«الدولة الإسلامية» ومقدمات ابتلاع «جبهة النصرة» ميدانياً
لا يستقيم إيراد الأدلة على خلافات بين منظري السلفية الجهادية حول «جبهة النصرة» والدولة الإسلامية في العراق والشام من دون شواهد تبرهن على وجود الخلاف في العمليات الميدانية.
حتى الآن، تتبع «الدولة الإسلامية» الحد الدنى من مبدأ «حسن الجوار» مع «جبهة النصرة»، وفق شهادات متطابقة لناشطين موجودين قرب الجاريْن الجهاديين.
يحرص الجانبان على عدم جعل الخلاف موضوعاً يتداوله العامّة. في المناطق السكنية المحررة في حلب، لا يلتقي السكان بالكثير من مقاتلي «النصرة» المرابطين على الجبهات، فيما لا توجد الدولة الإسلامية سوى في نقطتي تماس مباشر مع النظام، ولا يوجد فيهما أي قتال. أما بقية القوة البـشرية الهائلة لها فإنها تتمركز في الخطوط الخلفـية المحررة، أو في معـسكرات تـدريب لا تنفذ مهمات قتالية.
ولدى تصفح المواقع المحـسـوبة على هذا التنظيم، فإن من السهولة استنتاج أنه تنظيم لا يأخذ القتال ضد النظام على محمل الجد، فكل عملياته الموثقة بالبيانات هي في العراق، ولا توجد لديه سوى ثلاث عمليات خلال ثلاثة أسابيع بدءاً من اليوم الأول لشهر رمضان، وفق ما نشرته مواقع التنظيم على الإنترنت، اثنتان منها مسجلتان ضد المقاتلين الأكراد في محافظتي الحسكة والرقّة، والثالثة عملية إعدام بالرصاص لرجل من الحسكة قيل إنه قتل «مسلماً». تدارك هذا الشحّ في «الجهاد بالسيف» يتم تعويضه بوضع مقاطع فيديو لعمليات نفذها عناصر من «جبهة النصرة» أو أحرار الشام، إضافة إلى نشر مقاطع فيديو مركّبة تمدح «المجاهدين» ومرفقة بأناشيد دينية.
4 طرق للتمدد
يعتمد جناح البغدادي على أربع طرق لتوسيع نفوذه، أهمها كسب مقاتلي «جبهة النصرة»، والثانية إرسال المقاتلين الجدد من الخارج، وثالثاً احتلال مناطق محررة بالقوة، ورابعاً، كسب البيعة من كتائب وألوية مقاتلة.
شكّلت الطريقة الأولى النواة الصلبة لجناح الدولة الإسلامية في سورية، فبعد دقائق من نشر الجولاني رسالة رفض دمج «جبهة النصرة» في «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في 10 نيسان (أبريل)، قام الكثير من مقاتلي الجولاني بالانضمام إلى «الدولة» تحت قيادة أميرهم «البغدادي».
نسبة الانتقال كانت كارثية على «جبهة النصرة»، وهي مهددة بابتلاع ناعم من «الدولة». هناك من روى من الطرفين أرقاماً تطابقت في أن نسبة تغيير الولاء تصل إلى 80 في المئة في صفوف المقاتلين الأجانب، و50 في المئة من السوريين لمصلحة «الدولة الإسلامية». وهذا ما أربك موقع الجبهة ميدانياً، وخلق إشكالات مع كتائب في الجيش الحر.
وبين أيدينا نموذجان لهذا الإرباك، الأول هو ما حدث في مدينة أعزاز شمال حلب. كان لـ «جبهة النصرة» مكتب دعوي في أعزاز يضم عشرة أشخاص بعد اتفاق مع عمار الداديخي، قائد لواء عاصفة الشمال، وكان شرط السماح بذلك هو أن يكون العشرة غير مسلّحين.
بعد خطاب الجولاني مباشرة برفض الدمج، أعلن هؤلاء ولاءهم للبغدادي، وأصبحوا في حِل من الاتفاق السابق، فقاموا باستقدام حوالى 50 مقاتلاً ممن رفضوا البقاء تحت راية «النصرة» وهم مدججون بالأسلحة، ورفعوا راية «الدولة» على المقر وبدأوا بتطبيق «الشريعة». أرسلت الهيئة الشرعية في حلب كتاباً إلى مسلحي الدولة الإسلامية تطلب فيه إخلاء المدينة فوراً من المظاهر المسلّحة. رفض هذا الطلب فوراً، فلا سلطة للهيئة الشرعية في حلب عليهم، وأقاموا هيئة بالاسم نفسه تابعة لهم، وقاموا بتسيير مظاهرة صغيرة في أعزاز، نصفها من الأطفال، في 5 تموز تمهيداً لإعلان أعزاز جزءاً من الإمارة الأسلامية، وهو أمر لن يتم من دون السيطرة على معبر باب السلامة، إلا أن الهجوم أخفق مبكراً بعد مساندة ألوية الجيش الحر بالدبابات للواء عاصفة الشمال الذي ضعف كثيراً بعد مقتل قائده الداديخي في مطار منغ.
المثل الآخر على تأثير التسرب من النصرة إلى الدولة ذكره أيضاً الشيخ السلفي أبو عبدالرحمن الأثري، وهو إلغاء هجوم كبير في منطقة وادي الضيف بريف إدلب بسبب إصرار مقاتلي النصرة القتال باسم «الدولة الإسلامية»، وهو ما رفضته الفصائل المشاركة مثل «أحرار الشام»، وساهم إلغاء الكثير من العمليات في نجاح النظام في فك الحصار عن المعسكر منتصف نيسان الماضي.
احتلال مناطق
ترابط كتائب صغيرة وفقيرة التسليح في مناطق محررة، فيطلب أحد قادة الدولة الإسلامية اجتماعاً معهم، ويطرح عليهم فكرة تسليم المنطقة لهم. عندما رفض قائد كتيبة ذلك، خلع هذه الأمير سترة كان يرتديها ليرى المفاوضون حزاماً ناسفاً على خاصرته، فوافقوا على الفور. وتكرر هذه الأمر في اجتماع مجلس محلي لبلدة متعددة الهويات في الحسكة، ليخرج الاجتماع بنتائج كتبها صاحب الحزام الناسف.
في مناطق أخـرى مـمن لا تنـفع مـعـهم هذه الأساليب، يكون الاسـتيلاء بـمبـدأ الغلبة، وبهذه الطريقـة اسـتولوا على مقر «جبهة النصرة» (مستشفى الأطفال)، ومبنى البريد في حي الإنـذارات الذي كانت تديره كتيـبة الـصفوة الإسلامية. وأكثر عمليات الاستيلاء غرابة تـلك الـتي شـهـدتـها مـديـنة جـرابلس (شمال شرقي حلب)، فقد انـشق معظـم مقـاتلو الـنصـرة وانضموا إلى دولة العراق الإسلامية، وحـصـلوا عـلى دعـم المجلـس الثـوري في المدينة، وقاموا بفتح مدارس للأطفال لـ «تنشئتهم وفق الشرع»، وأصبحت المدينة المقر الأكثر أمناً لهم ومقصد الجهاديين الجدد الذين لا هم لهم سوى نشر الدعوة بين «السنّة».
الولاء بالبيعة
كسبت الدولة الإسلامية كتائب عدة بطريقة البيعة. في هذه الحالة تبقى الكتيبة كما هي وبقيادتها، لكنها تقاتل تحت راية الدولة الإسلامية بدلاً من راية الجيش الحر أو كتائب إسلامية أخرى، كما حدث مع «جيش المهاجرين» في مطار منغ، وهي خطوة استفادت منها جماعة البغدادي لتقول إنها موجودة على «الجبهات». وفي 28 تموز (يوليو)، نشرت منتديات جهادية موالية للبغدادي «بشرى سارّة» بمبايعة كتيبتين للدولة الإسلامية، وهما تجمع الأقصى (450 مقاتلاً من بينهم 300 تركي) وكتيبة أنصار الشريعة التابعة لأحرار الشام.
ولكن، كيف نفسر وجود عمليات مشتركة بين «الدولة» و «النصرة» طالما أن هناك تنافساً بينهما؟ الإجابة تكمن في السؤال نفسه، وهو التنافس، كما يحدث حالياً على جبهة القتال ضد الأكراد، حيث تحرص الدولة الإسلامية على عدم قيام النصرة بعمليات منفردة لكي لا يسجّل الانتصار باسمها، كذلك تفعل كتائب إسلامية مثل «أحرار الشام» عندما يدخلون إلى جبهات غير حاسمة مثل الحسكة إلى جانب الدولة الإسلامية لكي لا ينفردوا بإدارة المنطقة لوحدهم.
«الخوارج» و«الصحوات»
ينقل ناشطون باستغراب كيف أن الكثير من مقاتلي الدولة الإسلامية يصفون «النصرة» بـ «الخوارج»، والموالين لـ «الصحوات». وهذه واحدة من أوجه الخلاف المعقدة بينهما، فنتيجة ميراث الدولة الإسلامية في معارك العراق والمرارة التي يكنّونها تجاه «صحوات العراق» التي أنهكتهم في المناطق السنّية، فإن لا شيء يقنعهم أن الجيش الحر ليس نسخة سورية من «الصحوات»، لأنهم «مرتدّون يمارسون التقيّة»، فيما ترى النصرة أن الجيش الحر في غالبيته مجاهدون يحتاجون إلى القليل من الرعاية والتوجيه ليكونوا دعاة للحكم الإسلامي.
وهناك رسالتان تتناولان في شكل مبطّن ما ورد من اختلاف الرؤية بين جناحي القاعدة بالنسبة للجيش الحر. الرسالة الأولى للجولاني، حيث أشار في كلمة صوتية (21 تموز 2013) مرات عدة إلى «الحركات الجهادية في أرض الشام» من دون تخصيص، ونبّه إلى أن المجتمع في سورية «يمر بمرحلة مخاض لولادة جديدة، وهو مجتمع يمتلك من الفطرة السليمة والقيم ما يدفعه لقبول الدعوات السنّية الشرعية بعيداً من الشدّة والتشنج». والتعبير الأخير (الشدة والتشنج) بالتأكيد ليس موجهاً إلى سليم إدريس، رئيس أركان الجيش الحر، ولا رياض الأسعد، بل إلى البغدادي. والخطاب موظف أيضاً لإيقاف «الحملة الشفهية» على الجولاني، ومنها الترويج أنه يريد نظاماً برلمانياً لإرضاء الغرب، وهذه تهمة لا تقال إلا لمن يجدونه «منحرفاً عن شرع الله»، الأمر الذي أجبر الجولاني على الكشف أكثر عن هوية الجبهة وما تقاتل في سبيله عندما أعلن عن رفض أي عملية سياسية تفضي إلى نظام برلماني، لكنه حرص على استخدام ألفاظ تحمل أكثر من وجه، مثل السعي «لإقامة حكم إسلامي راشدٍ» من دون أن يأتي على ذكر الخلافة أو الدولة الإسلامية.
هناك إشكالية يقع فيها الإعلاميون أو حتى بعض من يتعرضون للملاحقات، فلا يكون التمييز بين «النصرة» و «الدولة» مهماً، وكثيراً ما يستخدم اسم الأولى لوصف انتهاكات قامت بها الثانية. لكن، إن كان هذا القصور في التمييز مصدره الناقل، فإن هناك رايات للنصرة ترافق مقاتلين ليسوا منها، ونوه الجولاني إلى ذلك عندما جاء على ذكر الانتهاكات في الرقّة باسم النصرة، قائلاً إن «هناك ممَّنْ يَحْمِلُون رايتنا بقصد التعاطف أو قصد الإساءة وهم غير منتمين لنا».
رسائل مبطّنة
في خطاب يصلح ليكون رداً على كل ما ورد أعلاه (21 تموز الماضي)، نفى أبو محمد العدناني، المتحدث باسم الدولة الإسلامية، اعتبار الدولة من لا يبايعها من الفصائل المقاتلة «صحوات». ولم يخلُ الخطاب من رسائل مبطّنة إلى النصرة عندما اعتبر أنهم يواجهون ثلاثة خصوم، الكفار، و «المرتدون من بني جلدتنا»، وأهل الأهواء والبدع وحتى «بعض من يحسب على المجاهدين»، وما يرجح أن المقصود هو الجولاني ذكره لمقولة: «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة». لكن الأخطر هو دعوة العدناني، الذي يعتبر من صقور «الدولة» تجاه الجولاني، قادة وجنود الفصائل المقاتلة إلى الالتحاق بمشروع الدولة، وهذا يشمل بالتأكيد مقاتلي النصرة، كما يشملها أيضاً مقصد العدناني في القول بتورط فصائل تسعى لإقامة دولة إسلامية بمشروع إقامة «دولة وطنية تسمى إسلامية وتخضع للطواغيت»، ذلك أن القوى الموالية للائتلاف، مثل أركان الجيش الحر، أمرها منتهٍ بالنسبة للدولة، لأن الائتلاف يدعو إلى دولة مدنية تدعمها «ملّة الكفر».
خسارة النصرة هويّتها
خلال مفــــاوضــات «الهيـــئة الشرعية» الموالية لـ «جبهة النصرة» مع كتائب غرباء الشام حول اتهامات بالقتل والسرقة، تهكّم أمير الدولة في حي الصاخور على الأسلوب غير الجهادي في التعامل مع «حسن جزرة»، لأن الحل الأنسب هو تفجير شاحنة مفخخة في نقطة تجمعهم، ومن يُقتل من المدنيين الأبرياء يكون الله اصطفاه من بين عباده. وروى الجهادي كيف أنهم فجروا سيارة مفخخة في سوق ببغداد تبيّن في ما بعد أنها للسنّة، «في هذه الحال يكون الله قد اصطفاهم».
وبما أن هذا الأسلوب هو أكثر جذباً للجهاديين، فإن النصرة بدأت هي الأخرى بتنفيذ مثل هذه العمليات في مناطق مدنية، كما جرى في تل أبيض وريف دير الزور، في محاولة لمجاراة «الدولة». هكذا، تتحول «جبهة النصرة» التي كانت صاحبة رؤية واستراتيجية محكمة في بداية ظهورها، تتوسل اللين في التعامل مع «التدين السطحي» لأهل السنّة بغية كسبهم، إلى نسخة من الدولة الإسلامية في بعض المناطق البعيدة عن النظام، فيما لا تزال محافظة على تمايز أسلوبها في مناطق التماس كما قرب المناطق المحيطة بالقواعد العسكرية للنظام في ريف إدلب. وتبدو ورطة النصرة ثقيلة في موقعها الحالي على رغم أن هدفها النهائي لا يختلف عن هدف الدولة الإسلامية، والفارق يكمن فقط في المدى الزمني لتحقيقه. وهي إما أن تنهل من السياسة مع ما يحمله ذلك من ضرورات «التقيّة» المرحلية، فتكون بذلك ممن خرجوا عن جادة الجهاد في نظر الدولة الإسلامية، أو أن تقوم بتقليد سلوكيات «الدولة» لحماية نفسها منها، وتخسر بذلك استـراتـيـجـيـتـها وخـصـوصـيـتـها وحلفاءها المحليين، وتصبح تنظيماً مكشوف الوجه – وربما الظهر- وبلا سياسة.
وإذا كانت الدولة الإسلامية تؤمن – بحكم ميراثها المرّ في العراق – بأن حكم الشرع يجب أن يتم فرضه من الأعلى، فإن «النصرة» ترى أنه يجب إعطاء المجتمع فرصته ليكون بنفسه داعية لهذا النمط من الحكم بناء على نشاط دعوي مكثف. على الأقل هكذا كانت تفكر النصرة في بدايات ظهورها. كما أن البغدادي لا يرى في بقاء النظام عائقاً أمام إعلان «الدولة الإسلامية» وتطبيق الأحكام الشرعية، لذلك لا يأخذ قتال النظام محمل الجد، فهي موجودة به أو من دونه، فيما تلتزم «النصرة» بأن يكون مشروعها رهناً بسقوط النظام، أو تحرص على الظهور في هذا الشكل.
من الواضح أن الأمور لا تسير باتجاه اندماج بين «النصرة» و «الدولة»، بل إلى مزيد من التباعد ربما يصل إلى الانفصال النهائي والصدام، وخروج أحدهما من مدرسة «الجهاد العالمي» الذي يرعاه الظواهري، أو انهيار هذه المدرسة بطابعها الحالي طالما أن جمهور الجهاديين يشارك بقوة في هذا الانقسام.
(المصدر: الحياة)