قبـّـة خضــراء نديّــــة
قلت له : قد يكتشفون دواءً جديداً يشفيها .
قال : مستحيل، إنها ميتة منذ خمسة عشر عاماً .
وأمام لهجة اليقين في كلامه عن الموت، شعرتُُ برغبة في بثّّ شئ من الحياة، قلتُُ : الله أعلم هناك معجزات في هذه الحياة، قد تعيش الشجرة ثانية .
ابتسم مستخفاً بكلامي و قال بلهجة قطعية : هذا مستحيل، فبعد الموت لا توجد حياة . أصررتُُ على المضي في أوهام الأمل : قلبي يحدثني أنها ستعيش .
كنتُ أتأمل الشجرة البائسة وسط بحر الخضار حولها، كم كانت مُهانة و مكسورة الخاطر مثلي، تنبهتُ فجأة أن حديثنا عن الشجرة ينطبق تماماً على علاقتنا، إذ أن مشاعره تجاهي انطفأت أما مشاعري نحوه فلا تزال دافئة و جسدي يتوق للمساته كتوق الأوراق الخضراء اللماعة لأشعة الشمس .
كنا نسير متجاورين يفصلنا شرخ من الهواء العازل و كنتُُ أتعمد أن ألامسه بطريقة تبدو عفوية و أشعر كم هو حذر من لمسي، كان جسده يعطيني إشارات خفية أشبه بذبذبات كهربائية ألا ألمسه، و كنتُ أتأمل بحزن أقرب للقنوط كيف تموت علاقتي به، فجأة صار موغلاً في عزلته في ألمه الخاص، غرق به و لم يشأ أن أشاركه إياه، كنت أفكر إن كان الألم يجعل الإنسان وحيداً أم أن بعض الناس يفضلون العزلة حين يمرضون .
قلتُُ له لأني ما عدت أحتمل ثقل الصمت بيننا : أتعرف أحب أن أسمي هذا الشارع شارع العشاق .
تعمدت أن أصمت كي يسألني لماذا ؟ فلم يكترث بكلامي، فتابعت : لأن الأغصان تتعانق فوقه مشكلة قبة .
لم يُعلّق، و لم يبدُ عليه أي اكتراث لكلامي، منذ إصابته بالسرطان صار يتعمد أن يشعرني أني تافهة، تنبهتُ كم غدا منغلقاً على نفسه و كم أنه يقصيني عن حياته رغم أني أعيش معه تحت سقف واحد .
وجدتني أعمل مقارنة بين جمال البدايات و بشاعة النهايات، لم أكن أفكر به تحديداً بل بتلك اللحظات الجميلة في الحياة تلك اللحظات التي تبدأ فيها المشاعر بالانجذاب و الأفكار بالتلاقي و العينان بالالتماع، ياه اكتشفت لأول مرة أنه لم يعد يحبني من نظرته من انطفاء ذلك اللمعان الدافئ في عينيه، كم صارت عيناه غريبتان، آمنتُ بصحة ذلك القول العينان مرآة النفس، استدار ليعود إلى المنزل دون أن يسألني رأيي .
منذ إصابته بالسرطان و عراكه مع الآلام و الأدوية التي تهينه بتأثيراتها أكثر من الألم ذاته، ما عاد يشركني بشيء، يعيش متوحداً مع آلامه، يرفض أن أناقشه بأسلوبه الخاطئ في التعامل مع الألم، ينظر إلي بقسوة هائلة لدرجة تنهار مقاومتي فانفجر بالبكاء فيتركني لدموعي و يخرج من الغرفة … لم يكن سهلاً علي تقبل الواقع الجديد فقد جمعني به حب لم يعرف الفتور طوال عشرين عاماً، كنا نقدم مثالاً حياً لزواج ناجح، و كم كنتُُ سعيدة أني لا أزال أحرك أشواق رجل كلما اقترب مني يشعرني كأنه يقبلني للمرة الأولى بالشهوة الطازجة ذاتها و الحنان العميق المختزن في روحه … كانت صدمة قاسية يوم اكتشف طبيبه إصابته بسرطان البروستات خاصة أن المرض الخبيث قد انتقل للدم و العظام … تلقى الكارثة بكبرياء، لم يعلق بكلمة واحدة و رفض حناني منذ اللحظات الأولى و قابل رقتي و حبي بازدراء، كم كان صعباً علي أن أراقب قساوة نفسه و أقارنها مع رقته فيما مضى، فأجلس لساعات أتذكر دفء علاقتي معه كما لو أنني أستعيد حلماً، كم من المرات انفجرت باكية و أنا أخلع ملابسي كان يحب أن يتأملني و أنا أنزع ثيابي يقول إنه يحس بإثارة و يشعر
كم أنه لا يزال يشتهيني بعد مرضه ما عاد جسدي يعني له شيئاً، إذا جلستُ بجانبه و لامسته أشعر كما لو أني امرأة من حجر و صارت صوره و هو يحبني و يقترب مني تتراءى أمامي دوماً و توجع كل خلية في جسدي … أصررتُ أن أعيد الدفء للعلاقة بيننا، لم يعد يعنيني أن علاقتنا الجنسية انتهت تماماً بحكم الأدوية و الجراحة التي تعرض لها، فلتبق علاقة الروح .
الحب هو توق في الأساس، توق عميق يزلزل الوجدان و الكيان، و يدفع العاشق باتجاه المعشوق، فلماذا يتهرب مني و ينكفئ على آلامه ؟!.. كنت أحاول أن أجد له أعذاراً فهو رجل فذ ناجح و ذو مكانة اجتماعية مرموقة و إحساسه بكرامته عالٍ، لكني زوجته و حبيبته فلم يقصيني عن حياته بتلك القسوة الوحشية ؟
قررت أن أتعبدّ له، تضاعف حبي له أضعافاً كثيرة، اكتشفت أنه ليس من حب أعظم من حب إنسان مريض و متألم، كنت أتملقه بصمت و صبر بانتباهي الشديد لكل حركة يقوم بها، بإحساسي العميق به أحضر له ماء قبل لحظة من إحساسه بالعطش أحفظ مواعيد أدويته أكثر منه و أستيقظ من عز نومي في اللحظة التي يتسلل القلق إلى جفونه، لم يعد يطيق هذا الحنان الذي أظهره له فيقابلني بازدراء، و كثيراً ما يطلب مني الخروج من الغرفة، ثم لم يعد يكلمني إلا نادراً و يعذبني بقلة كلامه، إذ صار يستعمل الإيماء و الإشارة معي كي يعذبني بصمته أكثر، كنت أخجل من حاجتي الماسة للمساته و قبلاته و كثيراً ما كنت أتجاوز كرامتي و صبري فأقترب منه شبه عارية أطلب إليه أن يلمسني، فكان ينظر إلي ببرود ساخر يجعل جسدي يقشعر، فأسرع لارتداء ثيابي مبللة بالعار كما لو أنني عارية أمام غرباء .
في لحظات نادرة و تزداد تباعداً كان يعود رقيقاً معي فيلبي اقتراحاتي بأن نجلس في مقهى أو نتعشى في مطعم، كنت أشعر به كيف يتفرج على الناس بسكون تام و بنظرة ثابتة باردة لا تحيد عن التفرج على مظاهر الحياة حوله، و ثمة جرح هائل في روحه … أحياناً كنت أضطر للدخول إلى الحمام أذرف دموع قهر فاضت به روحي و أكتم شهقات احتجاج تجاه قدر وحشي .
اكتشفتُ أن المرأة العاشقة قدسية، فأنا أزداد حباً له رغم أنه يتجنبني كما لو كنت وباء، كم كان صعباً العيش مع رجل منهمك بآلامه الخاصة، اكتشفت أني كل صباح ألبس شخصية خاصة قوامها الصبر و التحمّل، كل صباح أجدد مؤنتي من الصبر و أصلي لإله طال امتحانه لي أن يجعل قلبه رقيقاً … رجل حياتي يتجنبني، يتناول طعامه وحيداً، يعد لنفسه الشاي دون أن يسألني إن كنت أرغب بقليل من الشاي ؟!.. استسلم لزمنه بدون اكتراث، وصرت أشعر أن من واجبي الاعتذار له كل صباح لأنني بصحة جيدة، كنتُ أخجل من مظاهر العافية و النضارة في جسدي، فلم أعد أتجمّل و أتظاهر بالتعب و أشتهي المرض، عساني أتوحد من جديد حين ينكسر جسدي .
كنا نعيش في منزل جميل من طابقين، بعد مرضه صرت أكره البيت الذي جمعنا عشرين عاماً و تمنيت لو كان من طابق واحد، لأنه صار يهرب مني فإذا كنت في الطابق العلوي هرب إلى الطابق الأول، ذات يوم تجرأت و بكيت و صرخت أمامه أنه لا يحق له الانتقام مني، و بأنني أحبه و أرغب أن أخفف آلامه، فأذهلني رد فعله، قال أنه لا يطيق حناني و لا شفقتي، و بأنني إذا كررتُُ هذا الموقف فالطلاق هو الحل الوحيد بيننا ….
عيشي بجانبي كظل، هذا ما يريده و إياك أن تنظري في عيني، كم صار بارعاً في التهرب من تلاقي نظراتنا و في اللحظات النادرة التي تتقاطع فيها نظراتنا كنا نرتعش شاعراً كل منا بطريقته الخاصة أننا أمام نهاية مرة، نهاية حب عاش طويلاً و نهاية حياة أيضاً، كنا نشعر أننا لسنا سوى دمى في يد قدر يملك سلطة مطلقة علينا … في قاع نظرته أقرأ إحساسه الأليم بأن كل لحظات حياته مشدودة بانتظار الموت … لكن كم أكتم صراخاً أخرس ( دعني أحبك ما تبقى من عمرنا …) .
كنتُ أمشي بجانبه على إيقاع خطواته، منصته بانتباه تام لوقع مشيته الذي صار يملؤني قلقاً … فجأة و من غير توقع هبّت ريح قوية ريح خضت الأشجار فرقصت الأغصان بقوة و فاحت رائحة أخاذة، رائحة شهوة، شهوة الأم للطبيعة صوت الريح جعلني فجأة أحس
بافتتان و فجر في أعماقي طاقات هائلة من التوق للحب و الحياة، تمنيت لو آخذه بين ذراعي أشبعه قبلاً و أغسل جسده بدموعي عساها تشفيه من السرطان … لكني لم أجرؤ على لمسه، فأغرتني الريح أن أتبعها، وجدتني أفلت ذراعه النحيلة التي أتأبطها و أستأذنه بصوت تخنقه الدموع أن أركض … لا أعرف إن كانت قدمي تلامسان الأرض أم كنت أطير … لكن الريح حملتني بعيداً بعيداً حتى لامستُ قبة خضراء ندية مسحت وجهي المتعب بنسغ الحياة .