الاقتصاد الأميركي ينهش اقتصادياتنا رغم انكماشه
منسق مركز التنمية البيئية والاجتماعية
استطاع اقتصاديو الولايات المتحدة عبر تغلغلهم في مجمل الاقتصاديات العالمية، وخاصة بعد اعتمادهم مفاهيم الاقتصاد المفتوح المرتكز على الشركات المتعددة الجنسية، أن يبنوا إمبراطورية مالية يصعب السيطرة عليها نتيجة الكتل المتشاركة بها سواء أكانت حكومات أو أفراد أو أسهم لشركات تسيطر على ثروات معينة في مجمل العالم…
هذا الأمر جعل من كل المحللين الماليين والاقتصاديين يتشاركون استفهامهم، وتخوفهم من أزمة العقارات التي رمت بالاقتصاد الأميركي لمراتب ما كان ليحلم بها أكثر المتشائمين تجاه هذا المشروع الذي شكل عامل جذب استثماري، للمواطنين البسطاء.
أزمة العقارات:
ترددت في الأوساط الأميركية وخاصة الشعبية منها من الطبقة الوسطى مقولة “شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار” في حين أن الأنشطة الأخرى بما فيها التكنولوجيا الحديثة معرضة للخسارة، كما حدث عام 2000، وتسبب هذا الأمر بخسائر فادحة للمتعاملين بسوق الأوراق المالية “البورصة”. فما كان من الأميركيون أفراداً وشركات إلا وأن يهموا على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار الطويل الأجل أو المضاربة. واتسعت التسهيلات العقارية إلى درجة أن المصارف منحت قروضاً حتى للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة.
استمر هذا التوجه المصرفي حتى صيف 2007. حيث هبطت قيمة العقارات ولم يعد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة. وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيتهم العقارية وأصبحوا مكبلين بالالتزامات المالية عاجزين عن سدادها. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة وأعلنت شركات عقارية عديدة عن إفلاسها. وبطبيعة الحال تأثرت أغلب أسواق الأسهم المرتبطة بسوق العقارات، مؤدية في المحصلة لتأثر اقتصادي سلبي عام، هدم أركان التخمين لسوق الأسهم وفي مختلف القطاعات والشركات. مما بين ارتفاع معايير الكساد في الاستهلاك اليومي والمحلي في الولايات المتحدة، ورغم كل وسائل الترويج الإعلامي، وحركة التخفيضات على السلع في الأسواق الأميركية، شهد هذا العام أسواق متهدمة الأركان، مقارنة مع نظيراتها في الأعوام الماضية، ورافقها غلاء شبه عام بالمنتجات الاستهلاكية الرئيسية من طعام ومواد تموينية، نتيجة لموجة الغلاء العامة التي أصابت العالم، من ارتفاع أسعار المواد الخام “النفط، القمح…”.
ونتيجة لهذا الواقع سعت الإدارة الأميركية لتخصيص 150 مليار دولار من خلال خطة حوافز مالية تتضمن إعفاءات ضريبية مدتها سنتين منها 100 مليار للأفراد و 50 مليار للشركات. يهدف هذا الإجراء إلى زيادة الاستهلاك لتنشيط الاقتصاد. لكن واقع الحال هذا المبلغ لا يغطي سوى 1.5% من الديون الفردية العقارية ،و 0.3% من ديون الشركات وبالتالي لا يكفي لمعالجة الأزمة مما يفسر استمرار هبوط المؤشر العام في البوصات العالمية بعد إعلان هذه الحوافز المالية. كما أجرى البنك المركزي الأميركي تعديلاً على أسعار الفائدة قدره 0.50 % لتصل النسبة إلى 3%. ويهدف هذا الإجراء إلى تسهيل اللجوء إلى القروض المصرفية للاستثمار وحث الأفراد على زيادة الإنفاق.
ودخلت الولايات المتحدة في دوامة الأزمات المالية التي تستوجب في كل مرة تقليص سعر الفائدة وسيفقد البنك المركزي أحد أهم أدواته لمعالجة هبوط قيم الأسهم عندما يصل سعر الفائدة إلى الصفر. وكان سعر الفائدة الأميركية في عام 2007 بمقدار 4.2% ونسبة التضخم 3.2% أي أن السعر الحقيقي للفائدة إيجابي وقدره 1% وفي مطلع عام 2008 وبسبب الأزمة المالية الأخيرة انخفض سعر الفائدة إلى 3% وارتفع معدل التضخم إلى 4.1% ليصبح سعر الفائدة الحقيقي سلبياً قدره – 1.1%. .
السياسة الأميركية الاقتصادية:
وصلت الديون الفردية الأميركية الناجمة عن الأزمة العقارية لقرابة 6.6 تريليون دولار أي ما يعادل إيرادات النفط في المملكة العربية السعودية لمدة 55 عام، وهذا أمر لا يبشر الساعين من الإدارة الأميركية للاعتماد السابق على زيادة أسعار براميل النفط الذي تستثمره في الخليج العربي، أو في بعض دول بحر قزوين كقرقيزيا أو أوزبكستان أو أذربيجان…
فرغم السياسة الاقتصادية الأميركية الساعية لوصول برميل النفط لقرابة 100$ “وصل في بورصة نيويورك ل 111$ أواسط شهر آذار” لن يكون هذا التوجه عنصرا ناجعا في حل الأزمة الاقتصادية الأميركية، لا بل قد يزيد هذا الأمر من حجم العداء الاقتصادي للدول الأوروبية تجاه الاقتصاد الأميركي، التي ستباشر بدورها في حملة تبشير لضرورة استبدال عملية التداول باليورو بدلا عن الدولار في الدول النامية ، مستعينين بتجربة شافيز في فانزويلا ونجاد في إيران.
مما جعل الساسة الأميركيين يعززون نهجهم بساسة زرع الولاءات والسيطرة العامة على القرار الدولي من خلال التدخل العسكري المؤازر للسياسة الاقتصادية الأميركية، فالاحتلال الأميركي للعراق، يطرح مشروع طويل الأمد لعملية الاستنزاف المالي بحجة مشروع إعادة إعمار العراق، وعملية الإنفاق التي يشرف عليها الأميركيين، كما أن مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا يضعف من مفهوم سيادة القرار الأوروبي في حال سعت دول الاتحاد الأوروبي لتقليص نفوذ الدولار عالميا.
كما أن مشروع أنابيب الغاز المارة من بحر قزوين نحو جنوب شرقي آسيا عزز من مفهوم تواجد قوات شمال الأطلسي بالتوجه الأميركي، وللشركات الأميركية الفاعلة فيه. من هنا ندرك حقيقة السياسة الأميركية المرتكزة على مشاريع اقتصادية داعمة لاقتصادها.
إلا أن سياسة الاستنزاف المالية التي تنتهجها مشاريع المقاومة في أفغانستان أو العراق، قلصت من الحلم الأميركي الاقتصادي الذي اعتمدته سياسة الصقور، مؤدية لتراكم خسائر مالية، نشاهدها بوضوح على الشاشة الالكترونية العملاقة في جزيرة منهاتن التي تبين حجم الديون الأميركية الكبير، بعد أن كانت هذه الشاشة بمثابة فخر لعموم الأميركيين زمان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون، الذي قلص من الحروب معتمدا على سياسة التسخير الاقتصادي وتنشيط الاستثمارات…
الانكماش الأميركي يهدد اقتصادياتنا:
لم يسجل الميزان التجاري الأميركي منذ السبعينات أي فائض بل تزايد العجز سنوياً ليصل في عام 2006 إلى 758 مليار دولار. كما أن عجز الميزانية استمر بالارتفاع ليصل عام 2008 لمبلغ 410 مليار دولار أي 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تميزت فترة السنوات السبع للرئيس بوش باعتمادها سياسة الحروب نحو الإنفاق من الواردات الضريبية بدلا من السياسة الهادفة لدعم خزينة الدولة وتخفيض المديونية التي ارتفعت حسب إحصائيات وزارة الخزانة الأميركية من 4.3 تريليون دولار في عام 1990 إلى 8.4 تريليون دولار في عام 2003 وإلى 8.9 تريليون دولار في عام 2007. وأصبحت هذه الديون العامة تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد يفاجئ البعض حين يعلم أن هذا الرقم يماثل ثلاثة أضعاف مديونية دول العالم النامي مجتمعة.
ولا يتوقف ثقل المديونية الأمريكية على الإدارات الحكومية بل يشمل الأفراد والشركات أيضاً. فقد بلغت الديون الفردية 9.2 تريليون دولار منها ديون عقارية “6.6 تريليون دولار”، أما ديون الشركات فتحتل المرتبة الأولى من حيث حجمها البالغ 18.4 تريليون دولار. وبذلك يكون المجموع الكلي 36 تريليون دولار أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. هذه الديون وفي ظل غياب سياسة اقتصادية ناجعة أرخت عصر الكساد الاقتصاد العالمي.
الولايات المتحدة أكبر مستورد في العالم حيث بلغت وارداتها السلعية 1919 مليار دولار أي 15.5% من الواردات العالمية “حسب إحصاءات التجارة الخارجية لعام 2006 الصادرة عن منظمة التجارة العالمية”، مما يؤدي لتأثر أسواق المال في جميع بلدان العالم قاطبة. فعلى أثر هبوط المؤشر العام في بورصة ول ستريت الأميركية انخفض المؤشر العام في بورصة باريس ل6.8%، و5.4% في لندن، و5.3% في شنغهاي، و قرابة 9.1% في دبي…
هذا وقد حمل تقرير «وضع الاقتصاد العالمي وآفاقه في 2008» للبنك الدولي معلومات تفيد : بأن حصول تباطؤ في القوة الاقتصادية الأكبر في العالم سيوجه ضربة قوية إلى العديد من الدول الفقيرة، لأنه سيؤدي إلى بطء التجارة العالمية ووضع حد للصعود الصاروخي لأسعار المواد الأساسية التي استفادت منها تلك الاقتصاديات في السنوات الأخيرة». ويشير التقرير إلى أن اقتصاديات اليابان وأوروبا الغربية لن تتمكن من تعويض هذا التباطؤ. وأضاف «أن عدوى الانكماش في الاقتصاد الأميركي ستقضي على نمو صادرات اقتصاد الصين واليابان وأوروبا، التي ستقلص بدورها طلبها على منتجات الدول النامية». ومن هنا توقعت الأمم المتحدة أن النمو العالمي سيشهد تباطؤا ولن يبلغ إلا 3.4 % هذا العام، مواصلا ميله إلى التراجع، حيث كانت نسبته 3.9 % في 2006 ثم 3.7 % في 2007.
ومن هنا نتساءل ما هو أثر الانكماش الاقتصادي على واقع الدول العربية ومنها سوريا، وكيفية استعداد حكوماتها لتقبل هذا المتغير الكبير.
حكومة المملكة العربية السعودية سعت لزيادة تسلحها، موفرة على الإدارة الأميركية صفقة مالية جيدة هذا الصيف، كما أن الحكومة الإسرائيلية تزامنا مع زيارة ديك تشيني ورئيسة الوزراء الألمانية قامت على شراء أسهم كبيرة بالدولار دعما للاقتصاد الأميركي، وبدورهم رجال أعمال سعوديين قاموا على شراء أسهم كثيرة من مصارف كبرى كمصرف المدينة city Bank معززين ثقتهم بالأسواق الأميركية. هذا التوجه وعلى الرغم من إنقاذه الكبير، لن يمثل سياسة اقتصادية ناجعة تنقذ الاقتصاد العالمي من الانكماش ومن هنا جاءت المقولات المتكررة نحو ضرورة فك الارتباط بالدولار عند بعض الدول، حماية منها لاقتصادياتها، إلا أن هذه الإجراءات قد تؤدي في حال التعنت الأميركي لنهجها الحالي، للوحة صراعات عسكرية ستدور رحاها لتعنون عنوانا عريضا هو حرب عالمية جديدة، الخاسر الوحيد فيها هو الشعوب.