”روسو“ والديمقراطية الصحيحة
بقلم: عبد العظيم محمود حنفي
“جان جاك روسو” من المفكرين الأحرار الأفذاذ دعاة الحق والعدالة وانتصار الحرية والمساواة والتآخي بين الشعوب.
يتوخى ” روسو” إرساء أسس الحياة السليمة التي تبنى عليها الأوضاع الاجتماعية في أي مجتمع ويستند في ذلك إلى قضية لا تخلو من خطورة وأهمية، فيرى أننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة المجتمع إلا إذا تعمقنا في نظمه السياسية، فكأننا نستشف طبيعة الشعب من طبيعة نظام الحكم الذي ارتضاه. ويستبعد ” روسو ” من البداية قيام المجتمعات على أساس القوة والبطش، سواء اتخذ ذلك شكلا مسالما أم انبرى بحد السيف. ولئن قامت حكومات في غضون التاريخ على أساس القوة والعنف والبطش، ولئن كانت هنالك حكومات ما برحت مستندة إلى هذا الأساس، فإن هذا كله لا يبرر القوة ولا يصبغها بصبغة المشروعية. فالقوة لا يمكن أن تكون مصدرا للحق وإذا حدث وانبثق الحق من القوة فهو منعدم في عين اللحظة التي ينبثق فيها.
إننا لو تساءلنا من زاوية النظر الفلسفي البحت: هل يمكن أن تكون القوة دعامة للحق؟ وهل يلزم أن نسلم بذلك تحت وطأة بعض الملابسات الواقعية، أم أن ننظر للأمن من زاوية الكرامة الإنسانية؟ إننا لو تساءلنا على هذا النحو لأتانا الجواب قاطعا حاسما: إن كرامة الإنسان في حريته، وفي قيام الحق على أساس القوة سلب لحرية الإنسان، وإهدار لكرامته. فثمة تنافر بالطبع بين الحق والقوة رغم قسوة التجارب التاريخية.
والتجربة التاريخية لا تعني “روسو” بقدر ما يعنيه إرساء الأساس الأخلاقي الراسخ للحياة الإنسانية. وهنا يمكننا أن نربط بين موقف “روسو ” من الحق، وبين موقف الفيلسوف الألماني “امانويل كانط ” من الواجب، فالواجب لذاته هو غاية الفعل الأخلاقي في نظر ” كانط “، وهو أمر عام مطلق لا يتعلق بغرض ولا يرتبط بمنفعة ولا يرتهن بملابسات قائمة بالفعل. والإنسان في أدائه للواجب يشرع لنفسه وللإنسانية قاطبة في آن واحد. كذلك ينظر “روسو” للحق من حيث هو على إطلاقه، وعلى هذا فالمجتمع المدني ينهض على أساس الحق، فهو ثمرة التراضي الحر بين الناس. والناس في الحالة الطبيعية الأولى يستقل كل منهم بذاته ويعول عليها، فيكون هناك ذوات فردية لا تنصهر في ذات عامة، وحينئذ يبذل كل منهم جهودا مضنية لافتقاره للتعاون مع غيره. فهي حالة ميئوس منها والمصير الحتمي فيها للإنسان تبدد طاقاته وهلاكه. فنهضة المجتمع وتطوره مرهون بتضامن الأفراد وتكاملهم، وحينئذ يكفل المجتمع لأعضائه القدرة على مواجهة أعباء الحياة. فالمجتمع المدني شرط لابد منه لتحقيق السعادة والرفاهية.
ولما كان إحساس الفرد بالحرية شرطا أساسيا لسعادته، فكيف يمكن التوفيق بين أفراد تختلف ميولهم ومشاربهم، ورغباتهم، وتعدد آمالهم وتتنوع اهتماماتهم بحيث يجمعهم إطار واحد تتوالى عليهم فيه واجبات والتزامات لم يألفوها من قبل، وحتى تتناغم هذه الواجبات والالتزامات مع الحق الطبيعي لكل فرد في أن يعيش حرا، فالمشكلة الأولى في المجتمع السياسي هي مشكلة المواءمة بين الفرد من جانب والجماعة من جانب آخر .. فهناك – دون ما ريب – ارتباط بين السلطة الحاكمة وبين حرية الفرد. وعلى ضوء هذا الوضع للمشكلة يتساءل “روسو”: كيف يمكن أن نصل إلى صورة من التوافق الاجتماعي تتكتل في إطارها قوى الجماعة من أجل حماية حقوق الأفراد وحقوق الجماعة معا وفي آن واحد، من حيث أن هذه الأخيرة تعكس الوعي العام المشترك بين أعضائها؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن أن تذوب شخصية الفرد كفرد في شخصية الجماعة، بحيث يحس الفرد بأن حقوقه مصانة وحريته مكفولة؟ وإجابة “روسو” على هذا واضحة: ليس في الوسع أن ينهض مجتمع في هذا الإطار إلا على أساس الرضى والقبول أعني أساس العقد الاجتماعي.
فالعقد الاجتماعي – وإن يكن فرضا نظريا بحتا – له دلالاته العميقة في تفسير الأساس الذي تنهض عليه العلاقات المعقدة بين الناس، فلابد أن يكون هذا الأساس تراضيا وقبولا، لا قسرا وقهرا، حقا لا قوة. فالعقد الاجتماعي هنا أشبه برمز يتوسل به “روسو ” ليبرز التصور الأساسي الذي تنضج من خلاله طبيعة المجتمع المدني، من حيث كون هذا المجتمع ثمرة إرادة أصحابه.
فلكي يكون هناك حكم يلزم أن يكون هناك قانون يطاع. ولكي يطاع القانون ينبغي أن يكون محققا لإرادة المجموع، ومعنى هذا أن يكون في طاعة الناس للقانون رضوخ لحكم إرادتهم. فالقانون من ثم يعزز الاختيار والحرية ويستنكر القوة والتعسف. إن القانون على هذا الاعتبار هو صوت الإرادة العامة. وهذه الإرادة العامة هي دعامة السيادة. إن لكل فرد من أفراد المجتمع إرادته وحريته وهم يختلفون ويتباينون ولكنهم يلتقون عند أمر واحد: فهم يودون جميعا أن يحكموا حكما عادلا يحقق لهم الكرامة ويكفل لهم العزة ويؤكد لهم المساواة. ولا يمكن أن يأتي الحكم على هذا الوجه إلا إذا كان وليد إرادة المجموع الحرة.
والسيادة هي ممارسة الإرادة العامة للحكم ورسم خطوطه العامة وتخطيط أهدافه وينجم عن ذلك نتيجتان متلازمتان: أولاهما: أن السيادة للشعب بأسره، فلا يمكن أن تكون لفرد أو جماعة بل تتمثل في الأمة كلها. وثانيهما: أن سلطة السيادة لا تختص برعايتها أشخاصا معينين بل تنصب عنايتها على المصلحة العامة التي تهم المواطنين جميعا.
ومشروعية السلطة السياسية مستمدة من كونها مستندة إلى قاعدة السيادة الشعبية. فمشروعية السلطة تنهض على انبثاقها من الشعب واستهدافها خيره وسعادته. ومن أجل إبراز هذه الفكرة كتب “روسو ” ما كتب فأرسى أساس الديمقراطية الصحيحة.