ميشال كيلو ووعد السنوات السبع في سورية
في 15/7/2013 بثت قناة «الجزيرة» لقاءً مع الكاتب السياسي ميشال كيلو الذي يمثل القائمة الديموقراطية في «الائتلاف»، والتي أصبحت تسمّى «كتلة ميشال كيلو». أجرى اللقاء المذيع الشهير تيسير علوني، العائد إلى الجزيرة بعد سجنه سنوات بتهمة العلاقة بـ«القاعدة».
جاء اللقاء بعد سلسلة لقاءات أجراها علوني مع قادة الكتائب الإسلامية المقاتلة في سورية. وكان السؤال الرئيس لكل تلك اللقاءات عن شكل الدولة القادمة في سورية وكانت إجاباتها واحدة: الدولة الإسلامية.
لقد أظهر تكرار لقاءات القادة الإسلاميين انحيازاً لتيار لم يكن أصلاً موجوداً بشكل ملحوظ مع بداية الثورة السورية، التي رفعت شعار الحرية في وجه نظام الاستبداد. وقد شكّل التركيز الإعلامي هذا على مشروع الإسلاميين في «دولة الخلافة» غياباً فاضحاً لممثلي الدولة المدنية التي خرج مئات الآلاف من السوريين للمطالبة بها وبالحرية والكرامة وتغيير نظام الاستبداد إلى نظام ديموقراطي تعددي. فكان لابد من الحديث مع «الرأي الآخر». وبالطبع اختير الأستاذ ميشال كأحد أبرز ممثلي هذا التيار. لكن اللقاء لم يأت- برأيي- بما كنا نأمل، حيث حمل الكلام التلقائي والفكري السياسي في الوقت نفسه، الذي يتميّز به الأستاذ ميشال، أطروحات لقضايا مهمة بدا بعضها غريباً، لكنه بالطبع يستحق النقاش.
بعد توصيف أصبح مكرراً لواقع الائتلاف والعلاقة بالخارج والتدخلات الإقليمية في المعارضة السورية، يبيّن لنا الأستاذ ميشال خطة المرحلة الانتقالية المؤلفة من مراحل عدة: الأولى هي سقوط أصحاب الحل الأمني الذين «قاموا بتدمير سورية وهم عبارة عن 150 شخصاً فقط». ثم مرحلة سقوط النظام باجتثاث جذور الاستبداد من الدولة والمجتمع «والقلوب والعقول». وتتأسس هذه المرحلة على حكومة وحدة وطنية جامعة تبدأ منذ الآن وتكون مهمتها إعادة اللحمة لأبناء الوطن وإحياء الوطنية السورية وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس ديموقراطية، لكن برفض التعاون مع المؤسسة العسكرية، خلافاً لما ورد في مسودة البرنامج السياسي للمجلس الوطني، لأنه أمر غير منطقي برأيه فالجيش هو «الركن الركين للنظام».
وبعد سنوات عدة «من ثلاث إلى خمس إلى سبع سنوات» وفق الأستاذ ميشال يمكن الوصول إلى مرحلة النظام الديموقراطي. ومن خلال بعض الجمل المنثورة هنا وهناك أثناء اللقاء علينا أن نفهم من بعض الومضات أن المرحلة الديموقراطية هي مدنية وبمواطنة متساوية. لكنه رداً على السؤال المتكرر في كل لقاءات علوني عن الدولة الإسلامية يقبل الأستاذ ميشال أن نحكم بالإسلام.
لن أدخل في نقاش حول واقع الائتلاف ووقوعه في تجاذبات وتدخلات إقليمية ودولية، بعد رفض النظام حلول الداخل بالتغيير. لكن رغم توصيف الأستاذ ميشال الذي أتفق معه للموقف الأميركي «الساعي لتدمير سورية بأيدٍ سورية وسلاح روسي استكمالاً لتدمير المشرق العربي لتبقى إسرائيل المهيمنة والمسيطرة». ورغم براعته في دخول الحوار من باب نقد حال الائتلاف وحكاية تجربة توسعته التي قادها ميشال كيلو وتدخل الدول والسفراء «لدرجة أننا صرنا نتفاوض معهم مباشرة في الموضوع»، إلا أن هذا لا ينفي ما يقال عن أن التركيبة الأخيرة للائتلاف جاءت بدعم للأستاذ ميشال بعد تراجع قوة إقليمية كانت مسيطرة.
وبالنتيجة فإن مجمل الحديث عن الائتلاف يلخصه تفنيده لكذبة جنيف ورفض النظام أصلاً لها لأنها تسعى لتغييره. وأن الدول الكبرى غير جادة في هذا المجال. أما الحل فيكمن بتلاحم السياسي والعسكري. «السياسي الموحد من فوق والقاعدة العسكرية الموحّدة المنضبطة من تحت». كل هذا يبعث على التفاؤل لكنه يطرح في الوقت نفسه أسئلة كثيرة جدية عن قدرة الائتلاف على النهوض بهذه المهمة الجليلة، بخاصة بعد ما سبق من كلام نقدي واضح عن أن الائتلاف واقع تحت تجاذبات إقليمية ودولية تجعل فاعليته شبه منعدمة.
لكن النقطة التي أود أن أسجّل اعتراضي الكامل عليها هي ما أطلقُ عليه تسمية مرحلة «عتبة الديموقراطية» التي يقترحها الأستاذ ميشال للهروب – برأيي – من الحديث الواضح عن الانتقال الفوري إلى النظام الديموقراطي عبر جمعية تأسيسية ودستور وانتخابات حرة نزيهة في مدة لا تتجاوز العام. وتشرف على هذا حكومة موقتة من شخصيات مرموقة لا تشارك في أول انتخابات عامة، وتكون مهمتها الانتقال إلى الدولة المدنية (اللاعسكرية واللادينية) في نظام ديموقراطي تعددي.
السؤال المهم هنا لماذا علينا أن ننتظر كل هذه السنوات في نظام هلامي يقوم على الوحدة الوطنية و»اجتثاث الاستبداد» ؟ فمن سيحكم في هذه السنوات السبع العجاف «الخالية إلا من السعي نحو الديموقراطية» ؟
هل ستجرنا فكرة الوحدة الوطنية والتوافق إلى نظام محاصصة طائفي إثني لفترة من الزمن تتمثل فيها المكونات السورية المتعددة ؟ وهل يعني هذا طائفاً سوريةً؟ لكن النظام الذي نتج من الطائف على أنه مرحلة يقوم خلالها العمل على إنهاء الطائفية خلال مدة قصيرة، انتهى إلى نظام محاصصة طائفية بغيض يضع البلاد «لبنان» دائماً على حافة هاوية الحرب الأهلية.
الإسلام لا الأهواء
نأتي إلى الملحمة الشعبية لعيش السوريين الرائع خلال قرون من حكم الإسلام والتي أنشدها الأستاذ ميشال بقبول حكم الإسلام «شرط أن يحكمونا بالإسلام لا بأهوائهم». بالطبع الإسلام الوسطي المتسامح الذي لا يكفّر ولا يفرّق. حكم نجح في الماضي فلم لا ينجح الآن!.
لن أناقش هنا ما يسمى دولة الإسلام الممتدة 1400 سنة في تاريخ مليء بالاستبداد لقرون وعهود وشواهده كثيرة وهي مختلفة تماماً عما يقوله الأستاذ ميشال. لكني أعتقد، كمؤمن بالديموقراطية، أن التنازل عن الثوابت أمر غير مقبول. فقد اعتبر الأستاذ ميشال في مناسبات عدة أن من أهم ما جاء به مؤتمر القاهرة من مقررات هو أن هدف الثورة السورية قيام الدولة الديموقراطية التعددية بمواطنة متساوية «بغض النظر عن الإثنية أو الدين أو الجنس». ثم إن ما يسمى «حكم الإسلام» مهما حاولنا تزيينه يختلف تماماً عن الدولة المدنية وعن المواطنة المتساوية. فهو مفهوم غير واضح أصلاً، لأنه يعني حكم أشخاص باسم الدين، وهو أمر مرفوض، لأن هؤلاء يستغلون الدين لفرض استبداد بواسطة المقدس، والتجارب الكارثية ماثلة أمام أعيننا. وإذا كان المقصود هنا هو قبول وصول الإسلاميين كفريق سياسي إلى السلطة فهو يجب أن يتم بعد إقرار الدستور المدني بمواطنة متساوية، والذي يقدم آلية لاختيار الناس عبر صناديق الاقتراع النزيهة لتفويض موقت للحكم بناء على برنامج سياسي دنيوي. وإذا نجح حزب إسلامي من خلال هذا النظام فليحكم وفق مدة التفويض المعطاة له من الشعب والتي يمكن أن تنتهي بإرادة الشعب عبر الآلية نفسها. لكن إذا فرض بعد فوزه نظاماً يلغي الديموقراطية التي جاءت به، تحت شعار حكم الإسلام والشريعة وما إلى ذلك، فسيأخذنا إلى استبداد مقدّس هو أشد وألعن من الاستبداد القائم والذي ثار الشعب ضده مطالباً بالحرية.
لا بد هنا من لفت الانتباه إلى أن الإسلاميين ممثلين بالإخوان أصدروا في بداية الثورة «وثيقة عهد وميثاق» يوافقون فيها على الدولة المدنية الديموقراطية التعددية وتداول السلطة، تطميناً للغرب وإرضاء للتيار الشعبي الأقوى الذي خرج بتظاهرات سلمية من أجل الحرية وتغيير النظام الاستبدادي إلى نظام ديموقراطي بمواطنة متساوية. اليوم انقلبت الآية، وفق ما يعتقد البعض من تغيّر على الأرض، فأصبح ممثل التيار الديموقراطي يقبل بالدولة الإسلامية.
يصرح الأستاذ ميشال بقبوله هذا لتيسير علوني بعد لقاءات الأخير مع قادة الكتائب الإسلامية والتي هدفت – برأيي – إلى أمر وحيد هو الترويج لفكرة أن الدولة الإسلامية هي هدف كل الكتائب المقاتلة وأنها هي الفاعلة. واستكمالاً لـ «تحكيم صفين» المعاصر، يخلع الأستاذ ميشال « شرط الدولة الديموقراطية غير القابل للتنازل كما يخلع الخاتم، ليثبّت الإسلاميون قبول الدولة الإسلامية كما يثبت الخاتم».
وهكذا، وبعد كل التضحيات التي قدمها السوريون يعدهم «الممثل الديموقراطي» لهم في ائتلاف المعارضة أنهم بعد سقوط النظام سيحصلون على سبع سنوات هي «عتبة الديموقراطية». سبع سنوات غامضة الآلية في الحكم. ليلموا فيها شملهم ويتوحدوا ويتوافقوا، لكن كيف؟ إن لم يكن عبر نظام توافقي يقوم على المحاصصة وهو فعلاً أبشع أنواع الأنظمة كما نراها في لبنان والعراق. صحيح أن الأستاذ ميشال لم يقل هذا صراحة لكن لا تفسير – برأيي- لهذه المرحلة الغامضة لحكومة الوحدة الوطنية التوافقية سوى هذا المعنى. وإذا كان هناك معنى آخر أرجو أن يشرحه لنا بوضوح ودون تغليف لهلامية الطرح بالكلمات الكبيرة عن الوحدة الوطنية والتوافق وعودة السياسة للمجتمع وما شابه.
منذ مدة وأنا ألاحظ تهرّب ممثلي المعارضة من الطرح المباشر والجريء للسعي نحو الدولة المدنية الديموقراطية بمواطنة متساوية أمام قانون يعدّل ليصبح عادلاً وبفصل بين السلطات واستقلالية تامة للقضاء وحرية كاملة للتعبير وتشكيل الأحزاب. والالتفاف على المرحلة الانتقالية القائمة على انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً عصرياً يضمن الشعار الأساسي للثورة السورية: الحرية لمواطنين متساوين. ثم تقوم انتخابات برلمانية نزيهة ينجح فيها من ينجح ويعارضه من لم ينجح، وهكذا تعود السياسة إلى المجتمع من خلال الممارسة الديموقراطية. وتصبح الأكثرية والأقلية سياسية وليست دينية أو مذهبية أو إثنية، وهذا كله في مرحلة لا تتجاوز العام الواحد. أما بقية المهمات التي أسندها الأستاذ ميشال لحكومة الوحدة الوطنية في مرحلته الانتقالية الطويلة، فأعتقد أن الأَوْلى أن تقوم بها حكومة منتخبة مع معارضة قوية تراقب وتحاسب.
في النهاية أعتقد أنه لا يكفي التغني بعظمة المرأة السورية. ووضعها على رأسنا لا يحل مشكلة عدم وجودها في الائتلاف، على الأقل ضمن ممثلي التيار الديموقراطي، الذي قال الأستاذ ميشال أجمل الكلام في مدح النساء المنتميات إليه وإلى الثورة عموماً. الأعزاء ممثلي التيار الديموقراطي، بكل المحبة لكم أتمنى أن يبقى اتجاه بوصلة الثورة واضحاً ولا يدخلنا أي تحالف موقت، مهما كان مفيداً في اللحظة الراهنة، في مزالق السياسة التي ستضيّع تضحية آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمهجّرين والمفقودين والمنفيين واللاجئين، مع تدمير البيوت والبنية التحتية لجزء كبير من بلدنا الذي نحب: سورية.
* مخرج سينمائي وتلفزيوني سوري.
(المصدر : الحياة)