الأول من حكم الرئيس بشار الأسد بأنه العام الذي استعادت فيه الثقافة بعض دورها وكرامتها وتأثيرها. وبدا لبعض الوقت ان انشغالات المثقفين تسير بتواز وتفاعل مع اهتمامات الرأي العام والتحولات على مستوى السلطة السياسية. ولم يكن ثمة ما يمنع من حيث المبدأ أن تسير الأمور في هذا الاتجاه وتترسخ العلاقة التفاعلية بين المسارات الثلاثة. ولو جرى ذلك لانعكس وضوحا وملموسية على دعاوى المثقفين وشفافية على السلطة وتفتحا على المجتمع.
ما جرى هو العكس: هوجم النشاط الثقافي والسياسي المستقل واستعيدت الاولوية والمبادرة للسلطة وقيمها من ولاء ونفوذ ومحاسيبية وقرابة وفساد. وانقطع النسغ التفاعلي الذي يغذي الثقافة بالحياة والوضوح.
والمثال ذاته يوضح ان ازدهار الثقافة وتبنينها الاجتماعي، أعني تكونها كصعيد مستقل نسبيا وذي بنية ذاتية، وكذلك اقتراب القيم والمنتجات الثقافية من الوضوح والملموسية، كلها أمور وثيقة الاتصال بمناخ من الحريات. فهذا هو الشرط الذي لا غنى عنه لانفتاح اقنية الاتصال والتفاعل بين الاجتماعي والسياسي والثقافي. الحريات ليست مطالب في مجتمعاتنا أو اية مجتمعات حية، إنها عنصر تكويني في الاجتماع الإنساني الحديث.
سلطة ضد الثقافة
إن مصدر انقطاع تاثير الثقافة على الاجتماع السوري هو حيلولة السلطة بينهما. ومهما بدا ذلك غريبا فإن السلطة تقوم بذلك لأنها سلطة ، بل لأنها هي بالذات ثقافة. وأعني بذلك انها سلطة ذات رسالة أو عقيدة، وأنها لا تعترف باستقلال الثقافة أو السياسة او الاقتصاد أو المجتمع المدني. وحين نقول لا تعترف باستقلال الثقافة او السياسة… فنحن نعني انها لا تعترف بالثقافة والسياسة. فاستقلال الثقافة هو الثقافة واستقلال السياسة هو السياسة. لا تعترف السلطة أن الثقافة فاعلية تراكمية واكتسابية مستقلة عن اية عقيدة أو سلطة، وأنها مجال خاص لإنتاج سلطة اجتماعية مستقلة عن سلطة الدولة، وأن هذا الاستقلال وظيفة حيوية لتوضيح المشكلات الاجتماعية وتقديم تغطية معنوية وقيمية للتحولات التي تجري في المجتمع، وبلا شك ايضا ل السلطة وتهذيبها وتمدينها. فالسلطة لا تتثقف إلا حين تكون الثقافة مستقلة عنها أو حرة. واستقلال الثقافة عن السلطة هو شرط استقلال الثقافة بمطالب ومعايير وشرعية خاصة بها، وشرط التراكم الثقافي. ولا تمدن اجتماعيا دون تراكم ثقافي.
لكن السلطة العقيدية (أو الشمولية) لا تعترف أصلا بالسياسة، ولا تعرفها ولا تمارسها. وهي في الواقع لا تعترف
بالسوريين كفاعلين سياسيين ممكنين وتنكر حقهم في المبادرة واستقلال الرأي والضمير. وقبل ذلك كله تفترض، وهنا دور عقيدتها، انها تملك النسخة الأصيلة والصحيحة من المصلحة الحقيقية للسوريين، وتصادر على أن هؤلاء يحملون رأيها ذاته في المسائل العامة كلها. ومفهوم البعثي الذي يغطي الافتراضين المذكورين مفهوم غير سياسي وذو شحنة تسلطية عالية. فهو يضمر ان السوريين يكونون موحدين بقدر ما يكونون موالين وبقدر ما لا يكونون أحرارا، وأن وحدتهم ليست شيئا يصنعونه هم بل شيئا يفرض عليهم ارتداؤه، مثل اللباس الموحد الذي يفرض على تلاميذ المدارس.
على اننا نخطئ إذا اعتقدنا أن العقيدة البعثية، أو اية عقيدة اخرى، تشكل دليلا لسياسات السلطة السورية. ونخطئ اكثر إن استغنينا بنقد عقيدة البعث عن فهم وتحليل بنى ممارسة السلطة في البلاد. تلك العقيدة أحد الأجهزة المهمة لسير النظام ومصدر التسويغات الإيديولوجية لمصادرة حرية السوريين، والمصنع الثقافي المسؤول عن التخريب اللغوي والفكري والقيمي الضروري لشل قدرة الناس على المحاكمة وتشويش وعيهم، لكنها ليست منبع السياسات ولا أصل الهياكل السياسية. فالنظم العقيدية هي نظم لا تؤمن ولا تهتدي ولا تنضبط بأية عقيدة على الإطلاق.
ومعلوم أن أعلى مراحل التأزم الثقافي هي ما تعانيه المجتمعات المحكومة من قبل أنظمة تسلطية عقيدية (شمولية). فالثقافة تكون على الدوام في محنة حين تكون السلطة ثقافة أو .
حكم الركاكة
يفيد التناول أعلاه في تبديد بعض الأساطير الشائعة:
أولاها، ليست القيم الثقافية العصرية عاطلة عن العمل لأنها عصرية بل لأن الثقافة ككل معطلة. وليس المثقفون الحديثون محدودي التأثير إلا لأن المثقف بكل صوره فائض عن الحاجة.
ثانيتها، إنه لا يمكن الجزم بكون إشكالياتنا كمثقفين عصريين زائفة او سديدة دون استقلال الثقافة وحريتها. ذلك أن الرقابة على الثقافة والحجر على الفكر يقوضان قدرة مجتمعنا على التمييز بين الحق والباطل، بين السديد والركيك، بين الزبد وما ينفع الناس، وما يعني أنها تعطي تماما عكس مفعولها المزعوم. وليس ثمة من لا يعرف، على أية حال، أننا المنطقة الأشد رقابة على الفكر والرأي في العالم، والمنطقة الأعلى استهلاكا للبورنوغرافيا، وحكامنا من أكثر الحكام في العالم إدمانا للسلطة وخضوعا للشهوات، ولعلنا كذلك المنطقة الأكثر إنتاجا للخونة.
ثالثا، بالمعنى الاجتماعي الثقافة الدينية ذاتها تفتقر إلى الوضوح والسداد، ولا تعوض عنهما حتى بالإيمان الحي. ففي ظل انعدام الحرية يتدنى الإيمان ذاته إلى امتثال وخوف مما يقوله الناس. إن جذر ما ندعوه أزمة التدين الإسلامي هو انفصال الإيمان عن الحرية.
من الجمود إلى الطوفان
مشكلتان على جدول اعمال الثقافة في سوريا راهنا: مشكلة الهوية الوطنية ومراجعة العروبة، ومشكلة التحولات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد. في وضعها الحالي الثقافة في سوريا عاجزة عن مخاطبة هاتين المشكلتين.
ما نجده على المستوى الأول هو تحول من العروبة المطلقة أو العروبوية إلى السورية المطلقة او السوروية. هذا مظهر للأزمة وليس تجاوزا لها. وهو نزعة قومية طفولية لا تختلف عن سابقتها العربية. ويخشى أن لا يتسنى الانتقال من إحداهما للأخرى دون آلام ومحن، قد تكون وشيكة. إن مذهب المرشح لانتشار واسع في المرحلة المقبلة على ايدي عقائديين سابقين، بمن فيهم بعثيون، لا يصلح أرضية لبناء الوطنية السورية ما بعد البعثية.
على المستوى الثاني نجد مشكلات غير مغطاة فكريا وقيميا وغير مستوعبة اجتماعيا: التحول نحو اقتصاد السوق، المشكلة الاجتماعية التي تحالفت على توليدها الاشتراكية البعثية ومافيوية الطور الانحلالي من تطورها، مفهوم ديموقراطي للوحدة الوطنية، المشكلات الثقافية والاجتماعية المترتبة على تقدم خصخصة التعليم في المدارس والجامعات، قضية الجولان، أسس العلاقة السورية اللبنانية وعلاقات سوريا العربية والدولية في المستقبل، ، أعني كيف نفهم الطور الحالي من السياسات الأميركية وما هي المواقف المناسبة منها. وبالطبع صورة النظام السياسي في سوريا في المرحلة ما بعد البعثية، وغيرها كثير.
أمامنا مشكلات مجمدة هائلة قد يتسبب إخراجها من الثلاجة في طوفان مهلك. هذا تحد إضافي وعاجل أمام الثقافة واهلها. قد يواجه السوريون في وقت قريب أعباء ؛ يوشك ان ينتهي.