الوطن والشركاء
صحيفة القدس العربي – 5 آذار/ مارس 2007
صبحي حديدي
غادر علي عقلة عرسان رئاسة اتحاد الكتّاب العرب (في سورية، وليس الإتحاد العربي) بعد أن احتكر منصب الرئيس طيلة 28 سنة متعاقبة متصلة، واستحقّ ـ قولاً وفعلاً للإنصاف ـ لقب رئيس مخفر مختصّ بالرقابة علي مصنّفات الأدب السوري المعاصر، والتنكيل بالأدباء الذين كان الرئيس يرتئي تصنيفهم في خانة المارقين العصاة المنشقين عن خطّ الإتحاد/خطّ السلطة (أبرز الأمثلة التي ترد إلي البال: فصل أدونيس، والتحريض ضدّ هاني الراهب، واستباق تحقيقات الشرطة في الجزم بأنّ الإعتداء بالضرب علي الروائي والناقد نبيل سليمان لا صلة له بالسياسة، والتشهير بالشاعر شوقي بغدادي لأنه ظهر علي فضائية الحرّة، استناداً إلي قرار إتحادي يحرّم الأدباء السوريين من الظهور علي تلك الشاشة…).
الطريف، مع ذلك، أنّ عرسان لم يكن في عداد 33 أديباً سورياً كُرّموا مؤخراً بوصفهم مؤسسي الإتحاد، بحضور لافت لعضو القيادة القطرية لحزب البعث هيثم سطايحي، ووزير الإعلام محسن بلال، وكوليت خوري المستشارة الأدبية للرئيس السوري. في اللائحة نجد اسماء مثل سليمان الخش، سليمان العيسي، صدقي إسماعيل، هاني الراهب، زكريا تامر، أنطون مقدسي، علي الجندي، علي كنعان، حيدر حيدر، محمد عمران، عبد الله عبد، حنا مينة، فارس زرزور، سعيد حورانية، ممدوح عدوان، عمر الدقاق، جورج سالم، عزيزة هارون، قمر كيلاني، نبيهة حداد، أديب اللجمي.
لم يكن عرسان بين المؤسسين، إذاً؟ فكيف استطابت هذه القيادة السياسية الرشيدة (إذْ أنّ الإتحاد ليس سوي منظمة شعبية تأتمر بتعليمات حزب البعث) إبقاء رجل غير مؤسس علي رأس المؤسسة دورة بعد أخري منذ العام 1977 وحتي 2005؟ ومن جانب آخر، ما مغزي مبادرة هذه القيادة إلي تكريم هاني الراهب اليوم، هو الذي تعرّض للتنكيل بتحريض من قيادة الإتحاد دون سواها، وصودر جواز سفره في مطار دمشق؟ هل هي صحوة ضمير متأخرة (وفي هذه الحال، كيف حدث أنّ ميشيل كيلو كان بين المكرّمين عن قطاع متعاقدي الإتحاد، ولكنه حبيس الزنزانة في سجن عدرا، منذ تسعة أشهر ونيف)؟ أم لعبة ضحك علي الذقون من النوع المبتذل (بدليل أنّ نصف المكرّمين الأحياء غابوا عن حفل التكريم)؟ أم هي وصلة مسرحية ميلودرامية من إخراج الرئيس الجديد، حسين جمعة، أمام القيادة السياسية (بدليل انّ التكريم يأتي احتفالاً بالذكري الـ 38 لتأسيس الإتحاد، في مقابل احتفال مماثل أحياه الرئيس السابق في مناسبة الذكري الـ 50 للإتحاد ذاته، الأمر الذي يعني أنّ جمعة لا يعترف إلا بالإتحاد الذي تأسس سنة 1969، كما أشار زميلنا أنور بدر في تقريره قبل أيام)؟
ورغم هذه البيّنات كلّها، فإنّ حضور عرسان الطاغي في مختلف دوريات إتحاد الكتّاب العرب يذكّر المرء بمثال الخارج من الباب/العائد من النافذة، خصوصاً وأنّ الرجل غادر موقعاً نقابياً (إذا جاز اعتبار هذا الإتحاد نقابة بأيّ معني منصف!) لكي يحتلّ موقعاً حزبياً رفيعاً، هو عضوية اللجنة المركزية لحزب البعث الحاكم. ففي العدد 1035 من جريدة الأسبوع الأدبي، الناطقة باسم الإتحاد، نقرأ دراسة بعنوان الرسم بالكلمات عند الشاعر علي عقلة عرسان، بتوقيع د. فاخر صالح ميّا، لكننا نقرأ المادّة ذاتها ـ وأقصد: حرفياً، دون زيادة أو نقصان ـ في العدد 1037 من الدورية ذاتها، أي بعد أسبوعين فقط! هل قدّر التحرير أنّ غليل الجماهير إلي قراءة هذه التحفة النقدية، عن ذلك الشاعر الفحل، لم يرتوِ تماماً من نشر أوّل، ولا بدّ من نشر ثانٍ للتحفة ذاتها؟
ولكي لا نغمط الناقد حقّه في اقتباس نموذج من درّته تلك، هنا ما يقوله في مطلع الدراسة: تبدو الكتابة لي حالة إبداعية أو موقفاً تلتقي فيه شفاه الموت والحياة في قبلة لاهبة. إن حبّ الحياة عند الشاعر علي عقلة عرسان هو الذي يبقي وحده سليماً لا يتطرق إليه الفساد ولا ينطق محياه قط أقوي مما ينطق من عالم الموت، في هذه القطبية يرغب عرسان بالوصول إلي عالم الأحلام والخيالات التي تتشكل من رموز الواقع وأزمات الفلاح علي نحو متزايد إلي جثة وجحيم وكأنه اجتث من جذوره. وإلي الذين عجزوا، مثلي، عن الإمساك بأيّ معني في الفقرة السابقة، هنا ما يقوله الدكتور في الخاتمة: الدم عند الشاعر يتآخي مع الإيقاع مما يسهم في صقل لغة وبلورة الصورة القائمة علي الرسم، والشاعر هنا رسام يرسم بالدم ويلوّن، يستخدمه بشكل فني انطلاقاً من موقف فكري أو فلسفي لأن هناك علاقة مكانية بين الشاعر وصورة الدم مكتسبة من سياق التصوير حتي غدا الدم نظرية يتخذه الشاعر لتحقيق التوازن وأن يعلم الآخر أشياء كثيرة عن الدم والموت بوصفه رمز الانتماء إلي الوطن !
وإذا كانت شهادة ميلاد إتحاد الكتّاب تتبدّل بين رئيس ورئيس، والدم يتآخي مع الإيقاع، والموت يصبح رمز الانتماء إلي الوطن، وطن عرسان وسطايحي وبلال وجمعة والشركاء، فإنّ الحال تقتضي الترحّم علي محمد الماغوط، القائل: هل ترسم علي علب التبغ الفارغة/ أشجاراً وأنهاراً وأطفالاً سعداء/ وتناديها يا وطني/ ولكن أيّ وطن هذا/ الذي يجرفه الكنّاسون مع القمامات في آخر الليل؟