حقائق وزير الحقيقة البعثي
بقلم: ياسين الحاج صالح
في محاضرة ألقاها بمدينة “الرقة” يوم 16/7/2005، قال وزير الإعلام السوري، السيد مهدي دخل الله، إن الكتاب السوريين الذين يكتبون في جريدة “النهار” اللبنانية و”القدس العربي” التي تصدر في لندن و”السياسة” الكويتية يقبضون 1500 دولارا أميركيا على المقالة الواحدة، قبل إن يضيف إنهم مشاريع كتاب في “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية.
لندع الجانب التقديري من كلام دخل الله، المتصل بالجريدة الإسرائيلية جانبا، وإن كنا سنعود إليه لتقدير مدى كراهية “رجل الدولة” السوري لقطاع من مواطنيه يخالفونه الرأي والموقف السياسي. ولنتوقف الآن عند معلومة الـ 1500 دولار.
كاتب هذه السطور يكتب في “النهار” منذ أربع سنوات ونصف تقريبا. وينشر فيها، في ملحقها الثقافي بالخصوص، بمعدل مقالتين “سياسيتين” كل شهر. هذا يعني انه يكسب من “النهار” 3000 دولار، أو 160 ألف ليرة سورية شهريا. سنويا أكثر من 1,9 مليون ليرة. المجموع 156 ألف دولار خلال 4 سنوات ونصف، أي حوالي 8 ملايين وربع مليون ليرة سورية. متوسط دخل الفرد السوري حوالي 1000 دولار سنويا. ويعيش مرتاحا إن كان دخله 3000 او 4000 دولار سنويا، وب 6 آلاف دولار، يعيش حياة كريمة، وب12 ألف دولار سنويا يعيش “ملكا”، يشتري ما ومن يشاء تقريبا. أما 36 ألف دولار، وهو المبلغ، الذي يفترض ان أناله سنويا فيكفي وحده لشراء بيت معقول لمن ليس لديه بيت. ويكفي نصفه لشراء سيارة جيدة. الباقي يمكن للمرء أن يشتري به عقارات اخرى او يودعه في بنوك لبنان وربما سويسرا.
ولو اني كرست جهدا أكبر للكتابة في “ملحق النهار” لنشرت مقالا كل أسبوع، ولكان دخلي الشهري 6000 دولارا، حوالي 320 ألف ليرة؛ والسنوي 78 ألف دولار، اي اكثر من 4 ملايين ليرة سورية قرابة 16 مليون ونصف مليون ليرة سورية. وخلال أربع سنوات ونصف أكثر من 350 ألف دولار، اي قرابة 16 مليون ونصف مليون ليرة سورية 75 مليون ليرة سورية. وهو يتجاوز المداخيل التي يفترض أن ينالها السيد دخل الله ودزينة من زملائه الوزراء من وظائفهم في “خدمة الشعب السوري” خلال الفترة نفسها.
طيب. انا مستعد لمبادلة ما أملك بما يملكه سيادة الوزير وحده. وأتبرع له فوق ذلك بما أتقاضاه من الصحف الأخرى التي اكتب فيها. ولا ريب أن مجموع كتاب “النهار” السوريين، ممن أعرف او لا أعرف، مستعدون لمشاركتي في الصفقة. فهل يرضى السيد الوزير؟
أما المقالات الثلاثة او الأربعة التي كتبتها في “القدس العربي” فتكفي لثلاث او أربع سهرات عامرات مع لوازمهن مما وممن يشتهى. وللأسف لم اكتب في الصحيفة الكويتية لأن رئيس تحريرها يذكرني، اسما وسياسة، برئيس تحرير سابق لجريدة “البعث” السورية.
لنتوقف عن السخرية، ونتكلم بنصف صراحة: الكلمة الأنسب لوصف معلومات وزير المعلومات السوري، حسب ما يسمى في اللغة الانكليزية، ليست لائقة؛ الكلمات اللائقة بالمقابل لا يمكن أن تفي سيادته وحقائق سيادته ما هما جديران به من… احترام. اين الحقيقة؟ جريدة “النهار” تدفع للكتاب السوريين المواظبين على النشر فيها مبلغا يقل أو يزيد قليلا على 100 الف ليرة لبنانية اي حوالي 70 دولارا، 3600 ليرة سورية، تزيد قليلا او تنقص. 4000 ليرة سورية. الكتاب الذين يكتبون بصورة متقطعة، يحدث أن لا تنزل أسمائهم على قوائم المحاسبة في “النهار” ولا ينالون ثمرة عملهم. اما جريدة “القدس العربي” فلا تدفع شيئا لغير الكتاب الذي تستكتبهم. وشخصيا لم أنل، وأصلا لم أطالب، بقرش واحد على ما كتبت فيها.
على أن كلام الوزير المسؤول عن تزويد الشعب السوري بالحقائق يضمر أن الكتاب السوريين يكتبون في “النهار” وغيرها وليس في “البعث” و”الثورة” و”تشرين” لأسباب مادية حصرا. هذا صحيح، تماما مثلما هو صحيح ان العمال السوريين في لبنان يعملون هناك لأسباب مادية. لا ريب ان “النهار” تخصص مكافاة للمواد التي تنشر فيها اكثر من الصحف السورية. لكن بمعايير متوسط دخل الفرد بين البلدين (يبلغ في لبنان اكثر من اربعة اضعاف دخل السوري) لا ينال الكاتب السوري أربعة أضعاف ما يناله زميله الذي يكتب في “البعث” مثلا. والمقارنة مع العمال مضيئة هنا. فالكاتب السوري يتقاضى، قياسا إلى ما يتقاضاه كاتب في “البعث”، أجرا يوازي أجر العامل السوري في لبنان قياسا إلى العامل السوري في بلده. نحن أيضا عمال سوريون. ومثل العمال السوريين الآخرين نعمل في لبنان لأن أبواب فرص العمل في بلدنا مسدودة في وجوهنا.
لكن هل ينشر المثقفون السوريون في لبنان لأسباب مادية حصرا؟ ثمة فرق. ما يجدر بالسيد دخل الله معرفته أن معظم المثقفين السوريين المعنيين هم من نوع العاملين الذين لا يكادون يقرون أصلا بفارق بين سوريا ولبنان على المستوى الثقافي والمعنوي، ولا يجدون مشكلة البتة في الاختلاف السياسي. كثيرون من المثقفين، هنا وهناك، هم التجسيد الأنبل، بل الوحيد، للإخوة والشراكة بين سوريا ولبنان وبين شعبيهما. هذا رغم أنهم ليسوا من المغرمين بحكايات “شعب واحد في بلدين” و”سوا ربينا” التي تنقلب في الممارسة عداءا فظا وشوفينية مبتذلة. كان سمير قصير شهيدنا المشترك.
نكتب في لبنان كي نكتب بحرية نفتقر إليها في بلدنا. نكتب ونحن نجازف بما لا يمكن معادلته بثمن: حريتنا. ولعل “وزير الحقيقة” البعثي يعلم أن كثيرين منا تعرضوا لمساءلات أمنية لأنهم كتبوا في “النهار” وغيرها. كاتب هذه السطور أحدهم.
ولعله كذلك يتذكر أن مثقفين ديمقراطيين سوريين كتبوا قبل قرابة 5 سنوات في جريدة “الثورة” أيام رئاسة المرحوم محمود سلامة لتحريرها. هل كتبوا من أجل المال؟ ولماذا كفوا بعد شهور قليلة عن الكتابة فيها، يا رفيق؟
على أن الوزير السوري يستحق الشكر على ما قاله. كثيرون كانوا يسألوننا: كيف تفسرون ان الحكومة تسمح لكم بالكتابة المعارضة في لبنان؟ كان جوابي الشخصي إن الحكومة لم تسمح لنا ابدا بذلك, انها ليست مسرورة أبدا باننا نجد منابر نكتب فيها، إنها تجد نفسها أمام خيار سيئ وخيار اسوأ. السيء ان نكتب وتهاجمنا على طريقة وزير المعلومات، الأسوأ ان نكتب وتعتقلنا وتحاكمنا على آرائنا. وها هي اقوال الوزير توفر علينا عناء مزيد من الشرح.
الخلاصة أن علاقة كلام الرفيق الوزير بالصدق ترتفع إلى مستوى علاقة وكالة “سانا” به يوم غطت أنباء اعتصام 10 آذار 2005 احتجاجا على حالة الطوارئ المعمرة، أو يوم عرضت النسخة “الصحيحة” مما جرى في القدموس أواسط شهر تموز الجاري، أو علاقة جريدة “تشرين” بالصدق يوم نشرت حديثا لعميد الأسرى السوريين في الجولان، هايل ابو زيد، وحذفت ثلثيه وأضافت إليه بعض حقائقها الخالدة، ما سمته ليلى صفدي من الجولان “الإضافات التي اعتقدوا .. أن هايل كان يجب أن يقولها!!”.
سيكون من المنير للرأي العام، على أية حال، أن يعدد الوزير بعض أسماء الكتاب السوريين في جريدة “النهار”، ويحصي أملاكهم من سيارات مرسيدس وليموزين ومزارعهم وأراضيهم في الرقة والحسكة وأرصدتهم في البنوك الأجنبية وأبناءهم متعددي الجنسيات.
يديعوت احرونوت!
هل سنكتب يوما في “يديعوت احرونوت”؟ كلام الوزير واحد من شيئين: أما أن لديه معلومات حول نية كتاب سوريين النشر في الجريدة الإسرائيلية، وهو مطالب في هذه الحالة بتقديمه للرأي العام، وبخاصة لكونه وزير الشفافية، أو هو “شلف” غير مسؤول للكلام، ما يوجب أن يحاسب عليه.
المضمر في كلامه أن غسان تويني وعبد الباري عطوان وأحمد الجار الله هم في “منزلة بين منزلتين”: منزلة الوطنية القراح التي تمثلها جريدة “البعث” مثلا، وبالخصوص ايام رئاسته لتحريرها، ومنزلة الخيانة التي تمثلها الكتابة في “يديعوت أحرونوت”. فمن يكتب في الصحف التي يرأس تحريرها تويني وعطوان إنما يجري”معسكرا تدريبيا” للكتابة في “احرونوت” حسب فتوى “رجل الدولة” البعثي.
من جهتنا نتساءل: لماذا من السهل على المسؤولين السوريين ان يخوّنوا مواطنيهم؟ لماذا تفلت أعصابهم بسهولة في اي نقاش ويلجأون إلى اغتيال خصومهم معنويا؟ هل يقول ذلك شيئا عن هؤلاء الخصوم أم عن السادة المسؤولين؟ وهل يسأل هؤلاء المسؤولون عما يقولون أم ان حصانتهم هي حصانة من المسؤولية أولا؟ ولماذا يستحيل على مسؤول إسرائيلي ان يتهم أحدا من حركة “السلام الآن” مثلا بالخيانة، فيما التخوين هو أول ما يلجأ إليه مسؤولون بعثيون وجبهويون حيال خصومهم السياسيين في البلد؟ ربما نتذكر أن وزير إعلام سابق لدخل الله كان اكتشف ان مفهوم المجتمع المدني لا يستخدم إلا في اميركا، موحيا ان مستخدميه السوريين أتباع للاميركيين. واسعفه وقتها وزير دفاع سابق حين أعلن ان النشطاء من مواطنيه عملاء للسفارات الأجنبية، وانه يملك ارقام جوازاتهم وتواريخ سفرهم إلى عواصم “أسيادهم” المفترضين. ولا يشذ عن منطق احتكار الوطنية هذا تفضل مسؤولين سوريين آخرين بوصف المعارضة بالوطنية أحيانا. ترى ما هي مؤهلاتهم لإصدار هذه الأحكام؟
آلات تخوين
يعطي كلام الوزير البعثي فكرة عن حدة الصراع السياسي والفكري في سوريا بين الديمقراطيين والمستقلين وبين نظام الحزب الواحد. أن يلجأ الطرف الثاني في هذا الصراع إلى اسلحة الدمار المعنوي الشامل، التخوين والإخراج من الوطنية، يثير انطباعا بان قضية الديمقراطيين تتقدم رغم ما يبدو عليهم من ضعف وتشتت. وبينما قد يفترض المرء أن سلطة تملك الدولة وحزبا من مليوني شخص لن تلجأ إلى أسلحة مطلقة، يفترض ان تكون محرمة وطنيا، في مواجهة خصم أضعف منها بكثير، فإن لجوءها الفوري إلى هذه الأسلحة مؤشر على شعورها بالحصار وأفلاسها الأخلاقي والفكري والسياسي.
السلاح الآخر في نضال الرفيق الوزير هو تهم تتصل بالمال والفساد. هل يصدر ذلك عن آلية نفسية إسقاطية؟ أم هو إدراك مجرب لجبروت المال؟ أم ربما رغبة دفينة في احتكار منافذ الدخل جميعا؟ واين يتوطن الفساد؟ حيث التقاء السلطة والمال وتقييد النقاش العام العلني ام في أوساط “عمال الثقافة” الذين لم يشتهر احد منهم بثراء بينما عرف غير قليل منهم ببؤس مقيم؟
وكما هو واضح تغيب فكرة الدولة والسياسة عن تفكير الرفيق دخل الله الذي يتكلم ويتصرف كطرف خاص، يحمل كل طرفيته وحزبيته، في صراعه السياسي والإيديولوجي والأخلاقي مع مواطنيه الذين يخالفونه الرأي. الدولة ليست إطارا عموميا لخوض هذه الصراع وتسويته بل اداة يستخدمها أهل السلطة لكسب المواجهة وسحق الأعداء. لذلك ليس ثمة أية حواجز فكرية او اخلاقية تقف في وجه نزعات دخل الله وامثاله التخوينية. في هذا ما يشير إلى أن الوطنية التي يصدرون عنها بلغت من الخواء وفراغ المضمون مرتبة أن ارتد أصحابها إلى آلات تخوين فحسب.