المرأة, الحب, الفضائيات وترسيخ ثقافة الاضطهاد!
بقلم: هدى ابو مخ
لم يعد هنالك حب. كان سيقول المفكر الفرنسي بودريار, وكل هذا الكم من الاغاني والكليبات التافهة التي تملا شاشات الفضائيات ما جاءت الا لكي تخفي حقيقة انه لا يوجد
حب, من خلال اصرارها المبتذل على التشدق بالحب, بوجوده وابديته. حقيقة عدم وجود الحب, كان سيضيف بودريار, هي امر يود كل شخص اخفاءه, فانجلاء هذه الحقيقة سيعني خسائر مادية فادحة للنظام القائم: الامر سيعني تيقن المشاهدين من كون الحب خيالا لا يمت للواقع بصلة, ما سيعني بالضرورة اعتبارهم الكليبات اداة لتسويق خيال غير قائم اصلا.
افلام الخيال العلمية -سيدعي الكثيرون- هي ايضا خيال بحت, مع ذلك يشاهدها البالغون بلا تردد. اعتراضي هنا سيكون بان قوة تلك الافلام -الخيال العلمي- تنبع من قيامها باقناع الناس بامكانية حدوثها في الواقع مستقبلا, وبالتالي جني ارباح هائلة من ورائها, فمن منا لا يؤمن في اعماقه مثلا بوجود الكائنات الفضائية الغريبه!. لو اقتنع المشاهدون بان تلك الافلام حقا خيال بحت لا يمت للحاضر او المستقبل بصلة, اعتقدها كانت ستصير حينها افلاما للاطفال وليس للبالغين. ذات الامر بالنسبة للحب, فهو يصور على انه حالة ممكنة الحدوث, وانه جزء من المثال الاعلى -انظروا هنا عن نوع هذا الحب الذي يسوق كمثال اعلى ونموذج. الحب يصنع بصورة تخدم المصالح المادية لهذا النظام من خلال كم هائل من الاغاني الهابطة. وللاسف فان الاغلبية الساحقة لهذه الاغاني تربط هذا الحب المنتج والهابط بالمراة من خلال بناء علاقة حتمية بين سلوك حب معين وبين جسد انثوي – كل جسد انثوي- في مخيلة المشاهدين.
انا لا ارمي هنا الى انكار نزواتنا الطبيعية. انا ادعو الى حفظ قيم جمالية في وعينا في هذا العالم المادي المتحول باستمرار, مع تشديدي على اهمية امتلاكنا للوعي النقدي الذي يعمل على عدم تحويل قيمة جمالية -كالحب- الى قوة بيد القوي يستغلها من اجل تطويع واستجواب الاضعف. انا انتقد الحب على الطراز الراسمالي الذي يسوق من خلال خطاب لغته جسد المراة وهدفه خدمة مصالح مادية بحتة. وانتقد كذلك الحب الذكوري الذي يفترض سلفا انقياد الانثى وتنازلها امام محبها, هذا الحب يفترض كذلك صفات مسبقة في المراة الانثى والا فانها لن تصلح له (اتذكر هنا تعليقا قراته مرة لاحد القراء السعوديين في سجل القراء في الحوار المتمدن حيث يقول: أخشي أن تنتصر الذرة علي الروح وتكون حاوية القنابل هي الحاكم المطلق، ويصير الشعر والفن والجمال أحد خدم القذائف، فمنذ تحول النسوة الي مارينيز وقذائف ومصائد للمغفلين، صار الحب قناع وقاية من العواطف السامة، ولم تعد هناك شبابيك تسع سير ناداتنا الوسيمة.. لقد أندحر الشعر والحب والجمال ولم يعد الشاعر أو الفنان قادراً علي أن يجر العالم من أذنيه كما فعل صديقي رامبو.
لقد قتلتنا التقانة ولم يعد بوسعنا أن نشم عطور حبيباتنا، هذا المثال يحتوي على اشكاليات عديدة بالنسبة لي من ناحية العقائد فانا مثلا لا اؤمن بالحروب, لكنه ومع ذلك يمثل نموذجا لتفكير معين يفترض في المراة صفات معينة تمكن الرجل من الوقوع في حبها. علاقات كهذه اشبه بعلاقة افتراس وتملك. في كلا الحالتين الحب هو نتاج لمجتمع ذكوري يهدف الى استجواب المراة والمحافظة على خضوعها للرجل ونظامه من اجل ابقاء النظام القائم على ما هو عليه وبالتالي الحفاظ على المصالح القائمة لاصحاب القوة والنفوذ. ليس جيدا في هذه المرحلة التغاضي عن كون النظام الراسمالي اكثر تعقيدا وتفاعلا اذ يواجه بانتقادات ومقاومة عنيفة في داخل المجتمعات العربية, لكني ساكتفي هنا بحقيقة كونه واقعا ملموسا يؤثر كثيرا -ان لم يسير- حياة الافراد.
في ثقافة اليوم تقوم وسائل الاعلام, لا سيما المرئية منها, باختزال حلم اجيال من البشر بالتقدم والحرية والرقي الى النزوات البشرية البدائية من اجل جني الارباح المادية من وراء ذلك. كلنا يعلم -هكذا افترض- ان الفيديو كليب هو احدى الوسائل لتسويق البوم مطرب معين. المطرب لا يتوقع جني الاموال مباشرة من وراء هذا الفيديو كليب, بل بجنيها من وراء ما سيسوقه الفيديو كليب, اي الالبوم الغنائي او اي سلعة اخرى في اي دعاية. ما يلزم هذا الكليب بالعمل والاجتهاد من اجل جذب اكبر عدد من المشاهدين وابهارهم لدرجة تقدهم الى شراء الالبوم/ السلعه والا مني المطرب وشركة الانتاج بالخسائر. و”لابهار المشاهدين” يحتاج الامر الى جسد شبه عار يحتل الشاشة بحركات اغراء. انها نفس الجارية التي تمايلت يوما في قصر احد السلاطين, حين كان بامكانه امتلاكها مباشرة وبلا تظاهر بانها حرة.
من يرقص على الشاشات في ايامنا نساء, وقد فعلن هذا -على الاغلب- بارادتهن. هن “تماشين” مع معايير العصر سعيا خلف الربح. الرقص كجارية للسلطان لا يختلف في جوهره عن الرقص كجارية للنظام. هذه هي مادية العصر, اقصاء الانسانية عن الافراد واختزالها الى تصور شهواني جشع, في اذهان الملايين من المشاهدين. هذا الاختزال الرهيب للانسانية ليس غريبا عن عصرنا, فعلى ذات الفضائيات التي تبث الاغاني, تظهر يوميا صور القتلى ومشاهد الدمار والخراب في اماكن متعددة في العالم. كلنا يشاهدها وفي اذهان كلنا تترسخ فكرة مريعة هدفها اساسا التعامل مع هذا الدمار وهي: الاجتهاد من اجل خلق بعد بيننا وبين اولئك المنكوبين والبؤساء من اجل التمكن من مواصلة العيش على ما يرام. نحن بهذا نقوم بذات العمل: اقصاء الانسانية عن الافراد من اجل الحفاظ على السعادة في داخلنا. الافراد وانسانيتهم يفترقون وتنشا علاقة اغتراب فظيعة بينهم في مخيلة المشاهد. هذا ايضا جزء من نظام راسمالي يلزم بخلق حالة من الاغتراب بين العامل على سبيل المثال والمنتوج. انه ذات نمط الاغتراب الذي تحدث عنه بودريار في كتابه Simulacres et Simulation حول الاغتراب بين الدال والمدلول ونشوء واقع جديد ليس له اصل ولا جذور في واقعنا بل هو واقع قائم بحد ذاته وبصورة مستقلة, والادهى انه -بحسب بودريار- هو الذي يؤثر على واقعنا وليس العكس. هذا ينطبق على مجتمعاتنا وبشدة بسبب الهوة ما بين ذلك العالم الموصوف في الكليبات وبين الواقع الملموس: تلك الكليبات تؤثر وبشدة على اذهان الافراد لتعمل عمل المخدر. مثال بارز ومتطرف هو برامج مثل ستار اكاديمي وعالهوا سوا وغيرها. برايي فان الخطر من خلف هذه النماذج او البرامج ينبع من امكانية كونها او صيرورتها اداة بيد القوة, وحيث تختزل الاحلام الفردية الى جزء من نظام عالمي مظلم اخذ بالهيمنة.
مؤسف انهيارنا المتواصل بدون حتى لحظات قليلة وواضحة من امتلاك الكرامة والمراهنة بها امام من يتهمنا بانعدام الحضارة والحاضر المجيد. مؤسف اكثر كل هذا التخاذل والتواطؤ مع نظام يسعى -من خلال جهل الشعوب- الى سحق كل اشارة او دالة على تقدم في مجتمعاتنا, من خلال طمسه تحت هذا السطحي والعابر والمخدر.
لكن, هل حقا هذه الفيديو كليبات والدعايات وغيرها هي النتاج الحتمي لما انادي به كما كثيرون غيري من فكر وحرية, كما اتهمني العديد من القراء؟
ان نحيت جانبا غضبي من تلك التقولات ذات الطابع التحليلي النفسي والتي لا يمت اصحابها الى علم النفس بصلة, فيجب التشديد وبقوة على ان الخطاب النسوي, اي خطاب نسوي صادق, ينادي بفكر يناهض كل اشكال العبودية. المتاجرة بالجسد الانساني الانثوي هو شكل فظيع من اشكال العبودية والهيمنة الذكورية والامبريالية. فتلك الدعايات لم تشوه فكرة ووعيا وانسانا فقط, بل تداب على تشويه كل فكر التغيير والاصلاح من خلال ابراز تلك الكليبات (على يد ذات النظام) على انها هي ذاتها الثورة, في حين انها لا تمت الى الثورة ولا للتقدم بصلة. فالمراة في كليبات عصر “ما بعد الحداثة” -الذي ادعى فريدريك جيمسون كونه المنطق الثقافي للراسمالية المتاخرة- لا تختلف في جوهرها عن تلك المراة المضطهدة اجتماعيا ودينيا في مجتمعات اليوم الجاهلية. ما حدث انه اضيف لها اضطهاد اخر عليها التصدي له وبقوة. تلك الكليبات التي تصر على ابراز المراة كجسد شبه عار هي وجه اخر لذات العملة التي تبرزها متشحة بالسواد وترى فيها عيبا وحراما. في الحالة الاولى يتم تشييئها واختزالها علنا الى ادوار الاثارة لجذب الرجال اساسا للكسب المادي, وفي الحالة الثانية تشييئها ب”سترها” من خلال اختزالها الى جسد ملفت للنظر, الى عورة وحرام يجب اخفاءه ولو قسرا. باعتقادي, هنالك حالة تواطؤ مريبة بين هاتين الحالتين والتي تبرز على سبيل المثال من خلال امتلاكهما لذات الجوهر: اذلال المراة اختزالها الى جسد.
لذا, فتلك الفتاة السويدية التي نزعت الصورة الاعلانية المكبرة لكلوديا شيفر لملابس داخلية, والتي صرحت بانها ترفض استغلال جسد المراة كسلعة, كان بالامكان ان تكون رجل دين ينزع صورة امراة غير محتشمة. لكن الفارق هنا هو في الدافع وراء الفعل: تلك السويديه كما نساء كثيرات غيرها, ترفض تشيئ الجسد النسائي وتطالب بالحفاظ على انسانيته. اما رجل الدين فقد يفعل ذلك لان جسد المراة عورة, او خوفا على غرائز الشباب ومنعا للانحلال الاخلاقي والخ حتى وان ادعى ان هدفه منح المراة الكرامة والاحترام.
سيتسائل الكثيرون وبشرعية: ما الاختلاف بين رفض رجل الدين لصورة امراة عارية وبين رفض الحركات النسوية لها؟ بغض النظر عن الدافع من وراء الفعل, فكلاهما يفرضان في هذه الحالة طابو اخرا على المراة؟
لاول وهلة كلا التوجهان يبدوان كذات فعل التعصب. لكن ان نظرنا الى الامر من جوانبه الاوسع فالحركات النسوية لا تقف بوجه امتلاك المراة جسدها بصورة فردية, بل بوجه نقل “ملكية” هذا الجسد من نظام الى اخر. اضافة الى ان جسد المراة يستغل في نظام رهيب من الظلم والاضطهاد يقوم باستغلال المراة كجزء من الياته لبناء ذاته وجوهره الاشوهان. لذا فالحرب على استغلال جسد المراة هي جزء من حرب شاملة على نظام اكثر ما يميزه انعدام العدالة والحرية الحقيقية واحترام البشر وكرامتهم.