التطرّف ومسيحيّو المشرق
بقلم: عصام خوري
لا يستطيع المرء الّا أن يتوقف أمام تصريح رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، قبل أشهر، بأنّ «الدولة الإسلامية للعراق والشام هي خطر علينا نحن المسلمين المعتدلين قبل أن تكون خطراً على المسيحيين والاقليات».
نعم، تفجّر الوضع السوري وغياب حلول ناجعة تُنهي الصراع العسكري، جعلا من الأرض السورية مسرحاً للجهاديين وأرضاً لتدريبهم، فتنامَت قوة تنظيم الدولة الاسلامية للعراق والشام “داعش” وتنظيم “جبهة النصرة لأهل الشام” على حساب التنظيمات التابعة للجيش السوري الحرّ، وهذا مردّه غياب قنوات الدعم المستمرة لهذا الجيش، ما دفع عدداً كبيراً من مقاتليه إلى الانضمام للاطراف الجهادية الراديكالية المتطرفة، كونها الوحيدة التي تمتلك موارد دائمة.
والسؤال اليوم هل هذه التنظيمات هي الممثل الحقيقي للمشروع الاسلامي في سوريا؟ هذا البلد المتعدد الطوائف والقوميات والغنيّ بالمدارس الصوفية الاسلامية، هذا البلد الذي يشكّل المذهب الشافعي غالبية المجتمع السنّي فيه.
سوريا لم تكن يوماً أرضاً للتطرف، ويشهد مقاتلو الجيش الحرّ أنّهم اصطدموا مع جهاديّ تونسيّ في قرية القصب من ريف اللاذقية عندما نزع الصلبان عن كنيستها عام 2011، وسَعوا الى أن يعلّقوا الصليب بمختلف الطرق.
نعم المقاتلون السوريون السنّة يعرفون العادات المسيحية حق المعرفة، وأوّل مَن ساعد سنّة النبك خلال الثورة السورية كان الراهب اليسوعي الايطالي باولو، ما دفع النظام السوري إلى نَفيه خارج سوريا، ولكنّه استمر في النضال لدعم الحركة الثورية السورية، مستنداً إلى قيَم السيّد المسيح التي تنادي بالعدالة والمساواة ورفع الظلم عن المستضعف. وعندما زار أمراء “داعش” في محافظة الرقة، احتجزوه لأنّهم يرفضون هم أيضاً الحرية… من هنا ندرك انّ بين “داعش” والنظام السوري قاسم مشترك، وهو إقصاء صوت الحق والعقل.
قبل فترة تمّ دخول مدينة معلولا، وكان الدخول، وفق رأي هيئة أركان الجيش الحرّ، غير مبرّر. فهذه المدينة في أعلى الجبال وبعيدة عن أيّ خط استرتيجي هام، ولكنّ “جبهة النصرة” دخلت المدينة واشتبكت مع النظام. وللأسف، استغلّ النظام هذا الدخول بشكل يخدمه. فتمّ تظهير الحدث أمام الاعلام العالمي على أنّه هجوم سنّي على المسيحيين، وانّ نظام الأسد هو وحده مَن يدافع عنهم.
ولكنّ رئيسة الراهبات في دير معلولا قالت عكس ذلك، فتنظيم “جبهة النصرة” لم يدهم الدير ولم يضرب المختبئين فيه، لا بل على العكس كان يؤمّن الخبز حتى أطبق النظام الحصار على المدينة، فاضطر مقاتلوه للانسحاب. طبعاً، الراهبة لم تكن سعيدة بتنظيم “جبهة النصرة”، فالرسالة المسيحية تدعو إلى نبذ العنف.
اليوم أيضاً، وضمن معارك القلمون، تعود معلولا إلى دائرة الضوء، حيث سيطر مقاتلو المعارضة على البلدة، وأكثرَ النظام من القصف عليها. واليوم يعود السؤال: لماذا معلولا يا طرفَي النزاع؟ هل معلولا رسالة للكنيسة الشرقية مفادها أنّه عليك الرحيل من أرضك؟
يخطأ من يظنّ انّ الارض ترفض الجذور، فالجذر يعود طالما هناك ماء، ومسيحيّو المشرق الابطال اليوم هم امتداد لأجيال عانوا الظلم والاضطهاد والجزية، ولكنهم استمروا يحملون رسالة تراثهم.
أمّا التونسيون والليبيون والسعوديون الغرباء في التنظيمات الجهادية فهم معذورون لأنهم لم يعرفوا في أرضهم وجوداً لغير المسلمين ولم يتشاركوا مع المسيحيين الأفراح والأتراح. لذا، فإنّ مبادراتهم القتالية والجهادية لا تعرف الواقع، وربما ترفض الواقع. أمّا ابن الارض السورية المسلم فهو يدرك تماماً أنّ جمال بلده يكمن في تنوّعه، لذا لا خوف على الاقليات في الشرق، لأنّ الاكثرية العاقلة هي مَن ستحارب التطرف.
ومَن يعرف التاريخ الحقيقي للشرق المسيحي يعرف انّ المسيحيين هم من تصدّوا أوّل الامر للغزاة الصليبيين في القسطنطينية ثم في انطاكيا، وعندما عجزوا عن دحر جحافل الصليبيين استعانوا بالدولة الزنكية المسلمة، وكانت معركة حطين بقيادة الناصر صلاح الدين الايوبي التي قاتل فيها المسيحيون المشرقيون جنباً الى جنب مع المسلمين ودحروا جيش الصليبيين.
النظام السوري لم يدافع يوماً عن القرى المسيحية، وأكبر تأكيد على هذا الامر هروب جيشه من دون مقاومة تُذكر من قرى ادلب المسيحية. وبعد هروبه بدأ بدَكّ هذه القرى بالصواريخ والمدفعية والبراميل، متذرعاً بوجود جهاديين فيها، ما يدفع أيّ عاقل الى التساؤل: “هل القذيفة العشوائية تصيب الجهاديّ أم تصيب البيت المسيحي في هذه القرى؟”
في سوريا وجعٌ جامع يصيب كل الاطياف الدينية والعرقية، والخطر المستمر اليوم هو من نظام لا يفهم الّا لغة النار، ومن جهاديين يجهلون عمق التراث المشرقي.
ولكن علينا الابتسام دائماً، فلا خوف على مسيحيي الشرق، طالما صَوت فيروز هو غذاء روح كلّ مسلم سوري في الصباح، وهذا المسلم السوري متمسّك بفيروز كما هو متمسّك بدينه وتراثه وبالقدود الحلبية التي يرقص عليها في الحفلات كلها… والتاريخ دائماً سيسير إلى الامام.