مستقبل الأكراد يرسمه مسار«جنيف 2»
النزاع الجدلي بين القومية العرقية والقومية الدينية تنامى في الفترة الأخيرة في شمال شرقي سوريا، مدعوماً بكل مفاصل المتغيرات التي ألمّت بالأرض السورية خلال العامين الماضيين.
فالجزيرة السورية منذ عقود، تعيش حال تيه بين الإنتماء إلى سوريا الوطن المحكوم بالقومية العربية التي يتزعمّها “حزب البعث العربي الإشتراكي”، والمحكوم برغبات وأحلام كل الجماعات المتواجدة في هذه المنطقة “أشوريين، أكراد، سريان، عشائر عربية، أرمن، كلدان، شركس…”.
تخيّلوا أنّ في الجزيرة السورية ملك لجماعة بشرية سورية “الأشوريين” متمركزة في منطقة “تل تمرز”، وعلى رغم ذلك، فإن هذا الملك خاضع لحكومة دمشق!!… أيضاً في الجزيرة 14 حزباً كردياً غير مرخّص لها بالإضافة إلى تيار المستقبل، وجميعها تمارس أنشطة وتجمع تبرّعات، في ظلّ حكومة “البعث” التي تستطيع اعتقال أي ناشط من هذه الأحزاب ضمن قرار أنّه ينشط في حزب غير مرخّص يهدد أمن الدولة القومي!!… أيضاً في الجزيرة السورية، هناك عدد كبير من العشائر العربية التي تدين بالطاعة والإحترام لرئيس العشيرة أكثر من طاعتها لرئيس الجمهورية!!…
باختصار شديد، إن من يزور الجزيرة السورية، يدرك أنّه في أرض مختلفة بشرياً وثقافياً عن دمشق وحلب ومدن سوريا كافة، ولكنّه يعرف أيضاً أنّ من يملك الجزيرة يملك إقتصاد سوريا الحقيقي “القمح، القطن، النفط، الغاز”، ويملك تنوعها الثقافي والفكري…
للأسف، فالسلطة السورية وعبر عقود، لم تمنح النور لهذا التنوّع الثقافي والفكري، لأنّها كانت مشغولة بتجميع الثروات، فأصبحت الجزيرة السورية مرتعاً للفوضى الإدارية، فصاحب القرار فيها هو عنصر الأمن، الذي لا يفهم إلّا لغة القمع والرشوة، ومع انتهاء دوره بعد انهيار “جمهورية الخوف”، أمست الجزيرة السورية بلا قيادة، فعمّت الفوضى.
الحلم الكردي
الكردي السوري إضطُهد تاريخياً، وكانت أكبر صفعة له، حينما قرر الرئيس السوري منح الأكراد “المكتومين والأجانب” الجنسية السورية عام 2011، فقرار المنح لم يأتِ، لأنّ الرئيس يدرك بأنّ الوجود الكردي حقيقي وأصيل في المجتمع السوري، بل جاء لهدف عدم إشراك الأكراد في الثورة السورية.
مفهوم الكرامة والحق للمواطن لم يكن واضحاً في نظرة الدولة للملفات الحساسة، كالملف الكردي. فالكردي الذي كان يدرس كتاب القومية العربية في كل مراحل دراسته، حُرم من التحدث بلغته الكردية أو الكتابة بها أو حتى الغناء بها. مجمل هذه الأمور جعلت في قلب الأكراد نوعاً من النقمة على العربي، الذي يحصل على جزء كبير من حقوقه الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، فيما الكردي لا يصله شيء.
لذا عندما اندلعت الثورة السورية، كان أمل الأكراد أن تحمل هذه الثورة إسماً جديداً لسوريا، كإسم “دولة سوريا الديموقراطية”، بدل أن يستمر إسمها مرتبطاً بالقومية العربية “الجمهورية العربية السورية”.
طبعاً هذا الأمر لاقى رفضاً من المعارضين العرب في المجلس الوطني السوري سابقاً، والإئتلاف حالياً. فأكثر السلاح الذي يأتي إلى الثوار هو من دعم دول عربية، ونزع إسم “العربية” من مشروع الدولة المقبلة، يعني تخلّي سوريا الجديدة عن ارتباطها بالجامعة العربية، وهذا ما لا ترضى به حكومات الخليج، الداعم الأول للثورة السورية.
كما لا ترضى به الدولة التركية التي تتخوف من تنامي النفوذ الكردي في سوريا، ليكون رديفاً آخر لحكومة إقليم كردستان العراق في دعم أكراد الأناضول للإنفصال عن الدولة التركية. لذا فإنّ تركيا تدعم مشروع الإسلام السياسي للتغيير في سوريا، مرجحة كفّة “القومية الدينية” في المنطقة على “القومية العرقية: العربية، والكردية”، وهذا أمر يتواءم مع مفاهيم فكر “حزب العدالة والتنمية” “الإخواني” التركي.
من هنا سعى المعارضون الكرد إلى تشكيل مجلس معارض خاص بهم تحت إسم “المجلس الوطني الكردي”، ليكون بمثابة هيئة كردية ترفض الإحتضان التركي والخليجي “للمجلس الوطني السوري”. وتمت مباركة هذا التشكيل من قبل الرئيس مسعود البرزاني في إقليم كردستان العراق.
حزب العمال الكردستاني وسوريا
تاريخياً، قدّم الكرد السوريون عدداً كبيراً من المقاتلين لحزب العمّال الكردستاني PKK، كما أنّ “بهوز ايردال” الزعيم العسكري للحزب رحل من سوريا ليستوطن في جبال قنديل، لمحاربة الجيش التركي. لذا فإنّ مقاتلي هذا الحزب هم جزء من المجتمع الكردي السوري، وهم يرفضون أن لا يكون للأكراد دور هام في سوريا الجديدة.
هذا الأمر أوضحه “صالح مسلم” زعيم حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي “ممثل PKK في سوريا”، عبر سعيه لمنع تشكيلات الجيش الحر الإسلامية من الهيمنة على مدينة رأس العين، وعموم المناطق التي ينتشر بها الكرد.
فخاض حرباً ضدها، وأعلن قبل أيام “النفير العام”، في مسعى منه لتوحيد كل الكرد تحت الراية القومية، متناسين النزاعات السياسية بين الأحزاب. وبالفعل، فإن الكثير من شبان أحزاب المجلس الوطني الكردي إنضموا تحت جناحه العسكري PYD، في تغليب منهم للقومية الكردية على ميول أحزابهم السياسية المعارضة للإتحاد الديموقراطي الكردي.
لطالما كان الإتحاد الديمقراطي الكردي غير محبوب تركياً، فهو تاريخياً مقرّب من السلطة البعثية أيام الرئيس حافظ الأسد، حيث كان يستخدمه كورقة ضغط على تركيا، لهدف نيل مكاسب بشأن ملف لواء اسكندرون. ومع تردّي الأوضاع السياسية بين دمشق وأنقرة حالياً، عاد النظام السوري لدعم هذا الحزب من مبدأ “عدو عدوي صديقي”.
وبدوره، فالإتحاد الديمقراطي الكردي العضو في “هيئة التنسيق الوطنية المعارضة”، لم يمانع بدعم السلطة المرحلي له، فهو يراهن من ناحية على سقوط النظام السوري دولياً، ومن ناحية ثانية يرى في الظرف الحالي فرصة جوهرية، ليكون الحزب الكردي الأول في الجزيرة السورية وشمالي حلب.
بناء على ذلك، بادر إلى إطلاق مشروع “إقليم حكومة كردستان الغربية”، وطرح مسودة دستور خاص به بهدف إدارته خلال هذه المرحلة الإنتقالية، وضمّ الى جانبه عشائر عربية، من أبرزها عشيرة “طيّ” الموالية للنظام. غير أنّ اللافت إعلانه عن هذه الحكومة، في ظلّ استمرار وجود الفروع الأمنية للنظام السوري في غالبية مدن ما يسمى “حكومة كردستان الغربية”، مما يدلل على توافق أمني بين صالح مسلم والنظام السوري…
طبعاً هذا الأمر أشعل الخوف في قلب حكومة “العدالة والتنمية”، فأردوغان كان يراهن على مصالحة حقيقية مع PKK ، واستطاع بمفاوضاته سحب سلاح هذا الحزب من أرضه نحو جبال قنديل. لكنّ الأزمة السورية الحالية قد تحوّل هذا السلاح من جديد نحو السهول الطويلة المجاورة للحدود التركية من الطرف السوري عبر ما يسمى “حكومة كردستان الغربية”.
لذا فإنّ الأتراك باتوا مضطرين إلى تقويض نفوذ حزب الإتحاد الديموقراطي في سوريا، وهذا ما قد يدفعهم إلى دعم التنظيمات الإسلامية لوجستياً وعسكرياً ضد هذا الحزب. لأن دخول الجيش التركي في الأراضي السورية سيكون انتهاكاً دولياً ، وربما لن يباركه “حلف الناتو” في غياب دعم مجلس الأمن، كما أنّ هذا الدخول قد يكون مسبباً لعودة نشاط حزب PKK إلى داخل هضبة الأناضول التركية، وهذا ما لا تريده أنقرة.
إنعكاسات «جنيف2» على الملف الكردي- التركي-العربي
لا يمكن حل القضية الكردية العربية في الشمال السوري من دون تسوية واضحة لشكل النزاع السوري الحالي، وهذا من الصعب تحديده بوضوح من دون التمعن بلوحة الصراع الجيو- سياسي الإقليمية على المنطقة:
– الأتراك والإيرانيون يعارضون قيام حكومات كردية مستقلة مشابهة لإقليم كردستان العراق.
– الإيرانيون متمسكون بحكومة الأسد، بينما الأتراك يسعون للإطاحة به.
– العرب الخليجيون غير مقتنعين بالملف الكردي برمته.
– إسرائيل يواتيها نزاع عربي – كردي، يلهي القوميين العرب عن الملف الفلسطيني.
– المجتمع الدولي يؤمن “بحق تقرير المصير” كبند رئيس في حقوق الإنسان، إلّا أنّه يخشى انعكاس تقرير المصير الكردي على باقي الأقليات في الشمال السوري.
من مجمل النقاط الخمس السابقة، نرى أهمية ما سينجم عن مؤتمر “جنيف2″، فنجاح أو فشل هذا المؤتمر سيعطي إشارات وتغيرات كبيرة نستطيع تصورها، وفق الشكلين التاليين:
ففي حال نجاح المؤتمر، ستظلّ سوريا موحدة، وهذا سينعكس إيجاباً على الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للكرد السورين، وسيجعلهم سواسية مع العرب وفق العرف القومي.
وطبعاً سيساهم هذا الأمر في الإعلاء من شأن حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي، كونه الجناح المسلح الكردي الأقوى، الذي دعم الأكراد السوريين بوجه التحول الإسلامي السياسي لمناطق وجودهم. وهذا قد يحوّل الحزب مستقبلاً لأحد أهم الأحزاب الكردية السياسية، التي تحظى بتمثيل برلماني واسع في الحكومة السورية المقبلة نتيجة الإستقطاب الشعبي الحالي له.
أمّا في حال فشل المؤتمر، فإنّ النزاع العسكري الكردي- الإسلامي سيستمر، ولكنّه سيحمل توجهاً جديداً من حيث المواقع. فالإسلاميون يرون قوتهم الحقيقية في حلب وريفها، لذا قد تتركز هجماتهم على الكرد في هذه المناطق، مما يسبب حركة نزوح كردية من مناطق “تل أبيض، وصولاً إلى قرى عزاز وعفرين” نحو المناطق الكردية الآمنة في الجزيرة السورية (من رأس العين وصولاً لديريك “المالكية”).
وبدورها قوات الحماية الكردية PYD التي تتكون بغالبها من مقاتلي الإتحاد الديموقراطي الكردي، ستستقطب عدداً أكبر من المقاتلين الشبان من الأحزاب الكردية الأخرى ضمن صفوفها، ليشكلوا فريق دفاع عن مناطقهم، مما يعيد بالذاكرة تجربة “البشمركة” في بدايات تشكيل إقليم كردستان العراق.