الخِتان
استقبلني الطبيب بابتسامة مشجعة ، أخذّ نفسا عميقا ، شمٌّر قليلا عن أكمامه كمن يُعلمني أنه يوليني كامل اهتمامه . كبحت رغبتي بالضحك إذ تخيلت كم سأفاجئه بطلبي ، بالتأكيد يظنني مريضة . أحسست فجأة باضطراب شديد إذ نسيت المقدمة التي تدرٌبت عليها مرارا لبدء حديثي معه . لعله لاحظ ارتباكي فابتدرني قائلا :
أرجو أن تثقي بي ثقة مطلقة و أن تعتبرينني صديقا يفهمك ويساعدك ، لا ترتبكي ولا تخجلي فالمرض النسائي مثله مثل أي مرض.
كنت أعرف أنه طبيب أمراض النساء الأكثر شهرة في المدينة وبأنه يتمتع بأخلاق مهنية عالية ، عقصت شعري بملقط أخرجته من حقيبتي كعادتي دوما لشحذ تفكيري ، بدا وجهي مقروءا وصريحا في حضرة الطبيب . وضعت رجلا علي رجل كي أوهمه أني مسترخية ولست خائفة . قلت له منتبهة للهجة صوتي الغريبة عني :
في الواقع أنا لا أشكو من أي مرض نسائي ، إنما قصدتك لسبب آخر .
قال مبتسما ابتسامة مشجعة :
مهما كان السبب فأنا سأدعمك وأساعدك بكل طاقتي .
أشكرك ، قلبي حدثني منذ البداية أنك لن تخيٌب ظني وأنني سأجد مرادي عندك.
استأذنني ليشعل سيجارة قائلا : كلي إصغاء لك .
ياه … كيف نسيت السيناريو الذي حضٌرته ، اللعنة علي ذاكرتي كم صارت تخذلني ، لكني استجمعت شجاعتي المتهورة وقررت أن أقذف دفعة واحدة بالكلام الذي حاولت تزويقه .
أريد أن تجري لي عملية الختان .
جمدٌته جرأتي ، حلٌّ بيننا صمت م كهرب ، استدارت عيناه دهشة ، حدٌّقّ بي متشككا بما سمعه ، ابتسمت ، قلت له : لم تخطئ في فهم ما أرمي إليه .. أقولها مرة ثانية ، أريد أن أ جري عملية الختان .
سّحّب نفسا عميقا من سيجارته وقال وهو يتفحصني كأنه يبحث عن بذرة اضطراب عقلي : منذ ثلاثين عاما أمارس عملي كطبيب أمراض نساء ولم يسبق أن طلبت امرأة هذا الطلب ؟!.
وافقته مؤكدة : أعترف أنه طلب غريب .
هل لي أن أعرف أسبابه ؟
أتمني لو تعفيني من حديث موجع .
لكني لست آلة ، أؤمر بكذا فأنفٌذ ! .. أنا طبيب ومهنتي إنسانية قبل أي اعتبار ، إن شابة مثلك في عقدها الثالث ، متعلمة وناجحة في عملها ، جميلة و….
قاطعته : أعرف ما ستقول .. أنتّ تري طلبي غير معقول أليس كذلك ؟.. لعلك تظن أني مجنونة .
أبدا ، أبدا ، لكن أتمني لو نتحاور حول هذا الطلب اللاإنساني ، هذا الطلب _أقصد الخِتان¬ الذي لن يشوهك جسديا فحسب ، بل نفسيا ، ثم أظنك قرأت عن الآثار النفسية المؤلمة بل والكارثية لعمليات ختان الفتيات . كيف يعشن عمرهن بكآبة وألم و لا يشعرن بأية متعة علي الإطلاق … تلك المتعة التي هي مادة الحب ، وأصل التواصل بين المرأة والرجل .
التقطت طرف الخيط ، فدٌبت في الحماسة ، قلت له : أشكرك علي كلامك ، فأنا أعرفه واسمح لي أن أ كمل ما قلته لكن باتجاه آخر ، فحين تنعدم إمكانية الحب بين رجل وامرأة ، حين تتحول الحياة إلي انتظار طويل منهك للأعصاب ، لحبي لن يتحقق وأرجو ألا تسألني لماذا ؟ لأن الحياة معقدة وسريعة كدولاب يدور ويدور ، يطعن العواطف الرقيقة و لاتبقي إلا العواطف ، أقصد الغرائز الفظٌة كالحصي الباردة ، كنت أحس بألم وأنا أشرح ما بنفسي ، لكنني أعرف أن عليٌ إقناع الطبيب كي يختنني .
قال: الحب ، ليس له عمر معين ، وأنتِ لا تزالين شابة .
استأذنته بتدخين سيجارة محاولة أن أقنعه :
حاول أن تفهمني ، أرجوك … رغم أن كلامي يبدو أغرب من أن تستوعبه ، لا لشيء سوي لأنه غير مألوف ، لقد تعبت من حالتي ، من حالة التوق للحب ، لحب إنساني صادق منزٌه عن الأغراض ، لم يحصل ، وأعرف أنه لن يتحقق ، لقد عشت سنوات طويلة مسرفة في الانقياد لعواطف الحب والحنان ، لكني لم أجنِ سوي الوحدة العميقة الأشبه بالصقيع ، لا تنظر إليٌ بهذه الطريقة أرجوك ، لكأنك تقول لي أنه حين يكون في رأس المرأة أفكار كهذه فمن العار أن تعلنها ، أنا تعيسة رغم نجاحي في عملي ، تعيسة لأني أربط سعادتي وانسجامي النفسي والعاطفي بالحب .. بالرجل الحلم . أتعرف صار توقي الشديد للحب حِملا لا فائدة منه ، إنه ي شعرني أني ميتة
و أنا لا أزال حية ، ي شعرني أن شبابي ي هدر لأني لا أذوب بين أحضان رجل يحبني لذاتي ولست بالنسبة له شهوة عابرة .
اقرأ السؤال في عينيك : كيف لم تلتقِ برجل حياتك ؟!..
أقول لكّ : أنا نفسي لا أعرف ، لعله الحظ كما ي قال وأظنك تعرف أن هنالك آلاف من النساء الوحيدات مثلي و المتلهفات للحب . ياه … لو تعرف كيف أن مزاجي الحزين والكئيب في غياب الحب يصيبني بداء غريب هو داء الخّرس ، إذ أظل أياما لا أنطق بكلمة منطوية علي ذاتي وحزينة …
لم أترك للطبيب فرصة السؤال أو الاستيضاح … كنت أستبق أسئلته من شدة استعجالي للبوح.
أتدهشكّ شجاعتي ، معك حق ، فالحزن يبث في النفس الشجاعة ، لقد مللت من انتظار الحب الذي به تتحقق أنوثتي وشخصيتي … أتعرف أن الشجاعة والحزن صفتان متلازمتان ؟!…
قاطعني رغما عني : لكنك يا سيدتي ، لا تزالين شابة والفرص أمامك كثيرة .
الفرص!… هذا هو وجعي ، الانتظار والحلم … لقد تعبت من انتظار الفرص ، من التوق للحب ، فحين أسافر في رحلة أحس بوخز ألم كوني وحيدة و حين ألبس ثيابا جميلة أحس بغصٌة ، إذ لا يوجد رجل حميم يحبني و ي طريني . وكل يوم أتناول طعامي وحيدة متخيلة طيف رجل … و في الليل ، الليل حالة خاصة لأنه يجسٌد لي وحدتي ، أتعرف صرت أندهش حين أتفرج علي لقطات غرامية في الأفلام ، لكأن هؤلاء بشر من طينة أخري لا أنتمي إليها .
إلي متي سأعيش أقرأ عن الحب أو أشاهده ، إنما لا أعيشه ، وكل مساء أتدثٌر بغطاء بارد لا يحمل سوي رائحة وحدتي .
أدركت أن الطبيب يداري تأثره ، لكن في عينيه تعاطف شديد معي ، ربما صراحتي الخارقة وصدقي الغريب قد صدماه ، بدا م فلسا لا يعرف كيف يرد علي .
أخذت نفسا عميقا ، حلٌّ بيننا صمت مترقب ، تابعت كلامي .
أرجوك أيها الطبيب ، لا تخذلني ، حين سأجري عملية الختان سأرتاح من أكثر شيء يعذب الإنسان الأمل … الأمل أو السراب _ لافرق¬ ستريحني من ألف تنٌهدة وحسرة كل يوم علي رجلي أتمناه و لا يوجد ، عندها _أقصد بعد العملية¬ سأكون سعيدة تماما وقد تحررت من وجع الغريزة ومن توق الحب وسأستمتع بما تقدمه لي الحياة من مباهج ، سأكون مكتفية بذاتي وسأعود لبساطة الخلق الأولي … كائن لا جنسي .
لكن ، ألم تعيشي تجارب عاطفية من قبل ؟… فلِمّ أنتِ يائسة من احتمال تكرارها .
ضحكت من قلبي ، أجل عشت تجارب ممسوخة وقصيرة العمر ، ألا تعرف يا دكتور أن الفرح سطحي و أن المرارة تترك وشما عميقا في الذاكرة فأرجو أن تعفيني من تفاصيل تجاربي ، صدقني أنا مصممة علي العملية .
ابتسم الطبيب بمرارة : كم يحزنني أن هذه الرغبة طالعة من أعماقك .
غامت نظرة الطبيب ، أحسست أنه لم يعد يراني ، انتفضّ عن كرسيه كما لو أن فكرة مرعبة قذفته من مكانه ، اقترب مني وسألني بقلق كأنه يحدٌث نفسه :
هل لديك صديقات يرغبن بإجراء هذه العملية ؟…..
كان ذعره يتكاثر كدوائر تتوالد من نقطة …
أجبته بابتسامة ، احتار كيف يفسرها … في عينيٌ تصميم و في عينيه ذهول … وبين ذهوله وتصميمي لّمّحنا طيف آلاف النساء الراغبات بالخِتان .