سيميائية الفضاء وتعقّل المشكلات المديني
سيميائية الفضاء وتعقّل المشكلات المدينية
كتابات – د.شهاب اليحياوي
دعنا نتّفق أوّلا ، قبل إستدعاء مختلف مقاربات الفضاء ، على شبه أو تغييب عديد حقول البحث العلمي لمفهوم الفضاء ، لا فحسب ضمن علم الإجتماع بل أيضا لدى غالبية علماء الإقتصاد مثلما علماء النفس . يبدو الإهتمام بالفضاء غائبا أو إن سجّل حضوره فلا يتعدّى العرضي والهامشي . ذلك أنّنا لم نجد تخصيصا لمجال تعريفيّ بمفهوم الفضاء والفضاء اإجتماعي ضمن عدد هائل من البحوث الإجتماعية والحضرية بالخصوص نظرا للعلاقة الترابطيّة بين إثارة المديني وإستدعاء مفهوم الفضاء وحتّى إن وردت في البعض منها فإشارة لا تعميقا (1) . وهي ذات الملاحظة التي وقف عليها كلّ من : بيارمرلان و فرنسواز كواي في معجمهما (2) .
تشكّل المقاربة السيميائية للفضاء أهمّ المنطلقات النظرية التي يستوجبها البحث الإمبريقي الذي ينشد إستقراء الفضاء المديني وكيفيات شغله من قبل الفاعلين الإجتماعيين وإنعـكاساته على متعدّد أصعدة تمظهر المدينة . وينكشف الفضاء في مدلوله السيميائيّ كمنظومة علامات يقتضي لدى أوستكوفتسكي إستدعاء مقولة الإستعمال أو الإستخدام الذي يقيمه الفاعل للفضاء الذي يحتلّه ويشغله . فمعنى الفضاء وهذا هو المهمّ يستدلّ عـليه لدى فايري أيضا عبر ومن زاوية الممارسة الإجتماعية للفضاء . يدعو فايري الى مقاربة الفضاء ضمن سيميائيّة متمفصلة في منظومة دلالة . فالفضاء ” لا يعني البحث إذا لم يكن دالاّ من زاوية ممارسة إجتماعية وإن لم يكن دالاّ لشخص ما ” (3) . ولعلّ وجهة النظر المعيّنة التي يجب أن يتّجه التحليل السيميائي للفضاء إليها التي يتحدّث عنها تابوري هي ذاتها التي يؤكّد عليها إتّجاه فايري أي الممارسات التي تحدث داخل هذه الفضاءات التي يقاربها تابوري كأمكنة مجرّدة أين يمكن للسيميائيّ أن يصف الأشياء الحقيقيّة لكن في علاقتها ببعضها . هذه العلاقات وبالمثل دلالة الفضاء السيميائي هما معطيان للتحليل من زاوية الممارسات داخل الفضاءات أو الأمكنة . فلفضاء ما ” هنالك ممارسة إجتماعيّة ” (4) .
يقارب تابوري الفضاء كمكان لسيناريوهات عديدة ولربط الصلة بينها وبين عديد الأشياء . فهو يتناول مثلا موضوع المعمار لا على مستوى الفضاء الخاص أي المنزل نفسه بل على صعيد الحيّ أي أنّه يموضع هذا الشكل ضمن حقل مقارنة مع مثيلاتها أو الأشكال المغايرة أو المختلفة عنه من ناحية ويتناوله من ناحية أخرى خارج النموذج اللغوي الوفيّ لألسنيّة دي سوسير ضمن العلاقة الضرورية بالتواصل الحاصل بين محتلّي أي مستخدميّ الفضاء المديني أو ” خلق فضاءات للتواصل ” (5) .
——————
مثل بحوث وأعمال كلّ من مافيزولي و لوفافر و إدوارد هال .ـ1
2- Merlin ( P ) Choay ( F ) : Dictionnaire de l’urbanisme et de l’amenagement ; paris puf ; 1988 ; p 269 .
3- Lefevre ( H ) : La production de l’espace ; éd Anthropos ; 1974 ; p 14 .
4- Ferrier ( J.L ) : Semiotique de l’éspace ; paris Denoel gouthier ; 1979 ; p 213 .
5- Ibid ; p 193 .
يدفع ديلاهاوس التحليل أبعد ليقارب دلالة الفضاء التي يحتكم عليها وإليها الفاعل بعبارتنا أو مستعمل الفضاء بعبارته ، عبر التأكيد على ضرورة تمثّل التحليل لهذه الدلالة في حضور أو وعي أكيد بعنصر الصلة الإجتماعية . على أنّ تعقّل هذه الصلة يتمّ في منظوره وجوبا في إطار خاص ألا وهو إطار التفاعل والتواصل أو التبادل الإجتماعي للدلالات بين شاغلي الفضاء موضوع التحليل , فكلّ شيء يتكيّف مع تصرّفنا فيه : مع توظيفنا أي إستعمالنا له الذي يضفي عليه دلالته , فالفضاء ـ أيّ فضاء ـ لا يحتمل إعتباره مشهدا وبالمثل لغة ولا يشتغل كنظام أو مدوّنة رمزيّة يستدعي تأويله إستيعاب هذه الشفرة . فكلّ فضاء مثلما يستمدّ دلالته من إستعمال شاغل له ، يقرأ أيضا عبر هذا الإستعمال , وهو ما يخرج ، في نظرنا ، سيميائية الفضاء من سجنها السيسوريّ الألسني الذي تنخرط فيه معظم المقاربات السيميائية لموضوع الفضاء ويضفي علبها بعدا سوسيولوجيّا . فهذه المقاربة لا تقصي الفاعل عن موضوع فعله ولا تموقع موضوع الفعل خارج فاعله أي خارج الإستعمال الذي يمثّل في منظورنا وحدة التحلبل الأساسية والضرورية لفهم الفضاءات المدينيّة ومشكلة التغيّر والمقاومة والرفض وكلّ المشكلات المدينيّة في مدن اليوم (1) التي تشهد تداخل أو حضور التقليدي ضمن الحديث والحديث ضمن التقليدي (2) . تعطي مقولة الإستعمال شرعية لحضور البعد الرمزي للفضاء وبالتالي المخيال والذاكرة الجماعية ، لا تتأكّد إلاّ مع إستدعاء أو موضعة ضرورية للتحليل ضمن سوسيولوجيا المعيش اليومي .
لا تتمظهر هذه الممارسة الإجتماعية التس هي مرجع التحليل السيميائي للفضاء لدى ديلاهاوس وتابوري ، إلاّ عبر إيديولوجيا معطاة لدى فايري . فهي بهذا المعنى لا تتمظهر إلاّ عبر منظومة تمثّل أي منظومة معنى . تصبح ، من هذا المنطلق ، وجهة التحليل السيميائي لديه دراسة الفضاء لا عبر هذه الممارسات التي تتمّ داخل الفضاء بل أساسا عبر التمثّلات والمعاش . معنى ذلك أنّ دلالة علامات الفضاء لا تتأتّى في منظوره من إستعمال الفاعلين الإجتماعيين للفضاءات التي يشغلونها ويتحرّكون ويتصرّفون ضمنها وعبرها داخل المدينة وبالتالي مع ذواتهم والآخرين في منظورنا ولا تتأتّى أيضا من المعنى اللفظي (3) ، بل هي بالأساس تعبيريّة (4) .
يطوّر قرايما سيميائية تستدعي علما فرعيّا من علم الرياضيات يعنى بدراسة موقع الشيء الهندسي لا بالنظر الى شكله أو حجمه هو بل بالنظر إلى الأشياء الأخرى وهي الهندسة اللاكميّة { التوبولوجيا } . ينعكس الفضاء في هذه السيميائيّة التوبولوجيّة كشكل وبالتالي بناء (5) يحيل إلى خلافه أي إلى ما ليس هو ويعرّف بالنظر إلى الإمتداد . فمقاربة مكان ما يقتضي ، في هذا التمشّي ، موضعته في قبالة مكان آخر وبالتالي فإنّ تعريف هذا المكان لا يحصل إلاّ بما ليس هو . فالـ { هنا } يعرّف بالنظر { للهناك } والمقدّس بالنظر إلى المدنّس والخاص بالنظر إلى العام والداخلي بالنظر إلى الخارجيّ والأعلى بالنظر إلى الأسفل ، إلى غير ذلك من المقابلات التي تميّز جدليّة البوميّ لدى لوفافر (6) والإزدواجيّة محور أيّ مقاربة للحياة اليومية لدى مافيزولي (7) .
—————————————————————————————-
1- Ledrut ( R ) : Sociologie urbaine ; paris puf ; 1968 ; p 55 .
2- Bouchrara zanned ( T ) : symboliques corporelles et espaces musulmans ; cérés ; 1984 ; pp 122-131 .
3- يحدّد فياري 3 كيفيات لتعريف معنى الفضاء : عبر وظيفة الإستعمال أو المعنى اللفاظي أي الدلالة التي تعطيها لعلامات معيّنة لها وجه دالّ معيّن أو عبر القوّة التعبيريّة للفضاء
4- Ferrier ; op ; cit ; p 199 .
5- Ibid ; p 12 .
6- Lefevre ( H ) : Critique de la vie quotidienne ; éd l’arche éditeur ; 1961 ; pp 45 – 50 .
7- Maffisili ( M ) : Logique de la domination ; paris puf ; 1976 ; pp 80 – 82 .
فالفضاء في المفهوم السيميائي التوبولوجي لا يدلّ على نفسه بل على غيره ـ على شيء آخر عداه ـ أي الإنسان الذي يشغله . معنى ذلك أنّ الفضاء كشكل هو لغة فضلئيّة تحيل الباحث إلى ما هو غير فضائي مثل اللغات الطبيعيّة . يصبح ، من هنا ، التحليل عمليّة وصف وإنتاج وتأويل لهذه اللغات الفضائيّة . وتقتضي كلّ دراسة توبولوجيّة إنتقاء ـ قبل أيّ شيء ـ نقطة الملاحظة . وتعتمد هذه الخطوة على عمليّة تمييز أو تفريق ضروريّة بين بعدين : مجال التعبير ومجال المعبّر عنه أى بعبارة أوضح بين الدالّ والمدلول . وتتمثّل الرحلة الموالية في التحديد الدقيق لنماذج أو كيفيات توافق هذين البعدين . على أنّ اللغة الفضائيّة تعني لدى قرايما أو التحليل السيميائي التوبولوجي ، أي الفضاء ، لغة يدلّ بها المجتمع عن نفسه لنفسه .
تقارب ، إذا ، السيميائية الفضاء كمنظومة علامات في إستناد واضح الى مقولة الإستعمال أي الإستخدام الذي يقيمه الفاعلين الإجتماعيين لفضائهم كما لدى أوستروفتسكي ، أو في علاقة بمقولة التواصل بين شاغلي الفضاء المديني لدى تابوري . وتتناول السيميائية أيضا دلالة الفضاء من زاوية الممارسة الإجتماعية في علاقة بالصلة الإجتماعية ضمن إطار التفاعل والتواصل أو التبادل الإجتماعي كما في إتّجاه لاهاوس . يتناول التحليل أيضا الفضاء عبر منظومة تمثّلات أي معنى حسب فايري الذي يعتبر دلالة الفضاء لا تتأتّى من الإستعمال بل من قوّته التعبيريّة . معنى ذلك أنّ التحليل السيميائي يدفع نحو الإتّجاه أساسا الى التمثّلات والمعاني . إلاّ أنّ ما لم نفهمه في النظرية الفايرية حول الفضاء هو كيفية ريطه دلالة الفضاء من ناحية بالممارسة الإجتماعية للفضاء وإعتبار أنّ هذه الأخيرة تتمظهر منظومة تمثّل أي منظومة معنى ورفضه فهم الفضاء عبر الإستعمال من ناحية أخرى . يبدو هذا غريبا ، إلاّ إذا كان فايري يقصد بالإستعمال لا إستعمال الفاعلين للفضاء الذي يحتلّونه والذي عبره يقرأ الفضاء ، لأنّه عبر الإستعمال يتحدّد وينكشف معنى الفضاء وتمثّل الفاعل الإجتماعي له . فالتمثّل والإستعمال لا يتموقعان في إتّجاهين لا يمكن لهما الإلتقاء بل يتلازمان ويتنافذان بإعتبار أنّ الممارسة الفضائية هي جانب من الجوانب التي تشكّل تمثّل الفاعل لفضائه الذي يتعاطاه بعقله ووجدانه وواقعيّته وأحلامه وخياله وبذاكرته الجماعية التي توصله وتشدّه عبر الفضاء بالجماعة المرجع تدلّه عليها عبر الفضاء الجماعي . ونقصد بالفضاء الجماعي لا المشترك بالتواجد بل بالتصوّر والممارسة والإستعمال .
يرتبط تشكّل صورة الفضاء لدى الفرد بما يسميه رينولد بفضاء النشاط أي بالمعرفة المباشرة والشخصية في إرتباط بأنشطته اليوميّة . من هنا تتغاير وتتعدّد صورة الفضاء بين شاغلي الفضاء المديني الواحد . فحركة الجسد ـ الدلالية والرمزية يالأساس ـ ترسم جغرافية المكان في ذهنه وهو ما يحيل الى مفهوم الجغرافية الذهنية كأهمّ المقولات الواجب إعتماد التحليل عليها لفهم وتعقّل علاقة الذات الإجتماعية بالفضاء خارج التعميمات السلبية . فالممارسة الفضائية لمجتمع ما تفرز فضائه لدى لوفافر . فهي تطرحه ” وتقترحه في تفاعل جدليّ : تنتجه ببطىء وثبات في الوقت الذي تسيطر عليه وتتملّكه ” (1) . ويتطلّب فهم الممارسة الفضائية لمجتمع ما فكّ رموز فضائه / فضاء التمثّل أي المعاش عبر الصور والرموز . هذا الفضاء لديه ” يقنّع الفضاء الماديّ بإستعمال أشيائه رمزيّا ” (2) . يتماثل الفضاء المتصوّر أي تمثّل الفضاء ” المعاش الفضائي والمدرك بالمتصوّر ” (3) . فلوفافر يتناول الفضاء الإجتماعي ضمن مثلّث المعاش أي : فضاءات التمثّل والفضاء المدرك أي ممارسة الفضاء والمتصوّر أي تمثّل الفضاء مثلما نجد أنّ تناوله للممارسة الفضائية يقاربها في علاقة مباشرة بإنتاج الفضاء . فالناس ينتجون حياتهم وتاريخهم ووعيهم بعالمهم عبر وداخل فضائهم الذي هو في فكره مادّة ولكنّه أيضا أداة للتفكير مثلما للفعل ووسيلة للإنتاج والمراقبة وبالتالي الهيمنة والنفوذ .
——
1- Lefevre ( H ) : La production de l’éspace ; éd Anthropos ; 1974 ; p 48 .
2- Ibid ; p 49 .
3- Ibid ; p 49 .
تونس