الجهاد عند الشيعة قبل وبعد ولاية الفقيه وإسقاطاتها في الأزمة السورية
بقلم : علي النعيمي
إن المراجعة التاريخية لكثير من الأحكام الشرعية عند الشيعة تبين وجود إنقلاب كبير في المفاهيم و المبادئ مع بروز ظاهرة الولي الفقيه , و لا يمكن الحصول على تصور صحيح عن أحكام الجهاد عند الشيعة بدون الرجوع إلى أصول و نشأة نظرية الولي الفقيه.
برزت نظرية ولاية الفقيه وثار الجدل حولها بشكل حقيقي مع بروز الثورة الإسلامية الإيرانية 1979، ونجاح الملالي وآيات الله بقيادة الخميني في الإطاحة بالشاة، مع الخميني الذي كان منفيا في فرنسا، لفترة بسيطة، وقبل ذلك مقيما في النجف زهاء أكثر من عقد منذ 1965 للتحصيل الديني الحوزوي المعتاد، كان يبشر بهذه النظرية الثورية التي تعني إشراف رجل الدين «الفقيه» بشكل مباشر على ضمان الشرعية الإسلامية في المجتمع والدولة، لأن الخطاب الشيعي التقليدي يقوم على عدم منح الشرعية الكاملة إلا للمعصوم وهو المؤهل الوحيد لتحقيق الشرعية التي يعيش المجتمع في كنفها دون حرج، أما دول القهر والواقع فكان الفقه الشيعي طيلة قرون وقرون يتعامل معها بالحد الأدنى من الضروريات دون منحها الاعتراف الشرعي الذي لا يكون إلا للمعصوم الغائب، ولذلك، كما يلاحظ الباحث المتخصص في الفقه السياسي الشيعي الدكتور توفيق السيف، ظلت الدول المتعاقبة في إيران منذ غلبة المكون الشيعي عليها في القرن السادس عشر، في حالة قلق وخوف دائم من ثوران الجماهير عليهم، وكانت الوسيلة الدائمة للسيطرة هي القوة العارية، أو الاعتماد على الفقيه لمواجهة الجماهير، كما يفصل السيف في بحثه الضافي في مجلة الكلمة المتخصصة في عددها الخمسين 2006. ويضيف السيف أن الخميني نظر لولاية الفقيه في كتابه الشهير «الحكومة الإسلامية» الذي صدر 1970، وكانت هذه النظرية: «تمثل صيغة النظرية التي تطورت على يد السيد الخميني تحولاً حاداً في الخطاب السياسي الشيعي ما كان ليتم لولا التعديل الذي أجراه على الإطار الكلامي والفقهي الذي تقوم فيه النظرية». ويعتقد الدكتور السيف أن كتاب (الحكومة الإسلامية) هو: «الوحيد الذي عالج فيه السيد الخميني فكرة الحكومة الشرعية بصورة مفصلة ومتخصصة. ومع أنه جاء ضمن حلقات بحث فقهي، إلا أن القضايا التي طرحها تجاوزت هذا الإطار ولامست أسئلة عديدة كلامية، ثقافية وسياسية. عدا عن هذين الكتابين فإن أبرز مصدر لآراء السيد الخميني السياسية هو مجموعة «صحيفة نور» التي جمعت الجزء الأعظم من خطاباته ورسائله وبياناته». والحقيقة أن جذور نظرية ولاية الفقيه تعود إلى تاريخ أقدم، منذ أن حكم الصفويون إيران (من 1501 م إلى 1736 م)، وقدم رجل الدين البارز آية الله الكركي القادم من جبل عامل في لبنان دعمه للشاه الصفوي (طهماسب) ومنحه إجازة للحكم باسمه باعتباره، أي الفقيه، ممثل ونائب الإمام المهدي الغائب.
وقبل ثورة الخميني بمائة وخمسين عاما كان هناك جدل خصب في الإطار الفقهي الشيعي أثاره الإمام النراقي في كتابه (عوائد الأيام) حول حدود الولاية بالنسبة للفقيه.
ويشير المتخصص المصري الدكتور مصطفى اللباد في كتابه عن إيران (حدائق الأحزان) إلى أن إرهاصات النظرية ظهرت في جبل عامل بلبنان على يد محمد بن مكي الجزيني العاملي (ت 1472م)، فوسع نطاق عمل الفقهاء في حياة المؤمنين. واستند إلى ما أسماه «نيابة الفقهاء العامة» عن الإمام المهدي المنتظر، وتشمل القضاء والحدود وإقامة صلاة الجمعة. وصاغ الجزيني تعبير «نائب الإمام» الذي أطلق على الخميني لدى عودته من المنفى. وبعد أربعة قرون طور الشيخ النراقي الجزيني بتوسيع صلاحيات الفقهاء، واستخدم مصطلح «ولاية الفقيه» لأول مرة. رأى النراقي أن للفقيه في عصر الغيبة الولاية في أمور الدين والدنيا التي كانت للنبي والأئمة إلا ما استثناه الدليل الشرعي.
ومنذ خروج النظرية وجدت معارضات فقهية، ومازالت، ولب الخلاف يقوم على حدود الولاية التي تمنح الفقيه صلاحيات المعصوم الخاصة به مثل الحكم بالناس في دمائهم وأموالهم، وكل أمورهم العامة التي عظم الله شأنها لذلك فهي من اختصاصات المعصوم الغائب. ولكل فريق أدلة يستدل بها، سواء أنصار الولاية العامة للفقيه، أو الولاية الخاصة، أو الجزئية، وأبرز نص يتم استحضاره هو رواية عمر بن حنظلة: «قال الإمام الصادق بعد سؤال عن رجلين تنازعا: «ينظر إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني جعلته عليكم حاكماً».
لكن مفتي جبل عامل السيد علي الامين المعارض لنظرية ولاية الفقيه يقول إن هذا النص لا يدل أبدا على مفهوم ولاية الفقيه كما نظر له الخميني وأنصاره، بل هو مقتصر على الولاية الخاصة.
في الإطار العام لدى الشيعة، لا تقوم «الشرعية» الكاملة إلا بظهور الإمام المهدي المنتظر، ولذلك لاحظ الخميني أن ذلك سلبية تعني عمليا استحالة إقامة الشرعية والحكومة الإسلامية وتقضي بتحول العدالة، حسب المنظور الشيعي الذي لا يقول بولاية الفقيه، إلى مجرد أمنية كما لاحظ أحد علماء الشيعة الكبار.
المفارقة كما يلاحظ توفيق السيف في بحثه هو أن الخميني الذي استفاد من جهود الفقهاء الكبار السابقين وطور أكثر في النظرية وذهب بها في تطبيقات مباشرة، لم يجد تأييدا في أوساط رجال الدين المتقدمين، وكانت قاعدته الشعبية تقوم على البرجوازية الصغيرة وبعض صغار طلبة العلم من الشبان. وبلغ الخميني بالنظرية ذروتها مع الوصول الفعلي إلى الحكم بتحالف عريض مع أحزاب يسارية، وعلمانية، وإسلامية يسارية، لكنه أزاحهم جميعا عن المشهد وكرس حكم الولي الفقيه لنفسه، وعارضه في ذلك فقهاء شيعة كبار في نظريته تلك داخل إيران وخارجها، فمن داخل إيران كان آية الله شريعة مداري، الذي عوقب بالإقامة الجبرية إلى وفاته، ومن خارجها كان المرجع الكبير أبو القاسم الخوئي في النجف معارضا لنظرية ولاية الفقيه العامة، ومثله تلميذه المرجع الحالي السيستاني.
والاتجاه المحافظ لدى المراجع الشيعية هو تأييد الولاية الخاصة للفقيه في خصوص الأحكام الفقهية الخاصة، أو الولاية على الأيتام والقصر والأرامل، باعتبار «الحاكم ولي من لا ولي له» وفق النص الإسلامي الفقهي الشهير، والحاكم هنا بمعنى القاضي لا بمعنى السلطان السياسي. وكان الفقيه اللبناني الشيعي الشهير محمد جواد مغنية من معارضي نظرية ولاية الفقيه، بل حتى المرجع محمد حسين فضل الله يعتبر معارضا للنظرية، ويخالف حزب الله في إيمانه بالنظرية، كما قال هو صراحة في حوار صحافي له.
الأمر الذي يجب الانتباه له أن معارضة نظرية ولاية الفقيه العامة لا تعني عدم المطالبة بوجود حكم «إسلامي» شرعي معين، كما هو مطلب كل التيارات الأصولية شيعية كانت أم سنية، ولكنه يعني في الحالة الشيعية، الخلاف حول اختصاص الفقيه «السلطان» بتطبيق هذه المهمة دون غيره ووجوب الرجوع إليه، فالولاية للأمة على نفسها وليس للفقيه على الأمة، كما هي زبدة اعتراض العلماء والمثقفين الشيعة على نظرية ولاية الفقيه.
الأمر الآخر، أنه منذ أن طبق الخميني نظريته ونجح في إقصاء معارضيه من رجال الدين وغيرهم، وهو ماض في هذا الطريق حتى أن خليفته المرتقب آية الله منتظري، وحينما اختلف مع حاشية الخميني تم إبعاده عن الخلافة، فعارض نظرية ولاية الفقيه.
فيما يخص حزب الله، فهو جزء من الأحزاب الشيعية التي تؤمن بنظرية ولاية الفقيه ويعني هذا الإيمان تلقي التكليف الشرعي والسياسي من الإمام الفقيه، وهو واجب شرعي سياسي حسب مقتضيات النظرية، لا يجوز الاعتراض عليه، ومثل حزب الله المجلس الإسلامي الشيعي في العراق، أي جماعة الحكيم، ولكن هذا لا يعني أن كل الأحزاب الدينية الشيعية مرتبطة بالنظرية، وان ارتبطت بالنظرية فهذا لا يعني بشكل آلي الارتباط بمرجعية طهران ومرشد الثورة، حاليا آية الله علي خامنئي، وحسب بانوراما الدكتور توفيق السيف، صاحب الكتب والأبحاث المعروفة في هذا المجال، فإن المشهد الشيعي السياسي إزاء نظرية ولاية الفقيه كالتالي:
* أحزاب تؤمن بولاية الفقيه وترجع دينيا إلى الفقيه الحاكم «آية الله خامنئي». وأبرزها مجموعة حزب الله في لبنان (وهنا تجدر الإشارة إلى أن حسن نصر الله نفسه اعترف بذلك وفاخر) والخليج، إضافة إلى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
* أحزاب تؤمن بدور إشرافي للفقيه، على أساس نظرية ولاية الفقيه العامة أو في إطار الالتزام التقليدي بالمرجعية الدينية، لكنها لا ترجع إلى آية الله خامنئي، ومن بينها منظمة العمل الإسلامي، وحزب الفضيلة، والتيار الصدري، وجمعية العمل الإسلامي في البحرين.
* أحزاب تلتزم بالإطار الديني لكن من دون دور خاص للفقهاء. ويدخل في هذا الصنف حزب الدعوة، وجمعية الوفاق الوطني في البحرين.
ويشير السيف إلى أن التحولات التي طرأت على محيط العمل السياسي لهذه الأحزاب في دولها الوطنية لها دور في تهذيب وتطوير وتشذيب النظرية أو تطبيقاتها، ومن أمثلة ذلك حالة المجلس الإسلامي في العراق الذي أزاح من اسمه كلمة «الثورة الإسلامية» ومثله حزب الله الذي أزاح من وصفه كلمة الثورة الإسلامية بعد اتفاق الطائف (1989)، ولكن هذا لا يعني سقوط الغاية الأساسية في إقامة الشرعية الإمامية التي يشرف عليها الولي الفقيه، بل يعني أخذ معطيات الواقع في الاعتبار، فالمتحول هو التكتيك وليس الاستراتيجيات، تماما كما أن الإخوان المسلمين، في الإطار السني، لم يتخلوا عن الهدف الأكبر في إقامة الشرعية الإسلامية من خلال دولة الخلافة، ولكن يختلفون عن غيرهم من الأحزاب الأصولية السنية في التدرج والتكتيك.
نظرية ولاية الفقيه نقلت الإمكان الشرعي الشيعي من حالة «الأمنية» بالعدالة، وكونهم صوت اعتراض دائم إلى موقع الحكم بدولة وسلاح وصواريخ وأنماط اجتماعية وصيغ حياة، إنها تشبه تفجير الذرة في تاريخ الأفكار. (الشرق الأوسط 2009/6/5).
بالعودة إلى مفهوم الجهاد لدى الشيعة :
لقد أكدت المصادر الأصلية للشيعة على كراهية و حتى حرمة الخروج للجهاد تحت أي راية إلا راية الإمام المنتظر صاحب العصر و الزمان , و مما ورد في ذلك :
روى الكليني في “الكافي” (8/295) عن أبي عبد الله قال: “كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله عز وجل”.
وذكر هذه الرواية الحر العاملي في “وسائل الشيعة” (11/37).
أليس حسن نصرالله وفق منطوق هذا الحديث هو طاغوت ؟
وروى الطبرسي في “مستدرك الوسائل” (2/248) عن أبي جعفر قال: “مثل من خرج منا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار ووقع من وكره فتلاعبت به الصبيان”.
وروى الحر العاملي في “وسائل الشيعة” (11/36) عن أبى عبد الله قال: “يا سدير، إلزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك”.
وفي “الصحيفة السجادية الكاملة” (ص16) عن أبي عبد الله قال: “ما خرج ولا يخرج منا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلا اصطلته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا”.
بمراجعة ما سبق نرى أنه كان لا بد من إستحداث أحكام جديدة عند الشيعة بما يتيح لأصحاب السلطة من رجال الدين الإلتفاف على تلك النصوص الصريحة التي تحرم الجهاد قبل ظهور المهدي.
و كان لا بد إبتداءً من إيجاد منصب أو مرتبة دينية تضع نفسها في مقابل مقامات مشرَفة عند الشيعة كمقامات الأئمة,فكانت بدعة الولي الفقيه .
و لكن حتى الخميني الذي يُعتبر صاحب النظرية الحديثة و الأكمل لولاية الفقيه جعل سلطة هذا الولي في إعلان الجهاد خصوصاً مقيدة و ليست مطلقة , إذ يقول في “تحرير الوسيلة” (1/482): “في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر – عجل الله فرجه – الشريف يقوم نوابه العامة وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في إجراء السياسات وسائر ما للإمام إلا البدأة بالجهاد”.
و لعل إتهام حسن نصر الله للمعارضة المسلحة السورية بإستهداف المقامات الشيعية و إستهداف الشيعة في بعض القرى يهدف للتماشي مع فتوى الخميني المذكورة, و تشكل اللبنة الأخيرة في سلسلة تبريرات للدخول في الحرب الجارية في سوريا, في خلط واضح بين ما هو سياسي و ما هو ديني من ناحية, و في تحد صارخ لأصول المذهب من ناحية أخرى .