ثقافة الإذلال
بقلم: د.هيفاء بيطار
تاريخ المقال: 30-01-2015
يبدو أن الإنسان في مُنتصف العمر يرغب غريزياً وعفوياً بإعادة إنتاج ذاكرته وما عاشه، خاصة أن الكثير من الأحداث التي عشناها لم تأخذ حقها – في وقتها – من الفهم العميق والدلالات، وتحضرني ذكريات عشتها مع أبناء جيلي من السوريين، لم نكن وقتها ندرك فظاعتها وخطورتها ودلالاتها.
كنا في المرحلة الإعدادية براعم مُتفتحة للحياة، نقرأ لجرجي زيدان وتوفيق الحكيم وبلزاك ونجيب محفوظ، وكنا نستمع لأغاني فيروز وعبد الحليم حافظ، ونطلب أغاني من راديو مونتي كارلو ونهدي الأغاني لأشخاص نُشفر أسماءهم خجلاً، في الوقت ذاته كانت مادة الفتوة والتربية القومية تصفعنا بنموذج مُناقض تماماً لروح الثقافة والفن اللذين نحاول أن ننمو من خلالهما، كنا ندرس في مادة الفتوة والتربية القومية أجزاء الكلاشنيكوف، ولا أزال أذكر بعض الكلمات مثل السبطانه، وكُنا نُصحب إلى جلسات للرمي، ونفك البارودة ونحفظ كل جزء منها، وأذكر حالة الرعب والغثيان التي كانت تصيبني وأنا مراهقة في الرابعة عشرة من عمري أحمل البارودة الثقيلة على كتفي لأرمي هدفاً! وخلفي طابور من صديقاتي ينتظرن دورهن. كانت مُدربة الفتوة نموذج الاستبداد الحقيقي، فخلال تحية العلم الصباحية حين كنا نتجمع في باحة المدرسة مئات من الطالبات (الأمر نفسه في مدارس الذكور وفي سوريا كلها) كانت المدربة تمسك مكبر الصوت وتصرخ حتى تكاد حبال حنجرتها تتمزق: أهدافنا، فنرد جميعاً: وحدة، حرية، إشتراكية. فتصرخ بنا أقوى يا حيوانه. ولم نكن نفهم وقتها لماذا تُصر أن تنادينا بالحيوانه، فنحن لسنا حيوانات ولم نرتكب المعاصي، وكنا نحترم أساتذتنا ونقدس العلم والمدرسة، ولا أزال أذكر العقوبات القاسية الشديدة التي كانت تُخضعنا لها من الزحف على طول الباحة، إلى الركوع لساعات وأصابع يدينا مُتشابكة فوق رؤوسنا، إلى وضع رأسنا تحت صنبور الماء البارد، إلى استعمال شتى أنواع الشتائم المهينة: بقرة، حيوانه، حمارة، الخ.
كانت غاية مُدربة الفتوة إذلالنا وسحق كرامتنا، كما لو أن العنوان الحقيقي لمادة الفتوة: مادة الذل، وإذا كانت اليابان في ذلك الوقت – ولا تزال – تدرِّس طلابها مادة حب الحياة وتقديسها، فنحن في سوريا درسونا مادة سحق الكرامة وعزة النفس والإرهاب، كُنا نتقصف رُعباً لمجرد أن نلمح مدربة الفتوة، بل إن إحدى صديقاتي قالت لي إنها تخاف حتى من أولادها!
تنسحب ذاكرتي إلى المرحلة الجامعية ثم عملي كطبيبة عيون في المشفى الوطني في اللاذقية، كنا نُؤمر أن نسير في مسيرات في مناسبات عديدة خاصة ثورة الثامن من آذار، والمسيرة بمناسبة الحركة التصحيحية، وكانت شلة من أطباء المُخابرات يحيطون بموكب المسيرة ليسجلوا اسم من يهرب، أو من تجرأ ولم يحضر حتى ولو كان على فراش الموت، ولا يُمكن أن أنسى تلك المهزلة، حين كنا ذات عام أظن 1989 نسير في مسيرة 8 آذار والتلفزيون السوري يصور الحشد وكل طبيب وممرضة يحمل زهرة من ورق ملون، وكان منظرنا البانورامي قطيعاً من البهاليل وليس من الأطباء، في ذلك اليوم انهمر مطر غزير، وذابت ألوان الزهرة الورقية وصبغت أيدينا ولوثت ملابسنا، ولم تستطع عدسة المصور التلفزيوني إظهار صور واضحة للمسيرة، فأُمرنا في اليوم التالي بإعادة المسيرة! وكنت أعود إلى البيت بحالة اختناق وأحاول أن أخفف من اختناقي وإحساسي بالذل بأن أشعل التلفاز فتصفعني صورتنا في المسيرة التي يبثها كاملة التلفزيون العربي السوري، فأشعر أنني أتمنى الهروب من جلدي.
عدا الاحتفالات التي كانت تُقام في المشفى في تلك المناسبات إذ يحضر مدير الصحة ومدير المشفى وكل المسؤولين، ويتحلق الأطباء والممرضات في ساحة المشفى، وعلى وقع أنغام تسبب الصمم لطبل عملاق يضرب عليه شاب تحسه مصاباً بالهستيريا لأنه مُطالب بأعلى ضجيج ممكن، كانت الممرضات وبعض الأطباء وحتى المدراء يشاركون في الدبكة، فأتذكر رواية بجعات برية ليونغ تشانغ حين وصفت ما أسمته: رقصات الولاء الإلزامية، وذات مرة شارك المرضى أنفسهم في الدبكة، فقلت هامسه لصديقتي: ما دام مرضى القلب وغيرهم يدبكون فلماذا هم في المشفى! هذا يعني أنهم تعافوا! وسمعني أحد المسؤولين وهددني بعقوبة. كان منظر المرضى ببيجاماتهم المهترئة والشحَّاطات من أرخص أنواع البلاستيك وهم يدبكون يثير أقسى أنواع الشفقة والإحباط.
أستعيد أو أعيد إنتاج تلك الذكريات ليس بهدف التسلية، ولا لتزجية الوقت، وليست غايتي فضائحية على الإطلاق، لكن لأبين تلك الصلة الوثيقة بين الحاضر والماضي، فالمواطن السوري الذي لم يشعر بكرامته قط طوال عقود هو ما جعله يصرخ مُطالباً بالحرية والكرامة، لقد تربينا على ثقافة الإذلال وعلى أن يصير اسمنا الحيوانه والبقرة والحمارة، كما لو أن وظيفة مدربة الفتوة سحق كرامتنا وإذلالنا لنتحول من إنسان يتباهى بكرامته إلى قطيع. ولا أزال أتألم حين طبعت روايتي امرأة من طابقين في سوريا كطبعة أولى، وكنت قد كتبت صفحات عن مدربة الفتوة وكيف تتعامل مع الطالبات، (على لسان نازك بطلة الرواية) واعتقدت أن الرقيب في وزارة الإعلام سوف يحذف لي صفحات جريئة في وصف العلاقة العاطفية والجنسية بين بطلة الرواية والكاتب العجوز، لكنني فوجئت أنه لم يحذف هذه الصفحات، ولم يحذف حرفاً منها! لكنه حذف كل الصفحات المُتعلقة بمدربة الفتوة! وحين أصررت أن أعرف السبب قال لي بأن مدربات الفتوة يُمثلن حزب البعث.
هل من تعبير أكثر دقة من ثقافة الإذلال؟ نوروني.
(المصدر: السفير)