الرأسمالية البيئية إزاء الدولانية البيئية
بقلم: دولاند إل. ليل
قد يكون ما ذهب إليه مايكل كيلوج في مقاله الموسوم “بعد البيئوية” من “أننا جميعاً بيئويون” صحيحاً، ولكن من غير الصحيح أن تتقبل سياسة الأمر والسيطرة لأجل أن تكون بيئوياً. ومع ذلك، فان الاختبار الحامضي الأساسي (اختبار الليتموس) لقياس درجة الاخضرار، بالنسبة للاتجاه السائد للبيئويين، هو قبول المزيد من الحكومة لتحقيق غاياتٍ بيئية. فكثيراً ما ينادون بالمزيد من التنظيم البيئي، والمزيد من التملك الحكومي للأراضي، الى أقصى حد ممكن. إلا أن العبرة من بيئوية السوق الحرة هي أن المزيد من التدخل الحكومي ليس بالشيء الضروري لتطوير نوعية البيئة وجودتها، بل ربما يكون ذلك ضاراً بتلك الغاية.
أما هؤلاء الذين يرفعون شعار الدولانية البيئية فيميلون الى الفكرة القائلة بأن العصا أفضل من الجزرة عندما يتعلق الأمر بحقوق أصحاب المُلكية الخاصة. فيتجاهلون النمو المتفاقم في العقد الأخير في أسواق التسلية (أسواق الاستجمام والسياحة)، ولا سيما في صيد السمك وأجور الصيد، التي قادت أصحاب الأملاك، مثل شركة الورق الدولية—وهي مالكة لغابة صناعية كبرى—إلى تربية أو رعاية مصادرها وممتلكاتها البيئية. وعلى العكس من ذلك، كان التنظيم وعلى الدوام خط دفاعهم الأول ضد أصحاب الأملاك. وليس غريباً ان ينظر أصحاب الأملاك الى الأجناس المهددة بالانقراض والمستنقعات على أنها معوقات وليس موارد قيّمة. وليس من الدهشة بمكان أن يقول مربو المواشي في شمال غرب مونتانا في سرهم، ولأجل انتعاشهم المالي، أن العلاج الأنجع للدببة الرمادية والذئاب التي في أراضيهم هو أن “تطلق الرصاص، تدفن وتسكت”. في غضون ذلك، يستمر الصخب لأجل الحصول على المزيد من التشريعات المقيدة، والمزيد من الدعاوى القضائية، والمزيد من التعدي الحكومي.
لقد أظهرت إدارة متنزه يالوستون الوطني، مفخرة نظام متنزهاتنا وحدائقنا العامة وجوهرة تاجها، أن السيطرة الحكومية على وسائل الترفيه أخذت تنحى منحى جنونياً. ويقدم العلماء المستقلون البراهين الدامغة على أن سياسة الحدائق أو المتنزهات التي تترك للطبيعة حرية تنظيم الحياة البرية للمتنزهات قد قذفت بعلم دراسة الأحياء البيئية في المتنزهات إلى هاوية سحيقة. فأشجار الحور والصفصاف تلتهمها حشود من الأيائل الجائعة التي تفوق حد نموها. أما القندس، ذلك النوع الذي يعتمد على شجر الحور والصفصاف، فقد اختفى تماماً من المتنزه. بالاضافة إلى ذلك، هناك سياسة يالوستون المتنورة في معالجة الحرائق التي استبدلت 70 عاماً من إخماد الحرائق ومنشأة الوقود الكبيرة بسياسة الـ(دعه يحترق) غير المعقولة. لقد كانت مسألة وقتٍ ليس إلا، قبل ان تلتهم النيران—كتلك التي نشبت عام 1988—أكثر من نصف غابات المتنزه الأصلية القديمة قدم الأزل. واليوم مازال مديرو يالوستون يتخبطون مع مهمتهم المزدوجة في حماية موارد المتنزه ومنح الجمهور صلاحية تامة للوصول. في غضون ذلك، كانت حشود الناس الذين يرتادون المتنزه، يدوسون طرقاته المتخمة للسواقي الطبيعية القديمة، ويحتشدون في طرق المرور السريعة المتدهورة، وكثيراً ما يتصارعون مع الحياة البرية. وعلى نفس المنوال، إن لم يكن اسوأ منه، فإن المشكلات التي كانت تحدث في نظام المتنزهات كانت قد وُصفت على نحو وافٍ من قبل مسؤولي المتنزه على أنها مناطق خضراء. وباختصار، فان سجل السيطرة السياسية على الموارد الطبيعية وعلى البيئة لم يكن أساسياً متميزاً، وهذا أقل ما يمكن أن يقال بحقه.
وفي ضوء الإخفاقات العديدة، علينا أن نسأل لماذا يعتبر العديد من العلماء وأخصائيي البيئة سياسات الأمر والسيطرة الاختبار الحامضي الأساسي لقياس درجة الاخضرار. وجوابنا هو أن هذه السلطات القسرية هي فقط من يسمح للبيئويين بالحفاظ على نقائهم في أرض أحلام خيالية، دون أية كلفة تذكر بينما يتحمل الآخرون تكاليف هذا النقاء. ولكن هذا في سياق التطور النفطي في المناطق الأصلية القديمة (غير المفسدة بالتدخل البشري) مثل المنطقة الوطنية القطبية الشمالية للحياة البرية. البيئويون الحقيقيون “يقولون كلا فقط”. لا يستحق أي نفط كان تدنيس البيئة أو انتهاكها؛ “إن تكلفة البيئة” ليست بذات علاقة تذكر لأنها تضمر رغبةً في القيام بالتناوب أو المقايضة.
ليست المقايضة لبعض الإزعاجات البيئية من أجل الموارد النفطية نقية خالصة بما فيه الكفاية، حتى إن أمكن استخدام تلك الإيرادات لخدمة بعض القضايا البيئية الأخرى. وهذا يفسر السبب وراء عدم شعور العديد من أعضاء جمعية اودوبون الوطنية بالفخر والاعتزاز لحقيقة أن الجمعية تغاضت عن، أو سمحت بتطوير صناعة النفط والغاز في بعض من محمياتها الخاصة بينما عارضت تطويرها في الأراضي الاتحادية (الفيدرالية).
ومن الاستثناءات القليلة لسياسة الأمر والسيطرة التي لاقت القبول مؤخراً في المجتمع البيئي هي الحلول المستندة الى السوق، مثل إجازات (تصاريح) التلوث القابل للاتجار. وهذه متفق عليها على الأقل بدرجة قليلة من اللون الأخضر من قبل البيئويين الرئيسيين لأنها مازالت “تسمح للحكومة بالقيادة”. ولكن الحلول المستندة للسوق، في واقع الحال، لا يربطها شيء بالأسواق؛ فما هي إلا طرق أخرى لجعل الأمر والسيطرة أكثر فاعلية. لقد حظيت مثل هذه الحلول المستندة الى السوق لبعض الوقت بتأييد الاقتصاديين الذين أشاروا الى ان هذه الحلول تطور الكفاءة. وفي ظل نظام الإجازات القابلة للتجارة، سيكون لدى الطرف الذي يحمل إجازة أو إذناً الدافع لتقليل معايير تلوثه وبيع الاجازة إذا ما استطاع فعل ذلك بفائدة معينة. وهذا سيقلل من كلفة مطابقة معايير التلوث من خلال تشجيع هؤلاء الذين لديهم أقل قيمة ممكنة من تقليل التلوث على القيام بذلك.
وعلى خلاف السوق، فأن مستوى التلوث لا يحدده، على كل حال، المشترون الراغبون والبائعون الراغبون، ولكنه يُحدَّد بالأمر والسيطرة. إن سوق التلوث يجبر الملوِّث بأن يدفع للمستلم في صفقة طوعية. أما إذا كان المسبب للتلوث راغباً في أن يدفع أكثر من الكلفة التي يحملها المستلم، فسيجري انبعاث المزيد من التدفق. وهذا يتطلب نظاماً من حقوق المُلكية المحددة بشكل جيد ونظاماً من قانون الأضرار العام الذي يجبر المتسبب بالتلوث على دفع تعويضات عن أية أضرار يتسبب فيها. من ناحية أخرى، فإن الحلول المستندة إلى السوق تؤسس مستوى التلوث من خلال عملية سياسية لا يُدفع فيها كتعويض سوى القليل، أو لا يدفع شيئاً مطلقاً، لهؤلاء الذين سيستقبلون التلوث. من الحقيقي فعلاً أن الحلول المستندة إلى السوق يمكنها أن تجعل التوافق أو التطابق مع حدود التلوث المسموح بها والمفروضة من قبل الحكومة أكثر فاعلية، أما اختصاصيو البيئة من أنصار مذهب السوق الحرة فيحبذون ويستحسنون هذه المنجزات في الكفاءة. ولكن يجب أن لا نشكك بالحقيقة القائلة بأن عملية تحديد مستوى التلوث لابد أن تكون عملية سوق محضة.
إن بديل البيئة الدولانية هو بيئوية السوق الحرة. وكما لاحظ كيلوج فإن بيئوية السوق الحرة تبدو مثل “تناقض ظاهري” فقط لأنها لا تعتمد على يد الحكومة القسرية التي تقود دفة القارب بالقوة. وبدلاً عن ذلك، تعتمد بيئة السوق الحرة على حقوق المُلكية وقانون العقود والأضرار، حيث يحدد الباعة والمشترون المضمار أو السياق من خلال اتفاقهم على تبادل حقوق المُلكية. ففي سياق بيئة السوق الحرة، لا يكون التلوث تلوثاً طالما كان الذين يستلمون المنتجات الجانبية (المخلفات) يتلقون تعويضاً عما هو غير مرغوب فيه من قبل الآخرين. لذا فان العلامة المكتوبة على شاحنة المخلفات تقرأ: “قد تكون أزبالاً بالنسبة لك، ولكنها خبزاً وزبداً بالنسبة لنا”.
تعتمد بيئة السوق الحرة على منطلقين: الأول، هو أن الأسواق الحرة توفر مدخولات أعلى، من شأنها بالتالي أن تزيد الطلب على الجودة البيئية. ولا ينكر سوى القليلون أن الطلب على الجودة البيئية قد تزايد بشكل درامي في الخمسة والعشرين سنة الماضية، وهناك إجماع حقيقي على أن السبب وراء هذا التزايد هو الإيرادات المتزايدة. وتظهر الدراسات الحديثة أن العلاقة بين دخل الفرد الواحد من السكان وجودة البيئة تتبع نمط “منحنى حرف جيه J”. ففي المستويات الواطئة جداً من الدخل، تكون نوعية البيئة مرتفعة لعدم إنتاج أي تدفق. وبارتفاع الدخول أو الواردات إلى أكثر من الحد الأدنى، يزداد الملوِّثون فتتدهور البيئة. ولكن بعد ذلك، عندما يقترب دخل الفرد الواحد إلى خمسة آلاف دولار في العام، تبدأ نوعية البيئة بالتحسن فتكون جيدة بشكل مترف. أما فوق ذلك المستوى من الدخل، فتظهر التخمينات التي أجراها دون كورسي من جامعة واشنطن في سانت لويس ان لكل 10% من الزيادة في الدخل، هناك 30% الى 50% من الزيادة في طلب الجودة البيئية. قد نكون جميعاً بيئويين الآن، ولكن السبب ليس في تجربة متجددة في وولدين بوند، ولكنها الزيادة في الثروة الناتجة عن الأسواق الحرة التي أعطتنا المال الكافي لتحمل نفقات الترف البيئي.
أما درع الوقاية الثاني لبيئوية السوق الحرة فهي أن أسواق الملطفات البيئية توفر البواعث أو الدوافع للأفراد لكي يتعاملوا مع البيئة على أنها مورد أو مصدر قوة أكثر منها عائقاً. ويقر كيلوج بأن شيئاً ما قد يحدث لبيئة السوق الحرة حيث “أن السوق يمكن أن يأخذنا إلى أي مكان نريد الذهاب إليه”. إلا أن هذا لا يدرك المشكلة الأساسية التي تواجهها مخططات بيئوية السوق الحرة: الى أين نريد الذهاب؟ يزعم البيئويون القسريون أنهم يعرفون إلى أين علينا أن نذهب، ويستخدمون سلطات الحكومة لأخذنا إلى هناك. فبالنسبة لهم ليس هناك حياة برية كافية على الإطلاق، والأنواع يجب أن لا تنقرض، والتلوث يجب أن لا يتواجد. إذا ما تأكد ذلك، فلماذا لا تستخدم سياسة الأمر والسيطرة؟
أما البيئيون من أتباع السوق الحرة فلا يزعمون أنهم يعرفون الشيء الذي يجب فعله. فذلك يحدده الفعل الإنساني الذي يتكشف في التعامل الطوعي حيث توفر الأسعار دوافع للمشترين والبائعين الراغبين في الحصول على غاياتهم المتبادلة. وكما قال كيلوج: “إذا أراد أحد أن يشتري وادي يوسيمايت وأن يقيم عليه شققاً سكنية… عند ذاك ستكون هناك شققاً سكنية”. ليس لدى بيئويي السوق الحرة أية مشاكل مع هذا الاستنتاج، إلا أن هذا لا يعني أنهم بالضرورة يفضلون الشقق على وادي يوسيمايت. (لا شك أن وادي يوسيمايت الأصلي ليس كما نعرفه الآن تحت سياسة الأمر والسيطرة، مما قد يجعل الشقق ذات طبيعة برية أكثر منها مأهولة بالناس في ظل الإدارة البيروقراطية). يقول أخصائيو البيئة من أتباع مذهب السوق الحرة أنه إذا لم يستطيعوا أن يرفعوا السعر (في المزايدة العلنية) على محبي الأسهم لأية استخدامات يفضلون، عندها يتم الكشف عن التفضيلات المقيدة بالموازنات المالية.
وهنا عادة ما يظهر نوعان من الانتقادات؛ أحدهما تقدم به كيلوج أما الآخر فلا. أما الذي لم يتقدم به كيلوج فله علاقة بتوزيع الثروات. طالما كان الأغنياء يمتلكون ثروة أكثر من الفقراء، لاشك أنهم سيزايدون على الفقراء—كما يقال—في نظام السوق. ولكن الحقيقة هي أن الأغنياء لا يفوزون أو ينتصرون على الدوام. إذ قد يفضل الأغنياء السيارات الفارهة كالـ(ليكزس) على سيارات الجيو، ولكن الأخيرة مازالت تنتج وتبيع، والحق أن هنري فورد أصبح ثرياً من خلال إنتاجه للجماهير الواسعة، وليس للنخبة أو لسوق الأثرياء. إذا ما كانت جودة البيئة مطلوبة من قبل المستهلكين من أبناء الطبقات ذات الدخل الواطئ أو المتوسط، فسيثرى المجهزون من خلال توفيرها (أي جودة البيئة). وبالطبع، إن لم يكن ذلك ما يريده الناس في الواقع (على عكس ما يعتقده البيئيون القسريون من أنهم يريدون ذلك)، فان السوق “سيفشل”. إضافة الى ذلك، لا تختلف المشكلات التوزيعية المتعلقة بالبيئة عن تلك المتعلقة بالطعام. إن كان هناك أناس فقراء، فلا شك أن إعطاءهم المال وتركهم ليقرروا ما إذا أرادوا مناطق برية خضراء أو متنزهات مائية. وعلى كل حال، فإن البيئيين القسريين يرون عموماً أن لهم (أي الفقراء) تفضيلات خاطئة.
أما الانتقاد الثاني الموجه لترك التعاملات الطوعية تحدد نوعية البضائع البيئية التي سيتم انتاجها فهو أن “بعض الأشياء لا يجب أن ترجع ببساطة إلى الأمور المالية. فبعض الأشياء مقدسة، أو يجب أن تكون مقدسة”. وهنا تتجلى وتشرق الألوان الحقيقية للبيئيين القسريين. فلأنهم يعرفون ما هو المقدس، سيجبرون هؤلاء الذين ليست لديهم رؤية صحيحة للقيام بما هو صحيح، دون ارتياب أو تأنيب ضمير. ففي اللغة الدارجة للبيئيين القسريين، للبيئة قيمة جوهرية يعرّفها كيلوج على أنها “قيمة مستقلة عن اختيارات بعض الأفراد المعينين، وهي بذلك تتسامى على اعتبارات السوق”. إن ما يعنيه بهذا بالضبط هو أن القيم الجوهرية (التي تحل محل القداسة الروحية) هي قيم مطلقة غير محدودة، لذلك لا يمكن الاتجار بها إزاء قيم أو استخدامات أخرى؛ فهي الورقة الرابحة. إذن، ليس من الغرابة بمكان أن لا تستطيع بيئوية السوق الحرة، في شكلها الحالي، أن تأخذ القيم الجوهرية في نظر الاعتبار.
إن حل كيلوج هو أن يكون هناك “جدل شعبي عام يمكن فيه التفكير في القيمة الجوهرية والنظر فيها من قبل المجتمع بأسره، وليس مقايضتها أو تبديلها في التعاملات الخاصة للأفراد”. وهنا مرة أخرى، تقوم خدعة يدوية بإظهار كل شيء بمظهر حسن. من هو ذلك المجتمع؟ وما هي العملية التي تمّكن كل المجتمع من التصويت؟ ترى بيئية السوق الحرة أن المجتمع هو ببساطة مصطلح ذرائعي للحلول السياسية المليئة بالإخفاقات التي تضاهي في الأقل إخفاقات “التعاملات الخاصة بالأفراد”.
إن قمة تمبر التي أجرتها إدارة كلينتون، والتي قام بها الناس بالتعبير عن القيمة الجوهرية لمشاهدتهم لبعض طيور البوم، بينما كانت الحكومة تستمع لذلك، تقدم مثالاً للطريقة السياسية التي نادى بها كيلوج. وفي النهاية، مُحيت مساحة تقدر بأكثر من سبعة ملايين أكرة من أراضي الغابات الأصلية لإنتاج الخشب، مكلفة آلاف المهن والأعمال في شمال الغرب، ومقترَحاً لبرنامج “تشغيل المترف” للعمال الذين يوضعون في غير أماكنهم المناسبة. لقد كانت سياسات متوحشة تلك التي قام خلالها البيئيون بإلحاق الهزيمة بمنتجي الخشب. وعلى أقل تقدير، سيكون الجدل حول الطرق البديلة لإنتاج الملطفات البيئية أكثر صدقاً إذا ما أدركنا أن البيئية القسرية تستبدل السياسة بكافة مساوئها وعيوبها بالحرية مهما كانت ناقصة.
يرى كيلوج أن قَدم أخيل [نقطة ضعفه القاتلة] بالنسبة لبيئوية السوق الحرة هي التعاملات التجارية الطوعية التي تتطلب حقوق ملكية، وأن تأتي حقوق الملكية من الحكومة. وهنا مرة أخرى تفوته نقطة بالغة الأهمية تتعلق بتطور حقوق الملكية هي—على وجه التحديد—أن هذه الحقوق تستطيع التطور وتتطور فعلاً عبر قانون العقود الخاصة والأضرار. وتكثر الأمثلة على تطور حقوق الملكية من خلال الرسوم الجمركية والقانون الخاص في غرب أمريكا. فحقوق المعادن وحقوق المياه، على سبيل المثال، تطورت وازدهرت في معسكرات المناجم والأقاليم الاروائية قبل أن يؤسس بيروقراطيو الحكومة حضورهم في مقاطعات ورؤوس أموال الولاية بوقت طويل. مازالت مثل هذه الحقوق للملكية تشكل الأساس في تسويق المياه. وفي جميع الولايات الغربية، هناك نظام أولوية تخصيصية (استيلائية) لحقوق المياه مختلف تماماً عن تقاليد الضفاف (ذات العلاقة بضفاف الانهار) الشرقية، يسمح للطرفين بنقل الماء إلى استخدامات بالغة الأهمية بينما يحميها من الانتهاكات أو الأضرار التي قد يتسبب فيها طرف ثالث. ولسوء الحظ، فأن العديد من القوانين العامة، كتلك التي تمنع بيع المياه لاستخدامات جداول الاستجمام والترفيه، قد حصلت أو صدرت عن طريق تعاملات السوق. إن الرجوع الى تأسيس حقوق الملكية عبر عملية القانون العام سيساعد في حل مشكلات حقوق الملكية التي تقلق كيلوج.
وكما ذكر روجر مينيرز وبروس ياندل في كتابهما الموسوم “التعامل الجاد مع البيئة”، تبين السجلات التاريخية ان حقوق الملكية يمكن أن تتطور، بل إنها تتطور فعلاً، عن طريق القانون العام وأن تلك القواعد العامة تحمي الأفراد حقاً وتدافع عنهم ضد التلوث وضد المظاهر البيئية الخارجية الأخرى. ونادراً ما يدرك المسؤولون الحكوميون الحاجة الى حقوق الملكية. والحق أن معظم هذا التطور حدث في عصر كانت فيه التكنولوجيا أقل تعقيداً بشكل كبير، وكان فيه الحصول على المعلومات حول الأخطار الكامنة للتلوث أقل كلفة. لا شك أن التنفيذ يتطلب إجباراً حكومياً، ولكن هذا التنفيذ صرخة بعيدة كل البعد عن الإبداع المنهجي وإعادة توزيع حقوق الملكية بالاستناد إلى كلف التعامل التجاري التي اقترحها كيلوج والتي نُسبت خطأ إلى رونالد كوز الحائز على جائزة نوبل.
تدرك سياسة السوق الحرة المتعلقة بالبيئة أن الرأسماليين البيئيين هم الذين اكتشفوا السوق الكامنة في تعريف حقوق لياقة البيئة وملائمتها، فاستثمروا اكتشافاتهم بطريقة رأسمالية من خلال تأسيس حقوق الملكية. على سبيل المثال، حاولت منظمة حماية الطبيعة مؤخراً أن تشتري وتسحب حقوق الرعي في الأراضي الفيدرالية في نيو مكسيكو. ورغم أن الحكومة قد تكون هي التي أوجدت حقوق الرعي في الأراضي المشاعة، إلا أن مقاولات منظمة حماية الطبيعة هي التي حاولت إضافة عصا جديدة الى حزمة الحقوق. ومن الممتع في الأمر أن أحد القضاة في وزارة الداخلية لم يسمح للتعامل الطوعي المصمم لغرض تحقيق غاية بيئية.
بينما كان صاحب المبادرة البيئي توم بورلاند يعمل بصفة خبير أحيائي في منظمة إنترناشيونال بيبر، قام أيضاً بابتداع أو إيجاد عصي جديدة في حزمة حقوق الملكية. فمن خلال جهوده لمنع التجاوزات، أو تسويق أو بيع حقوق الصيد أو تأجير الأراضي لأغراض الاستجمام والترفيه، كان بورلاند قادراً على تحويل الملطفات البيئية إلى أصول تحفز الشركات على الاحتفاظ بها. أخذت قائمة الرأسماليين-البيئيين بالتنامي والازدياد بتزايد قيمة الملطفات البيئية ولم يكن يقيدها سوى خيال أصحاب المبادرة.
إن بيئة السوق الحرة تتحدى الوضع الحالي من خلال تقديم طريقة “لإعادة التفكير بالطريقة التي نفكر بها” حول المشكلات البيئية. يوافق الكثير منا على أن من الأفضل ترك الطعام والسكن وإنتاج اللوازم الضرورية الأخرى للسوق. لماذا لا تترك للبيئة؟ حتى المشكلات البيئية تقدم وضعاً نافعاً لصاحب المبادرة البيئي الذي يستطيع تعريف وتعزيز حقوق الملكية. وقد تُطلب الحلول السياسية في القضايا التي تكون فيها تكاليف تأسيس حقوق الملكية لا يمكن السيطرة عليها، وليس هناك من سبب يدعو للبدء بالمنطق القائل بأن منهج الأمر والسيطرة هو فقط من يستطيع إنتاج جودة بيئية. وعلى العكس، تشير بيئة السوق الحرة إلى أن هناك دائما “بيروقراطية ازاء البيئة” وأن الحلول السياسية تتخندق بشكل يجعلها تقف في طريق أية حلول تجارية خلاقة يقدمها السوق. إن التغلب على النمط الفكري للدولانية البيئية ليس بالأمر اليسير، لأن ذلك كان النموذج البارز لتشكيل السياسة البيئية لما يقارب القرن من الزمن. يتطلب التحرك إلى ما وراء الوضع الحالي تشكيل تحالفات جديدة ومغادرة المنظومة المناوئة للسوق.
لقد حدث هذا في تحديد حصص المياه، لأن المحافظين الماليين والبيئويين قد وجدوا أرضية مشتركة. إن التدخلات الفيدرالية في مشاريع المياه الكبرى المصممة لجعل الصحراء تزهر مثل وردة، لم تعبر خط دراسات الجدوى، بل وكثيراً ما كانت تتسبب في دمار بيئي. ولهذا السبب، تم إحداث بعض التطور في إزالة حصص المياه من أجندة السياسة وتحويلها الى قوى السوق. وحتى في حالة تدفق الأنهار لإغراض بيئية، هناك أدلة متنامية على أن أداء الأسواق يمكنه أن يفوق أداء السياسة.
“جميعنا بيئويون الآن” لأننا في الولايات المتحدة وفي بعض البلدان الغربية الغنية نستطيع تحمل طلب الجودة البيئية (على عكس الأمر فيها). إن المنطلقات الأساسية لبيئة السوق الحرة هي: أولاً، إن الجودة البيئية تأتي مع تزايد الثروة، وثانياً، إن السوق الحرة توفر البيئة المحفزة لزيادة الثروة ولإنتاج الملطفات البيئية. إذا ما استمر البيئيون القسريون بأجنداتهم النخبوية في السيطرة على السياسة البيئية، سيكون من المحتمل أن يكون لدينا في نهاية المطاف ثروة قليلة وملطفات أقل عدداً. ومن بين الخيارات الثلاثة التي استعرضها كيلوج، هناك فقط خيار سياسة بيئة السوق الحرة الذي يوفر للجميع منظاراً مستقبلياً للمزيد من الثروة، والمزيد من الملطفات، والمزيد من الحرية وهو أكثر الموارد ندرة.