دولة شركات عائمة على تنافس خليجي وزعامة مالية عملاقة
هنا في المركز “دولة” تمتد سلطتها على مساحة 155 هكتارا. فيها تنمو 470 شركة عربية واوروبية واميركية وآسيوية منذ ثلاثة اعوام باستقلال تام. لها قوانينها وجوازات سفرها ومؤسساتها ومحاكمها. “دولة” جعلت مع عوامل اخرى، من امارة بوابة للغرب والشرق الى المنطقة.
هنا دبي، حيث تتقاطع الاسواق المالية العالمية، من نيويورك الى لندن غربا وصولا الى هونغ كونغ شرقا. هكذا يعرّفها الاماراتيون. اما لائحة الارقام التي تعزز ذلك فطويلة. تكفي الاشارة الى ان 22 مليون مسافر مروا في مطارها عام 2006 فيما تشير توقعات السنة الجارية الى 35 مليونا.
هكذا كان دور بيروت او هكذا يفترض ان يكون، يتحسر اللبنانيون. حسرة غالبا ما تتغلب عليها دمعة. تذوب الارقام في العواطف فتترجم صرخة: “أعطونا استقرارا سياسيا وامنيا وخذوا ما يدهش العالم اقتصاديا”.
الامارات، قطر، البحرين… ثلاثة “عواصم” تتنافس اليوم على “زعامة” المنطقة ماليا فيما زعماء بيروت، “سويسرا الشرق”قديما، يتبارون في “تهشيل” ادمغتها. هنا، في دبي، الف “ناصر السعيدي” معروف وغير معروف. اسئلة عدة تطرح نفسها: هل زال دور لبنان المالي والاقتصادي وسط تبدل خريطة المنطقة اقتصاديا على وقع فورة نفطية لم يسبقها مثيل؟ ما هي العوامل التي جعلت دبي عموما ومركزها المالي تحديدا مركز استقطاب للشركات والمصارف العالمية والعربية؟ وهل يمكن ان تستعيد بيروت هذا الدور او جزءا منه؟
“شارع المصارف” في دبي، ملف تعرض فيه “النهار” مع مسؤولين اماراتيين في مركز دبي المالي الدولي وكبير الاقتصاديين فيه ناصر السعيدي للعوامل التي جعلت دبي عموما ومركزها المالي تحديدا نقطة استقطاب اقليمية ودولية. وتسلط الضوء على الخطوات التي تم تنفيذها على هذا المستوى الى التسهيلات المتوافرة للشركات والمصارف العربية والاجنبية في المركز والحضور اللبناني فيه فضلا عن اقتراحات لتفعيل التعاون اللبناني – الاماراتي.
أدرك الاماراتيون انه من الآن وحتى سنة 2012 لن يكون في وسعهم الاعتماد على النفط كمصدر تمويل اساسي، فشرعوا في خطوات هدفت الى تنويع نشاطهم الاقتصادي وتطويره. خطوات ركزت في مرحلتها الاولى على الاستثمار في البنى التحتية وتطوير السياحة والتجارة. ويشكل النجاح الذي يلقاه مشروع جبل علي حاليا مثالا يحتذى به على هذا المستوى.
يشكل مركز دبي المالي العالمي نموذجا آخر للمستوى المتقدم الذي بلغه القطاع المالي في دبي. سمح التعديل الدستوري الاول من نوعه في الامارات العربية المتحدة منذ 1971، بانشاء مركز مالي على مستوى اتحادي. فكان مركز دبي المالي العالمي او الـ DIFC الذي منحته حكومة دبي استقلالا تاما. استقلالا اكتسب ميزات عدة. بدأت بتوفير المناخ الملائم للاستثمار الذي ترجم بمنح الشركات الاجنبية حرية تملك بنسبة 100 في المئة والغاء الضرائب والرسوم على المداخيل والارباح الى الغاء الضوابط على التبادل بالعملات الاجنبية وحرية تنقل الرساميل والارباح بلا ضوابط وسن قوانين وتشريعات متطورة وبناء بنية تحتية حديثة.
وخلافا “لجنات ضريبية” اخرى حيث تعمل مراكز او شركات offshore، يعمل المركز والشركات المنضوية تحت لوائه بمفهوم onshore حيث تلغى الضرائب والرسوم مع السماح بالاستثمار داخل البلد نفسه.
تشكل سلطة مركز دبي المالي الهيئة المنظمة للـ DIFC، مهمتها تطوير الاستراتيجيات كما يدخل ضمن مسؤولياتها جذب الشركات وحثها على الانضمام الى المركز. ويقول السعيدي في هذا الاطار ان توجه القيمين على المركز يقضي بتفادي الترخيص لشركات جديدة، التي لا تاريخ لها ولاسيما في القطاع المصرفي والمالي من منطلق ان ادارة المخاطر تقتضي حذرا على هذا المستوى. ويبقى احد الاهداف الرئيسة التشديد على استقطاب اصحاب الخبرات المرموقة.
رقابة الخدمات المالية الجارية داخل المركز وتلك الصادرة عنه الى الترخيص للمؤسسات وتسجيل الشركات كلها صلاحيات موكلة الى سلطة خدمات دبي المالية التي تتبع وفقا للمسؤولين الاماراتيين، النظام نفسه المعمول به في بريطانيا. فالسلطة تمثل هيئة رقابية شاملة لنشاطات الاسواق المصرفية والمالية وتتم ادارتها وفقا لادارة المخاطر. وانطلاقا من معايير الحوكمة، تم الفصل بين الدور الرقابي المنوط بمجلس الهيئة الرقابي والدور الاداري الموكل الى مجلس اسندت اليه مهمة التنفيذ. علما انه يضم شخصيات اقتصادية وخبراء عالميين اميركيين واوروبيين وآسيويين وعرب ويرأسه حاليا الوزير السابق والمصرفي الكبير عبدالله صالح.
محاكم انغلوساكسونية
ضمان الاستقلال في حل النزاعات كان احد ابرز العناصر في جذب الشركات العالمية وتمثل ذلك في انشاء محاكم قضائية خاصة بالمركز. محاكم ترعاها قوانين تتبع النظام الانغلوساكسوني خلافا لبقية دول التعاون الخليجي حيث تستند القوانين على الشريعة الاسلامية. وتستثنى منها القوانين الجزائية التي تتبع التشريعات الاتحادية.
يشدد مسؤولون في المركز على اهمية هذه الخطوة انطلاقا من المرونة والوضوح التي يتسم بها النظام الانغلوساكسوني واثر ذلك على تنشيط العمليات المصرفية والمالية. ولدى حصول اي لغط او نزاع في مسألة او بروز ضبابية في تفسير مادة، يجوز اللجوء الى القوانين البريطانية والاميركية علما ان المحكمة المستقلة للمركز تضم قاضيين واحد بريطاني الجنسية وآخر من سنغافورة.
ثروات وارباح
500 هو عدد الشركات الذي يتوقع بلوغه في المركز نهاية 2007، 70 في المئة منها من غير الدول العربية، علما ان العدد يرتفع بمعدل شركتين او ثلاث اسبوعيا في هذه الفترة على تعبير القيمين على المركز. نسب النمو المرتفعة، الفائض في ميزان المدفوعات في دول مجلس التعاون الخليجي، السيولة، حجم الثروات المتوافرة والتي تتجاوز 1400 مليار دولار، كلها معطيات تشجع، كما يقول مسؤولون اماراتيون، الشركات والمصارف الى دخول المنطقة علما ان منطقة الخليج تنفذ استثمارات معظمها في مجال البنى التحتية، وتتجاوز قيمتها الـ 1100 مليار دولار.
“جوازات” خاصة
اسمها المتعارف عليه هو الـe-gate. مجرد بطاقة ممغنطة يحصل عليها العامل في المركز المالي وتسمح له بدخول مطار دبي الدولي على غرار دخوله… مكتبه. بذلك، تتأمن سهولة التواصل والانتقال للمصرفيين ورجال الاعمال مما يساهم في تعزيز دور الامارة كنقطة انطلاق الى الدول المحيطة والعالم. والى البنى التحتية القانونية والتنظيمية للمركز وحرية تنقل موظفي “دويلته”، وفرت ادارة المركز الذي يبعد كيلومترات عن المطار الخدمات من مياه وكهرباء ووسائل الاتصال اللازمة، علما ان الارض هبة من حاكم دبي الشيخ محمد بن خليفة آل مكتوم.
مقاربة لبنانية
“سنستعيد دور بيروت. واثق من ذلك. ابعد من المهارات والخبرات، لدينا ما بات معروفا بالعقلية اللبنانية. هم يهدمون ونحن نبني”. الكلام لمدير مكتب احد اكبر المصارف اللبنانية الذي يؤثر عدم ذكر اسمه، عملا بسياسة المصرف التي تحصر التصريحات بالادارة. هو في الخامسة والسبعين من عمره. غادر لبنان قبل اكثر من 20 عاما الى الامارات العربية المتحدة ويعود اليه في العطل والمناسبات: “هنا، في دبي كل شيء جميل: الابراج، المطاعم، الشاطئ، الثروة”. تغرورق عيناه بالدموع. “كل شيء جميل..فقط من وراء النافذة”.
ينطلق مصرفيون، وفي معرض تحليلهم لاحتمال استعادة دور بيروت المالي والخدماتي، من مجموعة ثوابت ابرزها الموقع الجغرافي والمهارات والروح اللبنانية المقدامة والمناخ الطبيعي. كلها عوامل تسمح على قولهم “ببناء اجمل دولة في العالم اذا”… والـ”اذا” هذه غالبا ما تستتبعها نقمة لا بل نقمات تصب جام غضبها على الساسة والسياسة: “عندما يتعلم المسؤولون اللبنانيون تقديم العلم والاقتصاد على السياسة نبدأ في بناء دولة”.
فوت لبنان فرصة الافادة من الثورة النفطية، فكان ان زادت هجرة الادمغة الى دول الخليج حيث تعمد اقسام الموارد البشرية في الشركات الاجنبية والعربية الى اجتذاب عناصر الشباب وخصوصا اللبنانيين. امران يدفعانها الى “استهداف” الطاقات اللبنانية: كفاءاتهم والمامهم بالعربية. اما القطاعات التي برع فيها اللبنانيون في دول المنطقة ومنها الامارات فأبرزها ثلاثة: المصارف والاعلام والتعهدات.
يعود مصرفي مخضرم عشرات الاعوام الى الوراء مستذكرا “الهجرة” التي كانت تتم في اتجاه معاكس. كانت هجرة “قصيرة الامد”، كما يقول، انصرف خلالها زوار بيروت من الخليجيين الى اجراء بعض العمليات المصرفية او الافادة من وسائل الاتصال التي تربط لبنان بالعالم من فاكس وتلكس. اما اليوم فتبدلت الاوضاع.
يعزو اداريون لبنانيون نهضة الامارات العربية المتحدة الى اسباب عدة اولها النجاح في استقدام الخبرات وثانيها رسم رؤية واستراتيجيا، وثالثها التطوير المستمر للتشريعات في وقت ما زال لبنان يعتمد على القوانين والتشريعات العثمانية في بعض الميادين. وفيما يقر مسؤولون بحصول تدخلات ويعترفون بحصول تجاوزات، الا ان حجمها اقل مما هو عليه في لبنان “حيث لا قانون”.
سيولة وودائع
لماذا تتوسع المصارف والشركات اللبنانية في اتجاه الخليج؟ يذكر نائب حاكم مصرف لبنان سابقا وكبير اقتصاديي مركز دبي المالي العالمي اليوم، الدكتور ناصر السعيدي، بالسيولة وحجم الودائع التي يمتلكها القطاع المصرفي اللبناني وهي تتعدى حجم الاقتصاد اللبناني: “قيمتها 70 مليار دولار. واذا ما قارنا حجم الودائع والموجودات بحجم الاقتصاد، نصل الى نسبة 250 في المئة”. ولان المخاطر في الاقتصاد مرتفعة، راحت هذه المصارف والشركات تفتش عن اسواق في الخارج وذلك بتشجيع من مصرف لبنان نفسه. فكان ان امتدت عملياتها لتشمل الاردن وسوريا ومصر والجزائر ودول مجلس التعاون الخليجي وصولا الى اوروبا. يصف السعيدي الرأسمال لدى المصارف اللبنانية “بالأهم” بين المصارف العربية هذا فضلا عن الخبرة الطويلة التي يتمتع بها هذا القطاع.
حقق اللبنانيون خرقا في عالم المال في دبي وضمنه مركز دبي العالمي سواء عبر حضور الشركات اللبنانية فيه او ترؤس اللبنانيين لمجالس ادارة شركات ومصارف عربية واجنبية. ولائحة الاسماء في هذا المجال طويلة.
اما الجديد الذي اضفته هذه الشركات على السوق الاماراتية مقارنة مع شركات عربية او اوروبية، فيتركز في نظر السعيدي على خبرتها الطويلة في مجال التجارة الخارجية: “اللبنانيون يلمون بالادوات المالية كما يمتلكون خبرة طويلة في التعامل مع شركات دولية وخصوصا الاوروبية منها”.
شكوى اساسية تتكرر في حقل المال وتتمثل في الحد من منح رخص مصرفية جديدة مع اعطاء دول مجلس التعاون الخليجي الاولوية في هذا المجال. اولوية ترعاها الاتفاقات المتوقعة بين هذه الدول فضلا عن طلب المصارف الاماراتية من الحكومة اللبنانية المعاملة بالمثل على هذا المستوى. وهي شكوى يرد عليها السعيدي بتأكيده العمل الدؤوب مع السلطات المعنية لاسقاط الحواجز وفتح الاسواق.
دور بيروت؟
نهضة في الاسواق العربية والخليجية نتجت عن ارتفاع نسبة النمو وزيادة اسعار النفط ولبنان غائب عنها. وفي حين كان من المفترض الشروع في اعادة بناء السوق المالية اللبنانية والبورصة منذ وضعت الحرب اوزارها، فان لبنان لم يتهيأ للعب هذا الدور. هذه الوقائع وما نتج عنها من توجه للرأسمال البشري في اتجاه الخارج افقدت بيروت دورا طليعيا اشتهرت به لاعوام خلت. والسؤال: هل يمكن ان تستعيد هذا الدور؟
يجيب السعيدي بمعادلة مختلفة: “في السابق، شكلت بيروت بوابة للخليجيين نحو الخارج حيث اعتادوا تحويل اموالهم الى اوروبا والولايات المتحدة الاميركية عبر لبنان. اما اليوم فبرزت معادلة جديدة. للمرة الاولى، تستخدم اموال المنطقة لتمويل اقتصاداتها والبنى التحتية والمشاريع فيها. ونمت للمرة الاولى قدرة لدى العرب في ادارة ذاتية لاموالهم. قدرة عززتها التكنولوجيا والخبرات والقوانين والرقابة. صحيح ان لبنان لم يستفد من هذا المناخ حتى الآن، ولكن وفي حال تحقق الاستقرار، فان خطوات كثيرة يمكن القيام بها للتعويض”.
يقول السعيدي انه على اتصال مستمر مع مركز دبي المالي العالمي ومصرف لبنان ومسؤولين في الحكومة اللبنانية طارحا مجموعة مشاريع يمكن البناء عليها بغية الربط بين بيروت ودبي اهمها:
– ربط بورصة بيروت ومركز دبي المالي العالمي مما يسمح للمستثمرين بالاستثمار مباشرة في بورصة بيروت والعكس صحيح.
– السماح للدولة اللبنانية بان تطرح سندات في سوق مركز دبي المالي العالمي بما فيها الصكوك الاسلامية حيث يبرز مجال واسع على هذا المستوى.
– استعداد مركز دبي المالي العالمي لطرح اسهم وسندات صادرة عن الشركات اللبنانية.
– الشروع في عمليات دمج بين الشركات اللبنانية والاماراتية او الخليجية.
– الربط بين مطار دبي الدولي ومطار رفيق الحريري الدولي
– اقتراح اقامة جسر جوي بين بيروت ودبي للصادرات اللبنانية لتدخل عبرهاالى دول مجلس التعاون الخليجي.
منافسة او تكامل
بين دبي والبحرين وقطر وحتى الرياض بوادر منافسة اقليمية في الخريطة الاقتصادية. منافسة يدرجها السعيدي في خانة التكامل مذكرا ان الاسواق الخليجية المحلية ورغم نموها، ما زالت في بداياتها: “نحن في اسواق ناشئة. تاريخ البورصات باستثناء الكويت لا يتجاوز الخمسة اعوام وحجم القطاع المصرفي فيها ما زال متواضعا مقارنة بحجم اقتصادات هذه الدول ونسب نموها”. يتوقع الخبراء عمليات دمج في القطاع المصرفي العربي في السنوات المقبلة يرافق عمليات انفتاح المصارف، وسط حديث عن توجه نحو التخصص تبرز معالمه اكثر فاكثر في المراكز الاقليمية. ففي قطر تركيز على الطاقة، فيما يزدهر في البحرين قطاع التأمين على وقع “غزو” بدأ يركز على اسواق دول آسيوية مجاورة باشرت الانفتاح مثل الهند وباكستان وهي اسواق لا تقل عن مليار و300 مليون نسمة مجتمعة.
يسير العالم على “ساعة” العلم والاقتصاد، فيما يسير المسؤولون اللبنانيون على “ساعة” اخرى، ساعة المحميات و”المزارع” الطائفية والمصالح الضيقة. والنتيجة؟ يتخذون الاقتصاد رهينة، غير آبهين بطاقات علمية تهاجر، حتى لو اقتضى الامر ان تختزل الحياة “بنافذة”!