الفيديراليــة والمشـرق ( بعض التحفظات )
ويعيد الاهتمام بالفيديرالية في العراق احياء حديث قديم عن الفيديرالية في المنطقة تصاعد بداية ثمانينات القرن الماضي، وامتد بعدها مقترناً بالتوترات والصراعات التي شهدتها بلدان المنطقة في الربع القرن الماضي، والتي اتخذت طابع الصراعات الداخلية على نحو ما كان عليه الوضع في لبنان خلال سنوات الحرب الاهلية، وفي سنوات الصدام المسلح في سوريا بين السلطة والجماعات الاسلامية المسلحة، كما جرى طرح الموضوع مع تزايد التدخلات الخارجية في الاوضاع العربية على نحو ما حدث بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، وبعد حربي الخليج الاولى والثانية، ثم بعد الحرب الاميركية على العراق عام 2003.
وترافق طرح الفيديرالية في المشرق العربي بالحديث عن التكوين الفسيفسائي للتركيب السكاني في المنطقة، وهو تركيب متنوع في بناه القومية والدينية والطائفية، مما يفسح المجال امام تأسيس كيانات على تلك الاسس، يمكن جمعها في اطار كيان فيديرالي جامع، يكون محصلة تفاهمات بين الكيانات الداخلة فيه، وكان الاعتبار الاساسي الذي انطلق منه دعاة الفيديرالية وانصارها، ان هناك اشكاليات عديدة ومتداخلة، تمنع مكونات التركيب السكاني في بلد ما من التعبير عن ذاتها في اطار الكيان القائم، او ان اخطاراً ومشاكل، لحقت بواحد من مكونات التركيب السكاني، مما يجعله يتجه للبحث عن صيغة تكفل له عدم تكرار تلك الاخطار والمشاكل.
غير ان موضوع الفيديرالية، رغم التعدد القومي والديني والطائفي في المشرق العربي، ظل طرحا اقلوياً على نحو ما فعلته اوساط مسيحية لبنانية في الثمانينات، ولم يسعَ اليه بصورة عملية الا أكراد العراق بعد ان جرّبوا صيغة كيان كردي في المنطقة الآمنة في شمال العراق 1991 – 2003، ثم حسموا امرهم بالسير نحوه بعد الحرب في العراق، وجرى طرحه اخيراً من جانب قطاع من شيعة العراق، واستند الامر في الحالتين الى ما تضمنه قانون الدولة الاساسي.
لقد أثار الموضوع لغطاً ومعارضة سياسية واسعة في الاوساط السياسية والثقافية. حيث تعدد المعارضون والمؤيدون واختلطوا، كما اختلطت في الوقت نفسه اسباب ودواعي التأييد والمعارضة في وضع بدا فيه من الطبيعي، ان ينقسم اصحاب الآراء المتعارضة طبقاً لمواقعهم الايديولوجية والسياسية المتناقضة والمختلفة اساسا.
والجوهري في تناقض الآراء في موضوع الفيديرالية، يعود الى اسباب وخلفيات متعددة، قد يكون من ابرزها، ان موضوع الفيديرالية موضوع جديد في الثقافة السياسية بالمنطقة، وهي ثقافة “جمعوية” سواء في مستواها القطري او على المستوى القومي العام، والامر في هذا يكاد يكون واضحاً ليس في البلدان العربية فقط، انما ايضا في الدول الاخرى في المنطقة على نحو ما هو عليه الامر عند جاري العرب الكبيرين تركيا وايران، كم ان الامر كذلك في اطار الجماعات “الاقلوية” الموجودة في بلدان المنطقة كما في حالة الاكراد.
وباستثناء جدة الفيديرالية في الثقافة السياسية، فإنه لا يوجد للفيديرالية اية تعبيرات مادية وعملية في الواقع العربي والاقليمي، مما يجعل الفكرة من الناحيتين الثقافية والعملية غريبة لدى النخبة الثقافية والسياسية، ويجعلها واقعة في دائرة الحذر او الشك، ومحاطة مثل كل الافكار الجديدة بالمخاوف المسبقة.
وتزداد هذه المخاوف شدة بترافقها مع امرين اثنين، الاول طبيعة الظرف الذي يطرح فيه موضوع الفيديرالية، والثاني يتصل بالقوى التي طرحت الفيديرالية وخاصة في العراق. ومن الناحية الاولى، فان الظرف الذي يطرح فيه موضوع الفيديرالية، هو ظرف تتراكم فيه المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتسود فيه صراعات متعددة المستوى، منها صراعات بين الداخل والخارج، وصراعات بين الحاكم والمحكوم، وصراعات بين مكونات الجماعات الوطنية في اطار البلد، وغالبيتها صراعات متعددة المجال، تتخذ طابع صراعات القوة المسلحة احياناً والسياسية في غالب الاحيان، والقومية او الدينية والطائفية في احيان اخرى، وقد تكون الصراعات تداخلا بين المستويات والمجالات المختلفة، كما هي الحال في العراق.
اما الامر الثاني الذي يدفع الى تزايد المخاوف حول الفيديرالية، فيكمن في طرح الموضوع من جانب اطراف يحيط الشك بمواقفها او بمشروعها السياسي. والحال العراقية تقدم نموذجين، اولهما الولايات المتحدة، وهي صاحبة مشروع الفيديرالية كما جرى التعبير عنه في قانون الدولة العراقية الذي اقره الاحتلال الاميركي هناك في اطار معالجته للوضع بعد اسقاط نظام صدام حسين، والثاني هم أكراد العراق الذين ظهروا بمظهر المتعاون مع الاميركيين، ودعاة قيام كيان كردي بدأت ملامحه في شمال العراق مع اقامة المنطقة الآمنة هناك قبل خمسة عشر عاماً، اضافة الى انه لدى اكراد العراق نزوع نحو اقامة دولة كردية في المنطقة، تضم أكراد العراق وايران وتركيا وسوريا في كيان واحد.
لقد ادت المخاوف المختلفة الى ظهور معارضة واضحة لموضوع الفيديرالية في العراق، لعلها اشد قوة من المعارضة التي قوبلت بها فكرة الفيديرالية في لبنان في العقود السابقة، غير ان مؤيدي الفيديرالية اليوم، هم أكثر مما كانوا عليه في العقود السابقة ايضاً، وهذا يفرض تكثيف المعرفة النظرية والسياسية بموضوع الفيديرالية، وتنظيم نقاش فكري وسياسي حول الموضوع، بما يعنيه ذلك من رؤية الجوانب المختلفة الايجابية والسلبية بالانطلاق من التجارب العملية وفي ضوء معطيات الواقع واحتمالاته.
لقد تغير العالم من حول النخبة الثقافية وا
لسياسية في المجالين العربي والاقليمي، وتغيرت الظروف الداخلية والخارجية، وصارت بلدان المشرق في دائرة تحديات جيدة وشديدة التعقيد، وكله يدفع النخب الثقافية والسياسية، ان تعيد النظر في كثير من مسلماتها وانماط تفكيرها وطرائق عملها وعلاقاتها، واطلاق افكار وآليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لبلدانها وللمنطقة، يتجاوز حمى الانقسامات والصراعات، وقد تكون الفيديرالية احد خيارات المشروع، لكن الاهم من ذلك كله، ان لا تذهب النخب – او بعضها – الى فرض الفيديرالية على الشعوب بالقوة وخاصة بقوة المحتل.