حوار مع المفكر أنطوان مقدسي
ينتمي انطون المقدسي الى كبار المثقفين. العرب. وقد أمضى مسيرة زادت على ستين عاما في قلب الفكر والثقافة العربيين أستاذا وموجها ومشرفا على تربية أفواج من المثقفين العرب الذين توزعوا في مختلف البلدان والمهاجر العربية، وهو علم معرفي وثقافي في علاقة العرب مع الغرب من خلال خوضه في ثقافة الغرب وفكره، ولاسيما عبرا للغة الفرنسية كذلك من خلال دوره المميز في مجال الترجمة. ومنذ أكثر من ثلاثين عاما متصلة أشرف – في اطار اهتماماته بالفكر والثقافة – على برنامج الترجمة والتأليف في وزارة الثقافة السورية والتي أصدرت ترجمات مئات من الكتب الصادرة بمختلف اللغات: الانجليزية والفرنسية، والألمانية والروسية.. ووضعتها في خدمة القاريء العربي في سوريا وفي خارجها.
توقفنا مع الأستاذ انطون المقدسي في دمشق، وأجرينا معه حوارا موسعا حول الترجمة وتجربته في هذا الميدان، وتوالت الأسئلة والأجوبة تباعا:
* بعد كل هذه التجربة العريضة. كيف يرى انطون المقدسي الترجمة؟
– للترجمة وجهان: ثقافي وتجاري. متلازمان ومتواجدان في كل عملية ترجمة ولكن بنسب متفاوتة.
ووجهان آخران – روتيني وابداعي – ايضا متلازمان ومتواجدان بنسب متفاوتة، يقوم الأول على أداء كل عبارة كل كلمة،كل فقرة، من النص الأصلي بمثلها في اللغة المترجم اليها، والثاني بصورة خاصة عند الترجمة من اللغات الحية الأوروبية – الاسبانية – الفرنسية – الانجليزية… الى اللغة العربية.. فتلك، وإن كانت متعددة الأصول، فقد أعطتها اللغتان اللاتينية واليونانية صورتها الراهنة، في حين أن اللغة العربية، وبالرغم من كل ما أضيف اليها ما طرأ عليها من تبدلات، طوال تاريخها الممتد على أكثر من خمسة وعشرين قرنا، وما تزال محافظة حتى اليوم والى ما شاء الله على أصولها السامية.
* كيف قوى أهداف الترجمة في ضوء تجربتك؟
– تلبي الترجمة ثلاث حاجات رئيسية من حاجات الانسان المعاصر: الأولى حاجة القارىء الثانية حاجة اللغة المترجم اليها، الثالثة حاجة المرحلة التي نجتاز.
نقلت صيف عام 1965 الى مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة بدمشق، وأفهموني فور وصولي أن مهمة المديرية، هي بالدرجة الأولى تلبية حاجات (الثقافة الشعبية) فكل كتاب يعد للنشر،مترجما كان أم مؤلفا، يجب أن يكون في مستوى الانسان العادي، وكنت كلما اقترحت كتابا للترجمة يعاد الي عموما مع عدم الموافقة لأنه يتجاوز المستوى المطلوب.
قلت بعد عام من الأخذ والرد: إن الطالب الجامعي، على ما أعلم من التجربة المتكررة، لا يقرأ إلا الكتاب المقرر، وربما الكتاب الذي يطلب منه المدرس قراءته.. فما بالك بالفلاح والحرفي وصاحب الحانوت وبائع الحمص والفول والفلافل؟.. لقد استنبطوا في الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية – يوم كانت ما تزال حية – وسائل شتى لتشجيع العمال على القراءة وكانت حقا ناجحة إلا أن تكاليفها كانت باهظة لا تتحملها إلا الأمم المترفة وهذه لا حاجة لها بها، فالمدرسة والتعليم الالزامي للجميع أقله الى الخامسة عشرة تؤهل المواطنين كهم ليكونوا قراء كل منهم للكتاب الذي يحب، ومن ثم فإن التليفزيون المعمم والاعلام العالمي يعيد النظر اليوم جذريا في وضع الكتاب وقاريء الكتاب.
في السبعينات كنت قد تمكنت من نشر بعض الكتب المترجمة رفيعة المستوى – بينها كتيب عن هيجل، هو واحد من كتابين أجبرت الوزارة على اعادة طبعهما، ولاحظت أن قراءنا نخبة من الكتاب والشعراء والباحثين والصحفيين.. سيزداد عددهم مع الأيام – هؤلاء وغيرهم من المثقفين، يقبلون عفويا على اقتناء كتبنا، ويؤثرون منها المترجم عن المؤلف بحوثا كانت أم روايات عالمية لسبب يصير اليوم حاجة شبه ملحة ومطلبا أكاد أقول حياتيا، الا وهو التعرف على حضارة الآلة ومستلزماتها وبالفعل فإن الكمبيوتر يصير اليوم عند الشباب من واقع الحياة اليومية.
فما الكمبيوتر؟ ما الذاكرة الالكترونية؟ ما المعلوماتية؟ والسير على سطح القمر أو الصعود الى المريخ… ما تأثير كل ذلك عن اقتصادنا وسياستنا.. ما موقفنا نحن العرب. من العالم؟ أليس الكتاب المترجم الأحدث والأدق توثيقا هو الذي يجب عن الأسئلة هذه، وقد صارت من صميم حياة الانسان المعاصر. إلا أنه يفتح آفاقا للفكر مبتكرة حقا ويحرض على طرح المشاكل.. وبالنتيجة يقحم القاريء في قلب أسئلة نهاية هذا القرن، السياسية منها والاقتصادية الثقافية والاجتماعية، واذا كانت المكتب التي تنشرها الوزارة مثل نقد الحداثة، نهاية الحداثة، الخروج من القرن العشرين، تكاد تنفد في الأشهر الأولى من طرحها في السوق فلأنها تلبي حاجة حقيقية لدى القاريء
واذا كانت الأمم الأكثر تقدما في العالم هي حيث الترجمة تكاد تغطي في كل منها أغلب ما يصدر من كتب في العالم، قل إذا كان هذا العصر هو عصر الاعلام المعمم والترجمة المعممة، فلأنه هو أيضا عصر الحوار بين الحضارات بين الثقافات بين الوحدات السياسية والاقتصادية المختلفة من أجل تخطى الصراعات الداخلية والخارجية التي تصير هي اليوم من وقائع الحياة اليومية.
* أين مكانة الترجمة في المشروع الثقافي العربي؟
– ليست الترجمة للترجمة كما يقال الفن للفن والشعر للشعر، أو ليست غاية بذاتها، بل هي من أجل أغراض أخرى تعرفنا الى بعضها، وليست أيضا من أجل الثقافة الشعبية، كما توهموا وحاولوا ايهامي، باديء الأمر، بالاستناد الى أيديولوجيا قد لا تخلو من غوغائية، الثقافة الشعبية مشروع قائم بذاته وله مستلزماته، تشترك في تحقيقه مؤسسات كثيرة منها المدرسة الابتدائية المعممة، وإدارة محو الأمية، وخدمة العلم الالزامية. ومسلسلات التليفزيون.. وكتب العلوم المبسطة، بالاضافة الى الروايات والقصص المؤلفة أو المترجمة التي تصدرها وزارة الثقافة.
الثقافة الشعبية حلقة من حلقات مشروع ثقافي فتعدد الحلقات والأوجه، هدفه تكوين مثقف متفاعل مع حضارة الانترنيت وحرب النجوم، وفعال ضمن حدود بلاده، فالتخلف مستمر الى ما شاء الله بسبب أنه لا يوجد بلد متخلف واحد حاول التفكير بوضع مشروع من النوع الذي ذكرت.
ليس هدفنا، في مديرية التأليف والترجمة عندما نترجم كل عام عددا محدودا جدا من كتب الفلسفة، الفلسفة ذاتها فهذه من اختصاص الجامعات المتكاثرة في الوطن العربي والتي سيمضي زمن طويل جدا قبل أن تجعل من الفلسفة بعدا من أبعاد ثقافتنا، هدفنا نحن هو الاسهام في تحقيق ثلاث مهام مرتبطة بفعل الترجمة ذاته:
– المهمة الأولى هي الاسهام في جعل اللغة العربية أكثر مرونة وانفتاحا بحيث تقول حضارة التحليل ولفته دون أن تفقد شاعريتها عندما يكون ذلك ممكنا.
– المهمة الثانية هي محاولة ضبط ترجمة ودلالات المفردات – المقولات المستحدثة التي تنقلها عن الغرب في ترجمات أقل ما يقال فيها أنها مرتجلة. من هذا القبيل ترجمة كتاب يورغن هالبرماس (القول الفلسفي للحداثة – ترجمة د. فاطمة الجيوشي) فهو مجمع غني بمثل هذه المفردات.
– المهمة الثالثة هي التعريف بمشكلة واهنة من المناسب أن يطلع المثقف العربي على بعض من معطياتها الدقيقة، ومنها (العقل في القرن العشرين. ت. د. فاطمة الجيوشي) وفيه حاولنا الجواب عن سؤال: ما العقل في عصر تفجير الطاقات البشرية والطبيعية اليوم، ثم (العلم والتقنية) سألنا عنها هايدغر في أربعة نصوص متكاملة ترجمة د. فاطمة الجيوشي عن الفرنسية، وهايدغر في بحثه عن ماهية العلم وعن ماهية التقنية يرى مثلا أن العلم لم يعد ملاحظة تستدعي فرضيته، وهذه قد تصير قانونا، كما كنا نظن لسنوات قليلة خلت، بل هو فعل عنيف، به يصادر العقل الشيء الطبيعي، كما تصدر السلع المهربة في عرض البحر ويتحداه – وقد يفجره- ليضعه في خدمة الانسان، حيث قد يتكشف عن حقيقته.
إذا فرضنا وجود مشروع ثقافي عربي، فلا يمكن أن يكون اسهام وزارة الثقافة السورية فيه إلا بنشر الكتب التي تعدها مديرية التأليف والترجمة، ومنها في الأسواق اليوم (نقد الحداثة) ترجمة: صباح جهيم (نهاية الحداثة) ترجمة: فاطمة الجيوشي (حركة الحداثة) ترجمة: عيسى سمعان (الخروج من القرن العشرين) ترجمة: انطون حمصي (تاريخ الايديولوجيات) 3 مجلدات ترجمة: د.انطون حمصي وحوالي عشرين كتابا من علم النفس التحليلي (عقدة أوديب الحصر والقلق – التحليل من فرويد الى لاكان..) نقلها الى العربية ببيان مشرق وجيه أسعد.
وربما أن (المحاكاة – رؤية الغرب للعالم – فريرباخ) نقل المتن عن الالمانية محمد جديد والنصوص من العصر الوسيط والشواهد اللاتينية الكثيرة، الأب رفائيل خوري، هو الأخطر شأنا بين ترجمات مديرية التأليف والترجمة لهذا الموسم. وقد كلفها اخراجه بشكله النهائي أربع سنوات من الجهد. والهام فيه هو أن دراساته العشرين فيها من الدقة والاحكام ما يرفع الدراسة الأدبية الى مستوى الدراسة الفلسفية.
* ما الأركان التي تقوم عليها الترجمة؟
– تقوم الترجمة على ثلاثة أركان: المترجم، الناشر، الهيئة التي تختار النصوص وتشرف على الترجمة، الثلاثة واحد عند التاجر الناشر، كما أن كل انسان في بلد متخلف يحتل مركز المسؤولية، لسبب أو لآخر، يعطي لنفسه الحق بالتوجيه واصدار الاوامر، المترجم واحد من فعلة الثقافة، مثله مثل الروائي والشاعر والمسرح.. وهو بينهم، في زعمهم، أدناهم مرتبة، هم مبدعون وهو (ترجمان وحسب) وينسون أن جل ما يعرفونه عن الحضارة الحديثة والمعالم، يأخذونه في أغلب الحالات عن الكتب التي نقلها (ترجمان) بدليل أن جل المخطوطات والكتب التي ترد سنويا بالعشرات الى وزارة الثقافة للنشر أو للتشجيع (شراء نسخ) مراجعها ترجمات مشكوك بدقتها في أغلب الحالات.
واذا انتبهنا الى أن كل ترجمة بمعنى ما تعريب – أي تجعل النص الأجنبي ينطق من موقع عربي – ندرك الدور الخطير الذي تلعبه الترجمة في ثقافتنا اليوم. الترجمة بتعبير أدق، أن تصير أنت أنا. أما أن أصير أنا أنت فهذه عملية أصعب.
فالثقافة إذا ما تأملنا فيها، تقع بين هذين الحدثين (أنا – أنت) ولا تتحقق إلا عندما أحول اللقاء الى علاقة دياليكتيكية.
المسؤول العربي في هذا كله كالأطرش في الزفة على حد المثل الدارج.
أن تسأل المترجم عن أحواله فلن تسمع إلا الشكوى والادانة والأحكام الطائشة. ومثله الكاتب المبدع والشاعر الملهم ودكتور الجامعة هم وبقية فعلة الثقافة.
الحق بجانبهم من وجه، فالناشر التاجر يعتبرهم من زبائنه حيث العرض يفيض عن الطلب، كما يعتبر ترجماتهم سلعا واحدة رابحة وخمسة كاسدة، أما عند المسؤول فهو من جملة المتسكعين على أبوابه،أسمع ما يقوله أحد الوزراء: علام تطلبون مني إغداق الأموال (كذا.) على ثلاثة، عمل كل منهم آلي أو يكاد يكون كذلك: العازف والممثل والمترجم، الأول يؤدي نوتة أمامه، والثاني يعيد نصا حفظه غيبا، والثالث يضع عبارة عربية مقابل عبارة أجنبية.
يروي أحد الفنانين التشكيليين أنه وضع لوحة جدارية كبيرة كلفته بها إحدى الوزارات لغرفة الضيوف، وتستلم الوزارة اللوحة وتعلقها ويطلب من الوزير أن يقدر مكافأة الفنان فيقول: احسبوا القماش ووزن الدهانات وساعات العمل وادفعوا.
قلنا: الفن والذوق والحساسية المرهفة كالعقل والمنطق والقدرة على تصور الجمال وتجسيدا.. قيم، والقيمة لا يعادلها أي ثمن مهما ارتفع.
المرجو الآخر للمسألة هو أيضا جدير بالاعتبار، فليسأل كل الذين ذكرت (المترجم والفنان والأديب) ومعهم دكاترة الجامعة لم نتصرف أحيانا تصرف التاجر الذي أخطأ الطريق، فالشعر والفكر يا سيدي، الأدب والترجمة والثقافة.. رسالة، المجاني بعد من أبعادها، فلم حولت رسالتك الى سلعة ساومت عليها التاجر والمسؤول، فبمقدار ما أن تؤدي رسالتك بأمانة وتضحي في سبيلها، بمقدار ما أن تسهم في بناء وطنك.. وتفهم بعض المسؤولين بالفعل ذاته أن السياسة هي أيضا رسالة وليست أداة تسلط على البشر.
ذلكم داء التخلف الرهيب: أخضع المجاني الذي به تنهض الشعوب وتزدهر، الى حساب مصالح، أقل ما يقال فيه أنه شحيح، وبالشح تموت الأمم.
* كيف تنظر الى الترجمة فى عصر العولمة؟
– يكتشف البشر في عصر العولمة أنهم، أفرادا و جماعات، يجهل بعضهم البعض الآخر.
كما أن الآلة المعممة، التي هي بطبيعتها نقض لكل تاريخ تجعلهم يكتشفون أنهم، أيضا أفرادا وجماعات، يجهل كل منهم ذاته التي هي تاريخية، وإن الأصوليات التي تصير اليوم شأن عقائد العالم، الدينية والمدنية أو العلمانية ليست إلا التأكيد على أن الماضي لا يتجاوز.. وإذا تجاوزته أو حاولت تجاوزه فهو يثأر لذاته منك بوسائل أحيانا مدمرة.
ليست الترجمة وحدها هي التي تحرضني على العودة الى الآخر والذات فثمة وسائل بعد أنجع منها في المباشر، أهمها تعلم اللغات الأجنبية وأيضا الاتصال المباشر، بوسائل شتى صارت شبه ميسورة لأغلب الناس. أضف السينما والتليفزيون والاعلام المعمم، فكلها تطوفني في ديار جيراني وأهلي العرب وفي الديار الأجنبية البعيدة عني والقريبة مني، فأعرف كم أن الانسان مختلف عن الانسان في المكان والزمان وقريب منه في الوقت ذاته.
ولا يمكنني مع ذلك، ولا يحق ل أن أتجاهل الكتاب المترجم، فله دور آخر قد يكون أحيانا أخطر شأنا من دور الوسائل التي ذكرت، أقول عنه أنه (تحليل) فترجمة (صخرة انطونيوس) لأمين معلوف أحادث الى ذكريات عهد الاقطاع الذي استدعى عند أبناء جيل الثورة من أجل يقظة الشعب، عسى أن يصير يوما سيد بلاده ومصيره فيقضي على جذور التسلط الذي كثيرا ما يستبيح أرضه، ثمرة عمله وحقه في الوجود الحر. قلت: أما نزال حقا في طريقنا الى هذه الثورة؟
كما أن ترجمة كتاب (من القرآن الى الفلسفة) لجاك لانغاد، (نقله من الفرنسية الى العربية وجيه أسعد) هي اليوم بمثابة استعادة لحوارنا ماضيا مع الفلسفة الاغريقية، فالمفردات – المقولات الفلسفية التي يكشف جان لانغاد عن أصولها بخاصة عند الفارابي، قد تشق أمامنا طريقا الى نقطة البداية في تكوين فلسفة عربية، ومن المؤسف أنه سيمضي زمن طويل قبل أن نشهد هذا البداية.
حوارنا مع الفلسفة يحيلنا الى حوار آخر أوسع وأشمل هو مع ماضينا القريب والبعيد. ولقد شكلت سلسلة (حوارات النهضة) التي أصدرها في وزارة الثقافة السورية محمد كامل الخطيب وفاضت أجزاؤها عن العشرين، محاولة من جملة محاولات أخرق لاستعادة تراثنا خلال الـ100عام الف الفائتة.
ولكن ماذا عن حوارنا مع ماضينا التاريخي الممتد على حوالي خمسة وعشرين قرنا: إن نشر التراث ليس هذا الحوار بل هو عادته، وحده الفكر يحاور عندما يحيط بأبعاده الموضوع المطروح ومعطياته يضعها أمامه ويستنطقها.
كان بإمكان تواريخ الأدب والدراسات الأدبية المتخصصة أن تنهض بهذه المهمة. ولكن من المؤسف انها، حتى في نماذجها الجيدة، لم تتجاوز كثيرا جورجي زيدان وطه حسين في حديث الأربعاء.
ولكن وبالمقابل فقد قطعنا خطوات لا يستهان بها في حوارنا مع الحضارة الحديثة مه الثقافات العالمية، وقد أشرت فيما سبق الى أن هذا الحوار هو اليوم بمثابة حاجة ملحة لدى العدد الأكبر من مثقفينا، ومن نماذجه الجيدة مشروح ترجمة المؤلفات الروائية الكاملة لبلزاك، ومثله ترجمة العديد من مؤلفات ماركيز وغيرا من اعلام الأدب والرواية في أمريكا اللاتينية، أضف مختارات من الرواية العالمية تنشرها وزارة الثقافة السورية الى جانب دور نشر كثيرة في لبنان ومصر وغيرها وتشكل كلها (مختبرا) فيه الآخر يقول لك من أنت. يضاف الى مختبر علم رواية النفس وعلم النفس التحليلي أقتصر من كل ذلك على مثالين يوضحان قصدي:
رواية بلزاك (أوجيني غرانده) فهي تجدد بمثال حي وبمعطيات القرن التاسع عشر صراعا قديما – حديثا، عولج وسيعالج بعشرات ومئات الأمثلة والنماذج ولن ينضب أبدأ، أقصد الصراع بين الخير والشر، ويأخذ في وراية بلزاك شكل التعارض المميت بين (البراءة) التي تجسدها (أوجيني) والمال الذي صار معبود أبيها (غرانده).
المثال الثاني من أفق مختلف جذريا عن الأول هو (المعجم الموسوعي لعلم النفس) في عدة أجزاء يصدر قريبا، فهو يضعك مع كل (مفردة) أمام مشكلة من مشاكل علم النفس، التي لا يمكن أن تحيط بها موسوعات العالم لا حاضرا ولا ماضيا ولا مستقبلا.
* المثقف والترجمة والمجتمع. هل من رؤية ملخصة في علاقة الثلاثة؟
– قبل كل حديث عن معركة أنسنة الانسان: ما دور المثقف في هذه المعركة؟ السؤال هذا يستدعي سؤالا، وهل نهض المثقف، هل ينهض اليوم بهذه المهمة؟
أمثلة من التاريخ العام: ففولتير وديدرو وروسو صاحب العقد الاجتماعي، هم وغيرهم من أمثالهم من كبار المثقفين، جعلوا قيام الثورة الفرنسية ممكنا.
عندنا، الطهطاوي، محمد عبده، فرح انطون.. هم صانعو نهضتنا، هؤلاء وغيرهم كانوا بمعنى ما مترجمين، عربوا حضارة الثورة الفرنسية والحضارة الصناعية أقصد جعلوها لحد كبير تنطق من موقع عربي. فالطهطاوي ترجم فور عودته من فرنسا، في الثلاثينات من القرن الفائت، الكتب , التي تربط الطالب العربي إذاك. بحضارة عصره، ثم أسس (دار الألسن) بالقاهرة التي ما تزال حية فعالة الى أيامنا – لتكوين مترجمين ليكملوا ما بدأ به هو. بعده قام د. شلبي شميل وتلميذه اسماعيل مظهر بترجمة وشرح فلسفة النشوء والارتقاء لـ “داروين”..
يبدو لي بالمناسبة أن الحضارة التي نعيش في إطارها اليوم. والتي أقول عنها إنها تكنولوجية مبرمجة، جعلت من الترجمة المعممة ظاهرة من الظواهر التي تتميز بها نهاية هذا القرن. فدور النشر العملاقة في المعالم التقدم تنقل بإشراف أدباء ومثقفين متخصصين، أكاد أقول كل ما ينشر في العالم من مؤلفات أدبية وفكرية وشعرية لها قيمة ما، ومنها (جائزة نوبل).
ومن المؤكد عندي أن ترجمة نجيب محفوظ وأدونيس وغيرهما من كتابنا المعاصرين الى اللغات الحية الكبرى، خدمت القضية العربية أكثر مما خدمتها مؤتمرات القمة كلها مجتمعة، فالأخيرة قامت بتسويات، أما أولئك فبرهنوا للملأ على أننا ما نزال قادرين على أن يبدع كل منا ومن موقعه، عالمه وعالما عربيا بمستوى نهاية هذا القرن.. إذا كان ما يزال في بلادنا مسؤول يؤرقه هذا المهم.
إن فيلسوفا من مرتبة جان هيبوليت. كون في (الكوليج دو فرانس) فلاسفة من أمثال جاك ديريدا وغيره، كان قد كرس حياته -جلها – لترجمة مؤلف هيجل المعروف (فينومينولوجيا الروح) وشرحه ومن هذه الترجمة انبثقت مؤلفاته ودراساته، والأمثلة من هذا النوع كثيرة، أفلا يحق لنا، والوضع العالمي على ما هو عليه، أن نسأل المسؤول العربي: علام تركت للمترجم ولبقية فعلة الثقافة نصيب (الجندي المجهول) وحسب؟
كثيرة نسبيا هي المؤسسات الثقافية العربية المشتركة، طليعتها الكسسو (اليونيسكو العربية) ومثيلتها الاسلامية. لقد جعلنا من الجامعة العربية فسحة تسويات مؤقتة لصراعاتنا السياسية. أما مؤسساتنا الثقافية، ففسحة (تنفيعات) لكل دولة بنسبة قدرتها على الضغط والمساومة.. والدفع. أما الثقافة فيها فعمليا مؤجلة، ومن مآثر احداها كانت وما تزال تقوم بصراع دونكيشوتي مع المصطلح، مآله مآل الثقافة الشعبية التي أشرت اليها في بداية هذا الحديث.
لثلاثين عام ونيف خلت، قلت لمسؤول رفيع المستوى في قاعة جعلها تغص بدكاترة الجامعة وأمثالهم، كان قد جمعهم لادانتي بسبب من تقاعسي عن الاهتمام بالثقافة الشعبية. قلت: كان لنا في غابر الزمان أجداد شأنهم شأن النسر لا يرضى أن يعيش الا على القمم. هؤلاء دشنوا رحلتهم الى الحضارة بالترجمة بدأوها بـ “كتاب العبارة” لأرسطو وأنهوها كترجمة بكتاب (السماع الطبيعي) أيضا لأرسطو. ومعلوم أن المأمون كان يدفع ثمن كل كتاب مترجم في هذا المستوى ثقله ذهبا، ولم يخطر ببال أحدهم إذاك طرح مشكلة المصطلح، كان العربي إذاك ينشيء ثقافة من مستوى الانسان ويبني حضارة تطور التاريخ الانساني.
أولئك كانوا في موقع النسر.. فأين هو اليوم موقعنا؟