المطاردة ( عن اعتقال فايز سارة وآخرين)
قالوها وانتهى الأمر وحين اعتقلوا كانت غدت بعيدة وغير ماثلة. لا نفهم بالطبع لماذا يعتقل رجل كفايز سارة، لكن من قال أننا فهمنا اعتقال عارف دليلة وأنور البني وفائق المير وميشيل كيلو وسواهم، أم اننا سنفهم اعتقال من سيأتي دورهم، نعرف انهم قلائل من يجازفون بعقد اجتماع معارض، لم يصلوا الى المئتين بل الى المئة والخمسين هؤلاء الذين اجتمعوا من أجل اعلان دمشق. لكنهم فعلوا ذلك في وضح النهار وفي العاصمة التي توجهوا إليها من اماكن شتى في سوريا، وبالطبع تحت اعين البوليس وبمعرفته. لقد اجتمعوا في العلن واصدروا «اعلانهم» في العلن. ابيح لهم ذلك او تركوا يفعلونه. فلماذا انتقاء بعضهم دون بعض للحبس ما دامت «الجريمة واحدة». ولماذا يعتقلون بعد ان اجتمعوا وأصدروا بيانهم، تحت اعين البوليس وسمعه، ووصل البيان الى الصحافة وأدى غرضه. هل هو دهاء أم غفلة أم انه ليس هذا ولا تلك. انها حيرة فهل هي ايضا مقصودة، وهل يقصد البوليس والنظام ان يعميا علينا سبلهما وان يضربا ظاهرا ضبط عشواء وان يبقيا الجميع في العتم. هل هو دهاء أم اعتباط أم عبث، ومن يبالي على كل حال إذا كان الذين يدفعون الثمن هم الآخرون.
فاجأنا ربيع دمشق، لا نعرف إذا كان ما زال يستحق هو الاسم، لقد تُرك لهم ان يجتمعوا وان يتكلموا جهاراً. كان هذا بحد ذاته مدوياً، اجتماع المعارضين والفسحة التي انشقت في النظام الحديدي. لكن هذا كان ايضا عارضا وبلا اساس، ترك للمعارضين بعض الحراك. ولما جروا قليلاً في لعبتهم وقاربوا أن يصدقوها، نفخ عليها لتنطفئ. اغلقت الأبواب في ساعة وجرّ البعض الى السجون. تصرف البوليس بقدر من السخرية، لم يكلفه انهاء الأمر أكثر من اشارة. هل كان يُري المجتمعين قوته أم ضعفهم، هل كان يهزأ أم يتسلى، هل كان يتشاطر عليهم أم يلاعبهم. في البداية تركوا ليجتمعوا، ذلك الحين ظن البعض ان ذلك يتم برضى النظام وان هذه الفسحة منحة منه وستغدو بعد قليل مكسباً. الربيع كان بالنسبة للبعض ربيع النظام، اي اصلاحه وتجديده. راهن بعض من اعتقلوا، فيما بعد، على ذلك. كل هذا بدا في النهاية مسخرة، تركوا ليلعبوا وحين اعتقل من اعتقل ظهر الجد. ما كان بعلم النظام وعلنه اعتبر في المحكمة جناية وتآمرا وخيانة استحق عليها احكاماً مديدة، بعضها كان شبيها بالاعدام (15 عاماً من السجن التي لا زال عارف دليلة يمضيها). بعد الفسحة واللعب اتى الرعب، بعد السماح والربيع اتى الهول. مع ذلك لا احد يتعب من اللعب، بعد الجفلة عاود المعارضون الى الحراك نفسه. وجدوا ايضا فسحة ملغومة ليقولوا، ارخي لهم ليفعلوا ذلك، وبالطبع لم يكفّوا أنفسهم عن فعله. لم يكن في الأمر ربيع آخر وما عاد احد يصدق اي ربيع، لكنها فسحة اجبارية، خادعة في الغالب ولن يوفروها. لو كانت فخاً فلن يكون في وسعهم تجنبه، انها فرصة، مهما كانت حقيقتها، ولن يدعوها تضيع. قالوا كلمتهم ولما لم يتدخل احد تابعوها واستزادوا، لما لم يتدخل احد تكثروا منها. حتى إذا كادوا ان يطمئنوا جاء الجدّ، جاء الاعتقال والمحاكمة الصعبة وسلسلة الجنايات والاحكام الطويلة.
لا نعرف ماذا يجري، هل يمتحنهم النظام ويعرضهم للاختبار. هل يريدهم ان يخرجوا وهل هم في الاصل مجهولون منه. هل يريد ان يضفي على قمعهم شرعية ويدفعهم الى ان يمارسوا في العلن ما سيحاكمهم على انه جناية وتآمر. هل يسخر جهاراً منهم ومن ضعفهم، هل يتشاطر او يتداهى او حتى يتلهى. لسنا قادرين على تفسير تلك الدورة الغريبة من السماح والردع، من الفسحة والمحاكمات من السكوت والهجوم. لا بد ان في ذلك شيئاً من الامتحان والمراقبة والسخر والتظاهر وتوسل الشرعية، لكن الاغلب ان ذلك لا يحدث عبثا واعتباطا وانه محسوب من الأوّل. السماح في البدء مقرون بالردع في النهاية، الفسحة مقرونة بالمحاكمة. لا بد ان من يخرجون الى العلن والتعبير الحر يعرفون ان ذلك ارخي لهم لوقت، وان الدائرة ستنطبق عليهم بعد قليل، ان نهاية اللعبة لن تكون سليمة وليس في الأمر اي ربيع.
انها لعبة قاسية واكاد اقول يائسة، هذه الفسحة الخادعة، وهذا الامتحان الجهنمي. فسحة ملغومة ومفخخة، دعوة مارقة الى الكلام والعلن بقصد ان تكون شهادة للمرء على نفسه والتعجيل بمحاكمته عليها. ربيع كاذب ينتهي في السجن والمكابدة والاحكام الطويلة. ها هنا الدهاء والسخرية والاستضعاف (مجتمعة) يجازى العمل العلني بما يجازى به العمل السري، تجازى الدعوة السليمة بما يجازى به التآمر والتواطؤ المسلح، تجازى الكلمة بما تجازى به الرصاصة. أليس في وسعنا هنا ان نتكلم عن استدراج. الكلمات «البريئة» التي يقولها المعارض في العلن تحاكم على انها خيانة وتفريط وتآمر، الكلام والرأي يحاكمان محاكمة الفعل، لا تنفع سلمية المعارضة في طمأنة النظام.
لا يفاجئني اعتقال فايز سارة لكني لا افهم كيف يمكن لمسالم ملاطف حيي مثله ان يكون خطراً على احد. لكن فايز ليس وحده لذلك بين هؤلاء «المسنين» الذين لا تسعفهم أجسادهم ولا اعمارهم الا على قدر من الحكمة وقدر من طلب الاصلاح. جميعهم فيما أذكر أرادوا ربيعا للنظام اكثر مما أرادوه للمعارضة. جميعهم ادرى بضعفهم اكثر من النظام الذي يستضعفهم وجميعهم أرادوا فقط اصلاحاً بالتدريج، لم يستعجلوا لم يطلبوا شيئا فوق الطاقة. انهم عرق جديد من المعارضين العرب في سلميته ورصانته وزوال اوهامه وانتفائه من الجملة الثورية والكليشيه العنيف والانشاء الراديكالي وتكيفه مع الظروف والموازين. لا افهم كيف يكون النظام اقوى باعتقالهم، وكيف يطمئن اكثر وهم في السجون إلا ان يكون، من حيث لا يحتسب، يتداهى على نفسه. الاستقواء على الرأي قد يجعله قوة، انه يبذره في الأرض ويعطيه حياة اطول. كان سيكون صدى لو ترك يجري على هواه، وكان يمكن ان يصطدم بضعفه اولا. لكن الردع قد ينشره اكثر وقد يعطيه شرعية ومعقولية ليسا في الاساس من صلبه: محاربة الآراء اقرب الى محاربة الاشباح وقلما يمكنها ان تقضي على شيء لا يحتاج لينتقل الى سلاح ولا الى تدبير، وانما ينقله الهواء والكلام بدون حاجة الى سبيل آخر.
هؤلاء المسنون المعتقلون الذين لم يتآمروا، ولم يطلبوا شيئا لأنفسهم ولم ينازعوا على سلطة، ولم يستقووا بشيء او احد، هؤلاء لا يمكن تبرير حبسهم بأي عذر. لقد قالوا ما سيقال دائماً ولا يعني شيئا ضرب المثل بهم او تأديبهم عن غيرهم. لا يعني شيئا اتخاذهم عبرة لمن يعتبر، فهؤلاء بشر وهؤلاء مرضى وهؤلاء قد يتسبب الحبس بقتلهم وتلك جناية ستبقى فوق رؤوس من يقومون بها. يعرف الجميع ان هؤلاء في الحبس اكثر تبعة على النظام مما لو كانوا خارجه. إن اعتقال رأي او فكرة سراب، ومن يفعلون ذلك يتسببون بفضيحة لأنفسهم ويشهدون عليها فحسب. ان لعبة القط والفأر مع المعارضة شاطرة وقد تنم عن دهاء لكنها بالطبع مفضوحة عارية. يمكن استدراج آخرين ايضا لكن لعبة كهذه تغدو اكثر فأكثر فوق طاقة من يلعبونها، يمكننا ان نسخر لكن السخرية لا تكفي سياسة.